الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النتيجة:
المسألة فيما يظهر محل إجماع بين أهل العلم؛ لعدم المخالف، واللَّه تعالى أعلم.
[39/ 1] لا تقبل شهادة العبد في الحدود
.
• المراد بالمسألة: أولًا: تعريف العبد: العبد لغة: قال ابن فارس: "العين والباء والدال أصلانِ صحيحان، كانَّهما متضادَّان، والأول من ذينك الأصلينِ يدلُّ على لين وذُلّ، والآخر على شِدّة وغِلَظ.
فالأوّل العَبد، وهو المملوك، والجماعةُ العبيدُ" (1).
وقال ابن منظور: "العبد الإِنسان حرًّا كان أَو رقيقًا، يُذْهَبُ بذلك إلى أَنه مربوب لباريه جل وعز. . . والعَبْدُ المملوك خلاف الحرّ"(2).
العبد اصطلاحًا: العبد: هو الرقيق المملوك لغيره.
والرِّق: هو عجز حكمي شُرِع في الأصل جزاء عن الكفر (3). وبيان ذلك:
قوله: "عجز" لأنه لا يملك ما يملكه الحر من الشهادة، والقضاء، وغيرهما.
قوله: "حكمي" لأن العبد قد يكون أقوى في الأعمال الحسيَّة من الحر.
قوله: "جزاء عن الكفر" فلأن أساس موجبه أن يُسبى الشخص -ذكرًا أو أنثى- وهو كافر (4). ويسمى بالرقيق، والقِن، والمملوك.
• ثانيًا: صورة المسألة: إذا ارتكب شخص ما يوجب الحد، وثبت ذلك عند الحاكم بموجب الشهادة، فإنه يشترط لقبول شهادة الشاهد أن يكون حرًا، فلا تقبل شهادة العبد.
(1) مقاييس اللغة (4/ 205).
(2)
لسان العرب، مادة:(عبد)، (3/ 273).
(3)
انظر: فتح القدير (8/ 283)، كشف الأسرار شرح أصول البزدوي (4/ 281)، أسنى الطالب (3/ 16).
(4)
انظر: التعريفات (48)، التوقيف على مهمات التعاريف (370)، القاموس الفقهي (152).
• من نقل الإجماع: قال الشافعي (204 هـ): "الإجماع يدل على أنه لا تجوز إلا شهادة عدل حر بالغ عاقل لما يشهد عليه"(1).
وقال يحيى بن أكثم (240 هـ)(2): "اتفق العلماء على أن العبد لا شهادة له"، نقله عنه السرخسي (3).
وقال ابن هبيرة (560 هـ): "اتفقوا على أن شهادة العبيد لا تصح على الإطلاق، إلا أحمد فإنه أجازها فيما عدا الحدود والقصاص على المشهور من مذهبه"(4).
• الموافقون على الإجماع: وافق على ذلك المالكية (5).
• مستند الإجماع: الدليل الأول: قول اللَّه تعالى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} (6).
• وجه الدلالة: الآية دلت على أنه يجب على كل من دُعي إلى الشهادة أن يجيب، وقد دل الإجماع على أن العبد لا تلزمه الإجابة؛ لأنه لا يتصرف في نفسه إلا بإذن سيده، فيتحصل من ذلك أن العبد خارج عن الخطاب في الآية وأنه ليس من أهل الشهادة (7).
(1) الأم (7/ 46).
(2)
هو أبو محمد، يحيى بن أكثم بن محمد بن قطن بن سمعان بن أكثم التميمي الأسيدي المروزي، القاضي، الفقيه، ولي قضاء البصرة، قال ابن حجر:"فقيه صدوق"، مات سنة (240 هـ). انظر: الثقات لابن حبان 9/ 265، تهذيب التهذيب 11/ 159، لسان الميزان 7/ 429.
(3)
المبسوط (16/ 124)، وقد قال قبل أن ينقل عبارته:"وحكي عن محمد بن سلمة رضي الله عنه قال: كان يحيى بن أكثم -رحمه اللَّه تعالى- أعلم الناس باختلاف العلماء رحمهم اللَّه تعالى، وكان إذا قال في شيء اتفق العلماء رحمهم اللَّه تعالى على كذا نزل أهل العراق على قوله".
(4)
الإفصاح عن معاني الصحاح (2/ 415).
(5)
انظر: المدونة (4/ 541)، المنتقى شرح الموطأ (5/ 291)، التاج والإكليل (8/ 261).
(6)
سورة البقرة، الآية (282).
(7)
انظر: بدائع الصنائع (6/ 267)، مفاتيح الغيب (7/ 99)، أحكام القرآن لابن العربي (1/ 339).
الدليل الثاني: قال اللَّه تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75)} (1).
• وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى جعل للعبد المملوك نهاية المثل في عدم القدرة على شيء، والشهادة من جملة الأشياء، فلا يقدر على أدائها، فمن كانت هذه صفته -عدم القدرة على شيء- فإنه لا يصح أن يكون قوله نافذًا على الغير في الدماء والفروج وغيرها (2).
الدليل الثالث: قال تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (3).
• وجه الدلالة: قوله {مِنْ رِجَالِكُمْ} حيث أضاف الشهداء إليهم، والخطاب للأحرار، لأنها تتكلم عن البيع والشراء، والذي يملك ذلك هو الحر (4).
الدليل الرابع: قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33)} (5).
• وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى جعل أداء الشهادة قيام على الغير، والعبد ليس من أهل القيام على غيره، لأنه لا ولاية له على نفسه، فلا ولاية له على غيره (6).
الدليل الخامس: أن العبد مختلف في شهادته في سائر الحقوق فيكون ذلك شبهة تمنع من قبول شهادته في الحد؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات (7).
الدليل السادس: قياس العبد على الكافر، بجامع أن كلًا من الرق والكفر
(1) سورة النحل، الآية (75).
(2)
انظر: بدائع الصنائع (6/ 268)، الطرق الحكمية (142).
(3)
سورة البقرة، آية (282).
(4)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (1/ 702)، تفسير القرطبي (2/ 390).
(5)
سورة المعارج، آية (33).
(6)
انظر: الطرق الحكمية (142).
(7)
انظر: المغني (9/ 65)، الشرح الكبير (10/ 195)، الطرق الحكمية (139).
مانع من الميراث، فكما لا تُقبل شهادة الكافر، فكذا لا تقبل شهادة العبد (1).
الدليل السابع: أن الرق أثر من آثار الكفر فمنع قبول الشهادة كالفسق (2).
الدليل الثامن: أنه يستغرق الزمان بخدمة سيده فليس له وقت يملك فيه أداء الشهادة ولا يملك عليه (3).
الدليل التاسع: أن الشهادة نوع ولاية والعبد ليس من أهل الولاية على غيره فلا تقبل شهادته (4).
• المخالفون للإجماع: ذهب طائفة من أهل العلم إلى قبول شهادة العبيد في الحدود.
وبه قال علي بن أبي طالب وأنس بن مالك رضي الله عنهما، وشريح، وإسحاق بن راهويه (5)، وأبو ثور، وزرارة بن أوفى (6)، وعثمان
(1) انظر: المنتقى شرح الموطأ (5/ 191)، الطرق الحكمية (142).
(2)
انظر: المغني (10/ 189)، الطرق الحكمية (143).
(3)
انظر: الطرق الحكمية (143).
(4)
انظر: شرح السنة (10/ 126)، الحاوي الكبير (16/ 157).
(5)
هو أبو يعقوب، إسحاق بن إبراهيم بن مخلد الحنظلي التميمي المروزي، عالم خراسان في عصره، وهو أحد كبار الحفاظ، طاف البلاد لجمع الحديث وأخذ عنه الإمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم، وكان إسحاق ثقة في الحديث، قال فيه الخطيب البغدادي:"اجتمع له الحديث والفقه والحفظ والصدق والورع والزهد"، وقيل في سبب تلقيبه "ابن راهويه": أن أباه ولد في طريق مكة فقال أهل مرو: راهويه، أي ولد في الطريق، من مصنفاته:"المسند"، ولد سنة (161 هـ)، وتوفي في نيسابور سنة (238 هـ). انظر: سير أعلام النبلاء 11/ 358؛ شذرات الذهب 2/ 89؛ طبقات الحنابلة 1/ 109.
(6)
هو أبو حاجب، زرارة بن أوفى العامري الحرشي، البصري، قاضي البصرة، عابد، روى عن أبي هريرة، وعبد اللَّه بن سلام، وابن عباس، وغيرهم، وعنه قتادة وأيوب وغيرهم، وثقه النسائي، وذكره ابن حبان في الثقات، مات سنة (93 هـ).
وينبَّه أن ثمة آخر اسمه أبو عمرو، زرارة بن أوفى النخعي فهو رجل آخر له صحبة مات في زمن عثمان رضي الله عنه. انظر: الإصابة في تمييز الصحابة 2/ 558، تهذيب التهذيب 3/ 278.
البتي (1)، وابن سيرين.
وهو مذهب الحنابلة (2)، والظاهرية (3).
• دليل المخالف: استدل القائلون بقبول شهادة العبيد بما يلي: الدليل الأول: قال تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (4).
• وجه الدلالة: عموم الآية تدل على قبول شهادة من نرضى شهادته لعدالته، إن كان من رجالنا بإسلامه، ولم تستثن العبد، فإذا كان العبد مسلِمًا عدلًا فهو مقبول الشهادة (5).
الدليل الثاني: قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} (6).
• وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى جعل وصف الوسطية -أي الخيار العدول- هو المعيار في قبول الشهادة، والعبد داخل في هذا الخطاب، فيدل على قبول شهادة العبد إن كان عدلًا حتى يرد دليل صريح صحيح يُخرجه من ذلك، وليس ثمة دليل (7).
(1) هو أبو عمرو، عثمان البتي، فقيه، بصري، أصله من الكوفة، حدث عن أنس بن مالك، وثَّقه أحمد، والدارقطني، وابن سعد، وابن معين، وجماعة، توفي في حدود المائة والأربعين. انظر: سير أعلام النبلاء 6/ 149، تهذيب التهذيب 7/ 139.
(2)
انظر: الإنصاف (12/ 60)، كشاف القناع (6/ 426)، دقائق أولي النهى (3/ 593)، وقد نصر ابن القيم هذا القول في "الطرق الحكمية"(139 - 144) وذكر أدلة المانعين من شهادة العبد، وناقشها، ثم ذكر الأدلة الدالة على جواز شهادته.
(3)
انظر: المحلى (8/ 500).
(4)
سورة البقرة، آية (282).
(5)
انظر: المحلى (8/ 505)، إعلام الموقعين (1/ 77).
(6)
سورة البقرة، آية (143).
(7)
انظر: الطرق الحكمية (140).
الدليل الثالث: قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} (1)، وقال سبحانه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} (2).
• وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى خاطب المؤمنين عمومًا بالقيام بالشهادة، والعبد من جملة المؤمنين، فيكون مقبول الشهادة (3).
الدليل الرابع: قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7)} (4).
• وجه الدلالة: أخبر تعالى أن المؤمن الذي يعمل الصالحات هو من خير البريَّة، وهذا عام يشمل العبد، فإن كان العبد قد حقق هذا الوصف من الإيمان والعمل الصالح، فكيف ترد شهادته وهو من خير البريَّة عند اللَّه تعالى (5).
الدليل الخامس: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} (6).
• وجه الدلالة: عموم الآية في تحريم كتمان الشهادة، والعبد داخل في الخطاب حتى يرد دليل صريح صحيح على استثنائه من ذلك (7).
الدليل السادس: إجماع الصحابة رضي الله عنهم على قبول شهادتهم، كما قال ابن القيم في معرض تصويب القول بقبول شهادة العبد:"وقد حكى الإمام أحمد عن أنس بن مالك إجماع الصحابة رضي الله عنهم، على شهادته، فقال: "ما علمت أحدًا رد شهادة العبد""(8)
الدليل السابع: إجماع أهل العلم على أن العبد مقبول الشهادة على رسول
(1) سورة النساء، آية (135).
(2)
سورة المائدة، آية (8).
(3)
انظر: الطرق الحكمية (140).
(4)
سورة البينة، آية (7).
(5)
انظر: المحلى (8/ 505)، الطرق الحكمية (140).
(6)
سورة البقرة، آية (283).
(7)
إعلام الموقعين (2/ 61).
(8)
إعلام الموقعين (1/ 77).
اللَّه صلى الله عليه وسلم في حكم يلزم الأمة إذا روى عنه الحديث، فمن باب أولى أن تقبل شهادته على واحد من الأمة في حكم جزئي (1).
الدليل الثامن: أن العبد تقبل شهادته على حكم اللَّه ورسوله صلى الله عليه وسلم في الفروج والدماء والأموال في باب الفتوى، فمن باب أولى أن تقبل شهادته على واحد من الناس في ذلك (2).
الدليل التاسع: أن المقتضي لقبول شهادة المسلم عدالته، وغلبة الظن بصدقه، وعدم تطرق التهمة إليه، وهذا بعينه موجود في العبد، والرق لا يزيل مقتضى العدالة، ولا يتطرق لصاحبه التهمة (3).
النتيجة:
المسألة فيما يظهر ليست محل إجماع بين أهل العلم، بل هي محل خلاف مشهور؛ لثبوت الخلاف عن الحنابلة، والظاهرية، وبعض التابعين، بل حُكي إجماع الصحابة رضي الله عنهم على قبول شهادة العبد.
ولذا ردَّ هذا الإجماع جمع من أهل العلم فقال ابن الهمام في مسألة شهادة العبد: "وأما ادعاء الإجماع على عدم قبوله فلم يصح"(4).
وقال ابن القيم: "وقبول شهادة العبد، هو موجب الكتاب والسنة، وأقوال الصحابة رضي الله عنهم، وأصول الشرع، وليس مع من ردها كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس"(5).
قد تبيَّن مما سبق أن ثمة من حكى الإجماع على قبول شهادة العبد، وثمة من حكى إجماع الصحابة على عدم قبول شهادة العبد، وقد حقق ابن القيم المسألة فقال بعد أن ذكر القول بقبول شهادة العبد: "وقد حكي إجماع قديم،
(1) انظر: الطرق الحكمية (141)، إعلام الموقعين (1/ 77).
(2)
انظر: إعلام الموقعين (1/ 77).
(3)
انظر: الطرق الحكمية (141)، إعلام الموقعين (1/ 77).
(4)
فتح القدير (7/ 400).
(5)
الطرق الحكمية (139 - 140).