الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: شروط إقامة الحد
الحدود عند الفقهاء على قسمين:
الأول: قسم مجمع عليه أنه حد، وهذا يشمل حد الزنا، والسرقة، والحرابة، والقذف.
الثاني: قسم مُختلف فيه، وهذا يشمل البغي، وشرب الخمر، والردة، ولكل حد شروط تخصه، وفي بعض تلك الشروط خلاف بين أهل العلم، لكن المراد هنا هو بيان شروط إقامة الحد فيما يتعلق بمن يقام عليه الحد، ويمكن إجمال ذلك في أربعة شروط هي كما يلي:
الشرط الأول: التكليف:
والمراد به أن يكون من وجب عليه الحد عاقلًا بالغًا، وهذا الشرط محل إجماع بين أهل العلم، كما حكاه الشافعي (1)، وابن حزم (2)، وابن عبد البر (3)، وابن قدامة (4)، وغيرهم (5).
الشرط الثاني: الاختيار:
فإن كان من يجب عليه الحد فعل ما فعله مُكرهًا فلا حد عليه، وهذه المسألة محل خلاف بين الفقهاء على قولين:
القول الأول: أن الاختيار شرط لإقامة الحد. وهو قول جمهور أهل العلم من الحنفية (6)، . . .
(1) انظر: الأم (7/ 191).
(2)
انظر: المحلى (11/ 250).
(3)
انظر: التمهيد (23/ 120).
(4)
انظر: المغني (9/ 61).
(5)
انظر: شرح النووي (11/ 193)، الشرح الكبير (10/ 119)، وسيأتي بيان المسألة مفصلة بأدلتها، مع نصوص من نقل الإجماع في المسألة رقم 34 بعنوان:"البلوغ شرط لوجوب الحدود"، والمسألة رقم 35:"العقل شرط لوجوب الحدود".
(6)
انظر: المبسوط (9/ 95)، بدائع الصنائع (7/ 180)، تبيين الحقائق (3/ 158).
إلا أن أبا حنيفة يخص الإكراه بالسلطان، فإن كان المكرِه غير السلطان فإنه يقام عليه الحد، وخالفه صاحباه فذهبا إلى أن الإكراه عام في السلطان وغيره.
والمالكية (1)، والشافعية (2)، ورواية عند الحنابلة (3)، اختارها ابن قدامة (4)، وبه قال الظاهرية (5)، وابن المنذر (6) واستدل أصحاب هذا القول بما يلي:
الدليل الأول: قال تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} (7).
• وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى لم يؤاخذ من كفر مُكرهًا، وهو أعظم الذنوب، فغيره من المعاصي من باب أولى (8).
الدليل الثاني: عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن اللَّه تجاوز عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه)(9).
(1) انظر: شرح حدود ابن عرفة لابن الرصاع (497)، التاج والإكليل لمختصر خليل (8/ 393).
(2)
انظر: الحاوي الكبير (13/ 408)، أسنى المطالب (4/ 127).
(3)
انظر: المغني (9/ 57)، الفروع (6/ 75)، الإنصاف (10/ 182).
(4)
انظر: المغني (9/ 57).
(5)
انظر: المحلى (7/ 204 - 205).
(6)
انظر: المغني (9/ 57).
(7)
سورة النحل، آية (106).
(8)
انظر: طرح التثريب (2/ 118).
(9)
أخرجه ابن ماجه رقم (2045)، وله شاهد عند ابن حبان (16/ 202) والدارقطني (4/ 170)، من طريق الأوزاعي، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن رجب في "جامع العلوم والحكم"(372)"وهذا إسناد صحيح في ظاهر الأمر، ورواته كلهم محتج بهم في "الصحيحين".
إلا أن الحديث جاء من طرق أخرى مرسلة، كما قال الإمام أحمد في "العلل ومعرفة الرجال" (1/ 561):"ليس يروى فيه إلا عن الحسن، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا".
والحاصل: أن الحديث جاء موصولًا عن عبد اللَّه بن عباس، وأبي ذر، وأبي بكرة، وعقبة بن عامر، وابن عمر، وثوبان، وأبي الدرداء، وأم الدرداء رضي الله عنهم.
وجاء مرسلًا عن الحسن البصري، والشعبي، وعطاء، وعبيد بن عمير، وقتادة.
ولا يخلو كل إسناد من علة، ولذا اختلف أهل العلم في تصحيحه وتضعيفه: فضعفه جماعة من المحققين، منهم أبو حاتم حيث قال:"هذه أحاديث منكرة، كأنها موضوعة. . . ولا يصح هذا الحديث، ولا يثبت إسناده". =
• وجه الدلالة: الحديث صريح في رفع الحرج عن المُكره، وهو يدل على
= وأنكره أيضًا الإمام أحمد بن حنبل كما في "العلل ومعرفة الرجال"(1/ 561).
وقال محمد بن نصر المروزي: "ليس لهذا الحديث إسناد يحتج به". نقله عنه ابن رجب في "جامع العلوم والحكم"(372)، وظاهر صنيع ابن رجب تضعيف الحديث وأن الأشبه إرساله حيث قال:"وقد خرجه الحاكم، وقال: "صحيح على شرطهما"، كذا قال، ولكن له علة، وقد أنكره الإمام أحمد جدا، وقال: ليس يروى فيه إلا عن الحسن، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا. . . وقد روي عن الأوزاعي عن عطاء عن عبيد بن عمير مرسلا من غير ذكر ابن عباس.
وروى يحيى بن سليم عن ابن جريج قال: قال عطاء: بلغني أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: (إن اللَّه تجاوز لأمتي عن الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه) خرجه الجوزجاني، وهذا المرسل أشبه.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه أخر، وقد تقدم أن الوليد بن مسلم رواه عن مالك عن نافع عن ابن عمر مرفوعا، وصححه الحاكم وغربه، وهو عند حذاق الحفاظ باطل على مالك، كما أنكره الإمام أحمد وأبو حاتم، وكانا يقولان عن الوليد: إنه كثير الخطأ، ونقل أبو عبيد الآجري عن أبي داود قال: روى الوليد بن مسلم عن مالك عشرة أحاديث ليس لها أصل، منها: عن نافع أربعة، قلت: والظاهر أن منها هذا الحديث، واللَّه أعلم".
بينما صحح الحديث جماعة آخرون، منهم:
الحاكم حيث قال في "المستدرك"(2/ 216): "حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي، وصححه ابن حزم أيضًا في المحلى (3/ 427) حيث قال:"وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم" ثم ذكر الحديث، وحسنه النووي كما في "الأربعين النووية" رقم (39)، والمجموع (2/ 390)، وقال ابن كثير في "تحفة الطالب" (271):"إسناده جيد"، وقال السخاوي في المقاصد الحسنة (371):"مجموع هذه الطرق يظهر أن للحديث أصلًا"، وقال ابن حجر في "فتح الباري" (5/ 161):"رجاله ثقات، إلا أنه أعل بعلة غير قادحة"، وقال السيوطي في "الأشباه والنظائر" (188) حيث قال:"فهذه شواهد قوية تقضي للحديث بالصحة"، وصححه الألباني كما في "إرواء الغليل"(1/ 123).
وعلى كلٍ فالحديث حتى على القول بضعفه فإن العمل به محل اتفاق بين أهل العلم، كما قال ابن العربي في "أحكام القرآن" (3/ 163):"الخبر وإن لم يصح سنده فإن معناه صحيح باتفاق من العلماء"، وأقره على ذلك القرطبي في تفسيره (10/ 182). وانظر: البدر المنير لابن الملقن (4/ 179)، المقاصد الحسنة للسخاوي (371)، تذكرة الموضوعات لابن الجوزي (91).
عدم مؤاخذته بما فعله بموجب الإكراه (1).
الدليل الثالث: أن الحدود تدرأ بالشبهات، والإكراه شبهة فتدرأ بها الحدود (2).
القول الثاني: أن الاختيار ليس شرطًا في جميع الحدود. وأصحاب هذا الرأي قد يرون الإكراه شرطًا في بعض الحدود، لكنهم لا يرونه عامًا في جميع الحدود، من جهة أن بعض الحدود لا يُتصور فيها الإكراه، ومن ذلك حد الزنا في حق الرجل، حيث ذهب الحنابلة إلى أن الرجل إن أكره على الزنا فعليه الحد (3)، وهو قول لبعض المالكية (4)، وقول للشافعية (5)، وبه قال أبو ثور (6).
واستدلوا لذلك بـ: أن الزنا من الرجل لا يُمكن تحصيله إلا عن انتشار، والانتشار لا يكون إلا عن اختيار (7) ونوقش بأمرين.
الأول: عدم التسليم بأن الانتشار لا يكون إلا عن قصد واختيار، بدليل أن النائم قد تنتشر آلته من غير قصد منه، وإنما انتشار الآلة دليل على فحولة الرجل (8).
الثاني: أن الانتشار فطرة فطرها اللَّه تعالى في الرجل عند إثارة شهوته سواء قصد الزنا ذلك الوقت أم لا، وتكليفه عدم انتصاب الذكر قد يكون من تكليف ما لا يُطاق (9).
(1) انظر: أسنى المطالب (4/ 127)، مغني المحتاج (5/ 445).
(2)
انظر: المغني (9/ 57).
(3)
انظر: المغني (9/ 57)، الإنصاف (10/ 182).
(4)
انظر: التاج والإكليل لمختصر خليل (8/ 394).
(5)
انظر: مغني المحتاج (5/ 445).
(6)
انظر: المغني (9/ 57).
(7)
انظر: المبسوط (9/ 95).
(8)
انظر: المرجع السابق.
(9)
انظر: المحلى (7/ 204 - 205).