الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدليل الثاني: عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا كفالة في حد)(1).
الدليل الثالث: أن الكفالة استيثاق والحدود مبناها على الإسقاط والدرء بالشبهات، فلا يدخل فيها الاستيثاق (2).
النتيجة:
المسألة فيما يظهر محل إجماع بين أهل العلم؛ لعدم وجود المخالف، واللَّه تعالى أعلم.
[11/ 1] تحريم الرشوة في الحدود
[12/ 1] تحريم الفداء والصلح في الحدود، بعد بلوغها الإمام
المراد بالمسألتين: أولًا: تعريف الرشوة لغة واصطلاحًا:
الرشوة لغة: الرشوة: بكسر الراء وضمها وفتحها ثلاث لغات، يُقال: رَشاه يرشوه رَشوًا، فهي رَشوة ورِشوة، ومفردها رُشًا ورِشًا، والجمع أَرْشِيَة، وهي في أصل اللغة بمعنى التوصل إلى الشيء بالمصانعة (3)، كما قال ابن فارس:"الراء والشين والحرف المعتل أصل يدل على سبب أو تسبب لشيء برفق وملاينة"(4).
(1) أخرجه البيهقي في "السنن الصغرى"(2/ 306)، وقال:"إسناده ضعيفًا"، وقال الذهبي في "تنقيح التحقيق" (2/ 117):"هذا منكر" وضعفه أيضًا الصنعاني في "فتح الغفار الجامع لأحكام سنة نبينا المختار"(3/ 1229)، وابن حجر في "بلوغ المرام"(258)، والألباني في ضعيف الجامع الصغير (910).
فالحديث ضعيف لأنه من رواية بقية عن عمر الكلاعي، كما بيَّنه البيهقي في السنن الكبرى (6/ 77) بقوله:"تفرد به بقية عن أبي محمد عمر بن أبي عمر الكلاعي، وهو من مشايخ بقية المجهولين، ورواياته منكرة"، وقال ابن عدي في "الكامل" (5/ 22):"عمر بن أبي عمر الدمشقيّ ليس بالمعروف. . . . منكر الحديث عن الثقات".
(2)
انظر: المبدع (4/ 262)، الشرح الكبير (5/ 99).
(3)
انظر: تاج العروس (38/ 154).
(4)
مقاييس اللغة (2/ 397).
ومنه الرِّشاء، وهو حبل الدلو؛ لأنه يوصل به إلى الماء.
ويقال: رشاه يرشوه رشوًا: أي أعطاه الرشوة، وارتشى: أي أخذ الرشوة، واسترشى: طلب الرشوة، والرائش: هوالذي يتوسط بين الراشي والمرتشي (1).
الرشوة اصطلاحًا: تنوعت عبارات الفقهاء في حد الرشوة لاختلاف صورها، فقيل: هي ما يُعطى لقضاء مصلحة أو لإبطال حق، أو لإحقاق باطل (2). وقيل: ما يعطيه الشخص الحاكم وغيره ليحكم له أو يحمله على ما يريد (3).
وقيل: هي كل هديَّة قُصد بها التوصل إلى باطل (4).
وقيل: هي ما يتوصل به إلى ممنوع (5).
ومن خلال التعاريف السابقة يظهر أن ما يُعطى توصلًا إلى أخذ حق، أو دفع ظلم، ولا يمكن تحصيله إلا بذلك، فغير داخل في الرشوة التي حرَّمها اللَّه تعالى (6).
ثانيًا: تعريف الفداء: قال الجرجاني (7): "الفداء: البدل الذي يتخلص به
(1) انظر: المخصص (1/ 287)، الصحاح (7/ 207)، القاموس المحيط (1662).
(2)
انظر: التعريفات (148)، أنيس الفقهاء للقونوي (229)، التوقيف على مهمات التعاريف للمناوي (365)، القاموس الفقهي لسعدي أبو جيب (149)، المعجم الوسيط للزيات وجماعة (1/ 348).
(3)
انظر: المصباح المنير (120)، تاج العروس (38/ 153).
(4)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (2/ 485).
(5)
انظر: المطلع على أبواب الفقه للبعلي (219).
(6)
انظر: شرح السنة (10/ 88)، شرح ابن بطال (8/ 334)، معالم السنن (4/ 191).
(7)
هو علي بن محمد بن علي الحسيني، عالم الشرق، المعروف بالشريف الجرجاني، فيلسوف، من كبار العلماء بالعربية، درس في شيراز، ولما دخلها تيمور فر الجرجاني إلى سمرقند، ثم عاد إلى شيراز بعد موت تيمور، فأقام إلى أن توفي بها، من مصنفاته "التعريفات"، و"شرح مواقف الايجي"، و"مقاليد العلوم"، وغيرها، ولد سنة (740 هـ)، ومات سنة (816 هـ). انظر: الفوائد البهية 125، الضوء اللامع للسخاوي 5/ 328، الأعلام 5/ 7.
المكلف عن مكروه توجه إليه" (1).
ثالثًا: صورة المسألة: إذا ثبت الحد على شخصٍ، فإنه لا يجوز للإمام أو غيره أخذ المال مقابل إسقاط الحد الذي ثبت، وكذا لو أراد من وجب عليه الحد أن يفتدي بمبلغ من المال لأجل إسقاط الحد عنه، أو الافتداء بشخص آخر، بأن يقيم غيره مكانه في الحد، فهنا لا يقبل منه الفداء.
وكذا لا يجوز إسقاط الحد بموجب الصلح، كأن يسرق شخص من آخر، ثم بعد رفعه للإمام وثبوت الحد، يتصالح من وجب عليه الحد والمسروق منه ويطلبان إسقاط الحد، وكذا لو تصالح الزاني مع المزني بها، فكل ذلك غير جائز.
• من نقل الإجماع: قال أبو بكر الجصاص (370 هـ): "اتفق جميع المتأولين لهذه الآية (2) على أن قبول الرشا محرم، واتفقوا على أنه من السحت الذي حرمه اللَّه تعالى. . . . ولا خلاف في تحريم الرُّشا على الأحكام، وأنها من السحت الذي حرمه اللَّه في كتابه، . . . . فلما حرم اللَّه أخذ الرُّشا على الأحكام، واتفقت الأمة عليه، دل ذلك على فساد قول القائلين بجواز أخذ الأبدال على الفروض والقرب"(3).
وقال بن حزم (456 هـ): "اتفقوا على تحريم الرشوة على قضاء بحق، أو باطل، أو تعجيلًا لقضاء بحق، أو باطل"(4).
وقال الكاساني (587 هـ): "لا خلاف في حد الزنا، والشرب، والسكر،
(1) التعريفات (217)، وانظر: التوقيف على مهمات التعاريف (552)، وقال العسكري في "معجم الفروق اللغوية" (399):"الفرق بين الفداء والعدل: أن الفداء ما يجعل بدل الشيء لينزل على حاله التي كان عليها، وسواء كان مثله أو أنقص منه، والعدل ما كان من الفداء مِثلًا لما يفدى، ومنه قوله تعالى: {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة: 123]، وقال تعالى: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95] أي مثله".
(2)
أي قوله تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 42].
(3)
أحكام القرآن (2/ 607).
(4)
مراتب الإجماع (50).
والسرقة، أنه لا يحتمل العفو، والصلح، والإبراء، بعد ما ثبت بالحجة" (1).
وقال ابن قدامة (620 هـ): "فأما الرشوة في الحكم ورشوة العالم فحرام بلا خلاف"(2). وقال بهاء الدين المقدسي (624 هـ): "الرشوة في الحكم حرام بلا خلاف"(3).
وقال ابن تيمية (728 هـ): "وقد أجمع المسلمون على أن تعطيل الحد بمال يؤخذ، أو غيره لا يجوز، وأجمعوا على أن المال المأخوذ من الزاني، والسارق والشارب، والمحارب وقاطع الطريق ونحو ذلك لتعطيل الحد، مال سحت خبيث"(4) ونقله عنه السفاريني (5)(6).
وقال ابن حجر (852 هـ): "الحد لا يقبل الفداء، وهو مجمع عليه في الزنا، والسرقة، والحرابة، وشرب المسكر"(7).
وقال الصنعاني (1099 هـ): "والرشوة حرام بالإجماع، سواء كانت للقاضي، أو للعامل على الصدقة، أو لغيرها"(8).
وقال الزرقاني (1122 هـ)(9): (الحد لا يقبل الفداء وهو مجمع عليه
(1) بدائع الصنائع (7/ 55).
(2)
المغني (10/ 118).
(3)
العدة شرح العمدة لبهاء الدين المقدسي (601).
(4)
انظر: مجموع الفتاوى (28/ 303).
(5)
هو أبو عون، محمد بن أحمد بن سالم السفاريني الحنبلي، شمس الدين، عالم بالحديث، والأصول، والأدب، ولد في سنة (1114 هـ)، ومات (1188 هـ). انظر: الأعلام 6/ 14، معجم المؤلفين 8/ 262، معجم المطبوعات 1028.
(6)
انظر: غذاء الألباب للسفاريني (1/ 242).
(7)
فتح الباري (12/ 141).
(8)
سبل السلام (2/ 577).
(9)
هو أبو عبد اللَّه، محمد بن عبد الباقي الزرقاني، نسبة إلى زرقان بمصر، فقيه، مالكي، محدِّث، مؤرخ، من كتبه:"شرح موطأ مالك"، و"تلخيص المقاصد الحسنة"، ولد سنة (1055 هـ)، وتوفي سنة (1122 هـ). انظر: الأعلام 6/ 184، معجم المؤلفين 10/ 124.
في الزنا" (1). وقال الشوكاني (1250 هـ): "وتحرم رشوة الحاكم إجماعًا" (2).
وقال ابن قاسم (1392 هـ): "دل الحديث (3) على تحريم الرشوة، وهو إجماع"(4).
• مستند الإجماع: الدليل الأول: الأدلة الدالة على تحريم الرشوة عمومًا ومنها:
أ- قول اللَّه تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)} (5).
ب- قوله تعالى في وصف أهل الكتاب: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} (6).
قال ابن كثير: {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} أي: الحرام، وهو الرشوة كما قاله ابن مسعود وغير واحد" (7)، فالرشوة داخلة في السحت باتفاق المفسرين كما حكاه أبو بكر الجصاص (8).
ج- عن عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنه قال: (لعن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي في الحكم)(9).
(1) شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك للزرقاني (4/ 175).
(2)
نيل الأوطار (8/ 308).
(3)
أي حديث ابن عمر رضي الله عنه قال: (لعن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي)، وسيأتي تخريجه في مستند الإجماع.
(4)
حاشية الروض المربع (7/ 529).
(5)
سورة البقرة، آية:(188).
(6)
سورة المائدة، آية (42).
(7)
تفسير ابن كثير (3/ 117).
(8)
انظر: أحكام القرآن (2/ 607).
(9)
أخرجه أحمد (11/ 87)، والترمذي رقم (1336) وقال:"حديث حسن صحيح"، وأبو داود رقم (3580)، وابن ماجه رقم (2313).
والنصوص في ذلك كثيرة.
الدليل الثاني: عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني (1) رضي اللَّه تعالى عنهما أنهما قالا: "إن رجلًا من الأعراب أتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه أنشدك اللَّه إلا قضيت لي بكتاب اللَّه، فقال الخصم الآخر -وهو أفقه منه-: نعم فاقض بيننا بكتاب اللَّه وائذن لي، فقال رسول اللَّه:(قل) قال: إن ابني كان عسيفًا (2) على هذا فزنى بامرأته، وإني أُخبرت أن على ابني الرجم، فافتديت منه بمائة شاة
= والحديث صححه جماعة من أهل العلم منهم الحاكم في المستدرك (4/ 115) قال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، وصححه أيضًا ابن القطان في بيان الوهم والإيهام (3/ 548)، وابن دقيق العيد في "الإلمام بأحاديث الأحكام"(353)، وابن حجر في "فتح الباري"(5/ 221)، والألباني في "صحيح الترغيب والترهيب"(2/ 261).
وحسنه جماعة منهم البغوي في "شرح السنة"(88/ 10)، والعجلوني في "كشف الخفاء"(2/ 142).
وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(4/ 232) من رواية أم سلمة: "رجاله ثقات"، وقال المنذري في "الترغيب والترهيب" (3/ 126) من رواية أم سلمة:"رواه الطبراني بإسناد جيد". وأشار ابن حزم في "المحلى"(8/ 119) إلى ضعفه فقال: "لعنه الراشي إنما رواه الحارث بن عبد الرحمن وليس بالقوي".
وما قاله ابن حزم فيه نظر؛ فإن الحديث رجاله ثقات رجال الشيخين، غير الحارث بن عبد الرحمن، فال أحمد والنسائي:"ليس به بأس"، وقال ابن حجر:"صدوق"، فيكون الحديث في منزلة الحسن، وللحديث شواهد وطرق من حديث عائشة وأم سلمة وعبد الرحمن بن عوف وثوبان يرتقى بها لدرجة الصحيح، وأقل أحواله أنه حسن. انظر: البدر المنير (9/ 574)، تلخيص الحبير (4/ 347)، المقاصد الحسنة (533)، علل الحديث لابن أبي حاتم (3/ 337).
(1)
هو أبو عبد الرحمن، زيد بن خالد الجهني، سكن المدينة، وشهد الحديبية مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وكان معه لواء جهينة يوم الفتح، توفي بالمدينة سنة (78 هـ). انظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب 2/ 549، معجم الصحابة 2/ 480، الإصابة في تمييز الصحابة 2/ 603.
(2)
قال النووي في شرحه على مسلم (11/ 206): "عسيفًا: هو بالعين والسين المهملتين أي أجيرا وجمعه عسفاء كأجير وأجراء وفقيه وفقهاء". وانظر: فتح الباري (6/ 148).
ووليدة، فسألت أهل العلم فأخبروني أنما على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم، فقال رسول اللَّه:(والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب اللَّه: الوليدة والغنم رد، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها) قال: فغدا عليها فاعترفت فأمر بها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فرجمت" متفق عليه (1).
• وجه الدلالة: قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ففي هذا الحديث أنه لما بذل عن المذنب هذا المال لدفع الحد عنه، أمر النبي صلى الله عليه وسلم بدفع المال إلى صاحبه، وأمر بإقامة الحد"(2).
الدليل الثالث: عن صفوان بن أمية رضي الله عنه أنه: "سرقت خميصته من تحت رأسه وهو نائم في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذ اللص، فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر بقطعه، فقال صفوان: أتقطعه؟ قال: (فهلا قبل أن تأتيني به تركته)(3).
وفي رواية لأبي داود والنسائي بلفظ: "قال صفوان: فأتيته فقلت: أتقطعه من أجل ثلاثين درهمًا، أنا أبيعه وأنسئه ثمنها، (قال: فهلا كان هذا قبل أن تأتيني به) (4).
وفي رواية لابن ماجه (5) بلفظ: "فقال صفوان: يا رسول اللَّه لم أرد، هذا ردائي عليه صدقة، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:(فهلا قبل أن تأتيني به)(6).
(1) أخرجه البخاري في صحيحه، رقم (2549)، ومسلم في صحيحه، رقم (1697).
(2)
مجموع الفتاوى (28/ 303).
(3)
أخرجه أحمد (24/ 15)، والنساني رقم (4884).
(4)
أخرجه أبو داود رقم (4394)، والنسائي رقم (4883).
(5)
هو أبو عبد اللَّه محمد بن يزيد الربعي القزويني، المعروف بابن ماجه، الحافظ، المحدث، أحد الأئمة في علم الحديث، وهو من أهل قزوين، ورحل في طلب الحديث، وصنف كتابه "سنن ابن ماجه، تفسير القرآن، تاريخ قزوين، ولد سنة (209 هـ)، وتوفي بقزوين سنة (273 هـ). انظر: تذكرة الحفاظ 2/ 189، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم لابن الجوزي 5/ 90، الأعلام 8/ 15.
(6)
أخرجه ابن ماجه، رقم (2595)، وسبق الكلام عليه.
• وجه الدلالة: أن صفوان رضي الله عنه أراد إسقاط الحد عن طريق الصلح منه للسارق، بإهداء المسروق للسارق، أو ببيعه له، فبيَّن له النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك غير جائز، وأن الحدود إذا بلغت السلطان وجب إقامتها (1).
الدليل الرابع: الأحاديث الدالة على تحريم الشفاعة في الحدود بعد ثبوتها عند الحاكم (2).
• وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم منع من الشفاعة في إسقاط الحد بعد ثبوته، فكيف بمن منع الحدود واعتاض عن المجرمين بسحت من المال يأخذه، فإنه يكون جمع بين إسقاط الحد، وأكل السحت (3).
• المخالفون للإجماع: ذهب بعض أهل العلم إلى أن جلد شارب الخمر ليس من باب الحد، وإنما هو من باب التعازير (4).
وعلى هذا يكون للإمام أن يعفو عن شارب الخمر، ولو بعد بلوغه للإمام.
دليل المخالف: الدليل الأول: عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "ما كنت لأقيم حدًا على أحد فيموت فأجد في نفسي إلا صاحب الخمر؛ فإنه لو مات وديته؛ وذلك أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لم يسنَّه" متفق عليه (5).
وفي رواية للبيهقي بلفظ: "ما أحد يموت في حد فأجد في نفسي منه شيئًا؛
(1) انظر: المغني (9/ 112)، نيل الأوطار (7/ 155).
(2)
وقد سبق بيان هذه الأحاديث في المسألة رقم 1 بعنوان: "تحريم الشفاعة في الحدود إذا بلغت الإمام".
(3)
انظر: مجموع الفتاوى (28/ 302).
(4)
انظر: المحلى (12/ 356)، سبل السلام (2/ 444).
وهنا يُنبَّه إلى أن بعض الفقهاء ذهبوا إلى أن جلد شارب الخمر من باب التعزير لكنهم، يرون وجوب جلد شارب الخمر بأربعين جلدة فما فوق، وهو قول الشيخ محمد بن عثيمين كما في "الشرح الممتع على زاد المستقنع"(14/ 295).
(5)
أخرجه البخاري رقم (6396)، ومسلم رقم (1707).
الحقُّ قَتَله" (1).
• وجه الدلالة: الحديث صريح في أن من جلد صاحب الخمر ثم مات من الجلد أن الجلاد يضمن التلف، وهو يدل على أن هذا الجلد غير مأذون به شرعًا.
الدليل الثاني: عن عقبة بن الحارث (2) قال: "جيء بالنعيمان أو ابن النعيمان شاربًا فأمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من كان بالبيت أن يضربوه، قال فكنت أنا فيمن ضربه، فضربناه بالنعال والجريد"(3).
الدليل الثالث: عن السائب بن يزيد رضي الله عنه (4) قال: "كنا نؤتى بالشارب على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وإمرأة أبي بكر، وصدرًا من خلافة عمر، فنقوم إليه بأيدينا، ونعالنا، وأرديتنا، حتى كان آخر إمرة عمر، فجلد أربعين، حتى إذا عتوا وفسقوا جلد ثمانين"(5).
الدليل الرابع: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب، قال:(اضربوه)، قال أبو هريرة: فمنا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه، فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاك اللَّه، قال:(لا تقولوا هكذا؛ لا تعينوا عليه الشيطان)(6).
(1) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(6/ 123).
(2)
هو أبو سروعة، عقبة بن الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف القرشي، النوفلي، أسلم يوم الفتح، روى له البخاري ثلاثة أحاديث، توفي في أيام خلافة ابن الزبير. انظر: الاستيعاب 4/ 1667، مشاهير علماء الأمصار 64، الإصابة 4/ 518.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه، رقم (2191).
(4)
هو النعيمان بن عمرو بن رفاعة بن الحارث الأنصاري، شهد بدرًا، وكان مزاحًا، وذهب ابن عبد البر إلى أن نعيمان كان رجلًا صالحًا، وأن الذي حَدَّه النبي صلى الله عليه وسلم كان ابنه، مات سنة (41 هـ). انظر: الاستيعاب 4/ 1526، الإصابة في تمييز الصحابة 6/ 463.
(5)
أخرجه البخاري في صحيحه، رقم (6397).
(6)
أخرجه البخاري في صحيحه، رقم (6395).