الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عند النبي صلى الله عليه وسلم ولم يُنكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك.
النتيجة:
المسألة فيما يظهر محل إجماع بين أهل العلم؛ لعدم المخالف، واللَّه تعالى أعلم.
[21/ 1] التوبة لا ترفع الحد، عدا الحرابة قبل بلوغها للإمام
• المراد بالمسألة: أولًا: تعريف التوبة لغة واصطلاحًا:
التوبة لغة: قال ابن فارس: التاء والواو والباء كلمةٌ واحدةٌ تدل على الرُّجوع، يقال: تابَ مِنْ ذنبه، أي رَجَعَ عنه" (1)
التوبة اصطلاحًا: التوبة في اصطلاح الفقهاء هي الرجوع إلى اللَّه تعالى بترك المعاصي والذنوب (2). ولها شروط خمسة هي:
1 -
الإقلاع عن الذنب.
2 -
الندم على ما فعل.
3 -
العزم على عدم العودة للذنب (3).
4 -
أن تكون التوبة قبل فوات وقتها، وذلك بطلوع الشمس من مغربها، أو بلوغ الغرغرة.
5 -
رد المظالم إلى أهلها، إن كان الذنب يتعلق بحقوق الآخرين (4).
ثانيًا: صورة المسألة: من ارتكب ما يوجب عليه إقامة الحد، ثم تاب من ذنبه، فإن توبته لا تُسقط عنه حدَّه، بل لو قُبض عليه بعد توبته فإنه يقام عليه
(1) مقاييس اللغة (1/ 326).
(2)
انظر: الآداب الشرعية لابن مفلح (1/ 84).
(3)
وقال بعضهم: هذه الشروط الثلاثة يكفي عنها تحقق الندم؛ لأنه يستلزم الإقلاع عنه، والعزم على عدم العود، فهما ناشئان عن الندم لا أصلان معه، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:(الندم توبة)، قال ابن حجر في "فتح الباري" (13/ 471):"وهو حديث حسن".
(4)
انظر: المغني (10/ 173)، شرح النووي (1/ 70)، فتح الباري (13/ 471).
الحد، سواء كانت توبته قبل بلوغ أمره للإمام، أو بعده، وإنما يستثنى من ذلك حد الحرابة لمن تاب قبل بلوغ أمره للإمام، فتوبته تُسقط الحد حينئذٍ.
ولبيان المسألة فهي على قسمين:
القسم الأول: إن كان الحد غير الحرابة، فالتوبة لا تُسقط الحد حينئذ سواء كانت التوبة قبل بلوغها الإمام أو بعده.
القسم الثاني: إن كان الحد حرابة، فالتوبة تُسقط الحد إن كانت قبل بلوغها للإمام، ولا تسقطه بعد بلوغها للإمام.
• من نقل الإجماع: قال أبو بكر الجصاص (370 هـ): "قد اتفقنا أن التوبة لا تُسقط الحد"(1). وقال ابن بطال (449 هـ): "أجمع العلماء أنه من أصاب ذنبًا فيه حد أنه لا ترفعه التوبة، ولا يجوز للإمام العفو عنه إذا بلغه"(2).
وقال القاضي عياض (544 هـ): "وقد أجمع العلماء أن التوبة لا تسقط حدًا من حدود اللَّه إلا الحرابة"(3). وقال ابن رشد (595 هـ): "اتفقوا على أن التوبة لا ترفع الحد"(4) ونقله عنه ابن قاسم (5).
وقال القرطبي (671 هـ): "لا خلاف فيما أعلمه أن التوبة لا تُسقط حدًا"(6).
وقال القرافي (684 هـ): "الحدود لا تسقط بالتوبة على الصحيح، إلا الحرابة والكفر فإنهما يسقط حدهما بالتوبة إجماعًا"(7).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (728 هـ): "اتفق العلماء فيما أعلم على أن قاطع الطريق واللص ونحوهما إذا رفعوا إلى ولي الأمر ثم تابوا بعد ذلك لم
(1) أحكام القرآن (3/ 409).
(2)
شرح ابن بطال (8/ 242).
(3)
إكمال المعلم شرح صحيح مسلم (5/ 272).
(4)
بداية المجتهد (2/ 364).
(5)
حاشية الروض المربع (7/ 331).
(6)
تفسير القرطبي (5/ 91).
(7)
أنوار البروق في أنواع الفروق (4/ 208).
يسقط الحد عنهم، بل تجب إقامته وإن تابوا" (1).
وقال ابن القيم (751 هـ): "الحدود لا تسقط بالتوبة بعد القدرة اتفاقًا"(2).
وقال ابن المرتضى (840 هـ)(3): "ولا يسقط -أي الحد- بالتوبة بعد الرفع إجماعًا"(4).
وقال ابن الهمام (861 هـ): "للإجماع على أن التوبة لا تسقط الحد في الدنيا"(5). وقال ابن نجيم (970 هـ): "الإجماع على أن التوبة لا تسقط الحد في الدنيا"(6).
• مستند الإجماع: سبق أن المسألة على قسمين: أما القسم الأول وهو كون التوبة في غير الحرابة لا تُسقط الحد، فأدلته ما يلي: الدليل الأول: النصوص العامة في وجوب إقامة الحد، كقوله تعالى:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (7)، وقوله جل وعلا:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} (8).
• وجه الدلالة: أن الآيات عامة، ولم تفرِّق بين التائب وغيره، فتبقى على عمومها.
(1) الفتاوى (28/ 300)، وانظر: الصارم المسلول لابن تيمية (1/ 362).
(2)
إعلام الموقعين (3/ 105).
(3)
هو أحمد بن يحيى بن المرتضى بن المفضل ابن منصور الحسني، عالم بالدين والأدب، من أئمة الزيدية باليمن، وبويع بالإمامة بعد موت الناصر في صنعاء، وقد بويع في اليوم نفسه للمنصور علي ابن صلاح الدين، فنشبت فتنة انتهت بأسر صاحب الترجمة وحبسه في قصر صنعاء، وخرج من سجنه خلسة، من كتبه:"البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار"، ولد سنة (775 هـ)، ومات سنة (840 هـ). انظر: البدر الطالع بمحاسن القرن السابع 155، الأعلام 1/ 269.
(4)
البحر الزخار (6/ 158).
(5)
فتح القدير (5/ 211).
(6)
البحر الرائق شرح كنز الدقائق (5/ 3).
(7)
سورة النور، آية (2).
(8)
سورة المائدة، آية (38).
الدليل الثاني: عن ثعلبة بن سعد الأنصاري رضي الله عنه (1): "أن عمرو بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس (2) جاء إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه إني سرقت جملًا لبني فلان فطهرني، فأرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إنا افتقدنا جملًا لنا، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فقطعت يده، قال ثعلبة: أنا أنظر إليه حين وقعت يده وهو يقول: الحمد للَّه الذي طهرني منك، أردت أن تدخلي جسدي النار"(3).
• وجه الدلالة: أن عمرو بن سمرة جاء تائبًا يطلب الحد، ومع ذلك أقام عليه النبي صلى الله عليه وسلم الحد، ولم يسقطه بالتوبة.
الدليل الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام الحد على ماعز بن مالك بعدما جاء تائبًا يطلب تطهيره من الزنا، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم برجمه ثم قال:(لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم)(4)، وأقامه كذلك على الغامدية مع أنه قال فيها:(فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له)(5)، وأقام الحد على الجهينية بعدما جاءت تائبة وقال:(لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت توبة أفضل من أن جادت بنفسها للَّه تعالى)(6).
(1) هو ثعلبة بن سعد بن مالك بن خالد بن ثعلبة الأنصاري الساعدي، شهد بدرًا، واستشهد بأحد، وهو عم أبي حميدِ الساعدي وسهل بن سعدٍ، قُتل يوم أحد شهيدًا. انظر: الاستيعاب 1/ 208، الجرح والتعديل 2/ 461، الإصابة 1/ 403.
(2)
هو عمرو بن حبيب بن عبد شمس، وقيل: عمرو بن سمرة الأقطع، وقيل: عمرو بن أبي حبيب، وقيل غير ذلك، عداده في الشاميين. انظر: الإصابة 4/ 644، معرفة الصحابة 4/ 2045.
(3)
أخرجه ابن ماجه رقم (2588)، قال البوصيري في "مصباح الزُّجاجة" (3/ 112):"هذا إسناد ضعيف لضعف عبد اللَّه بن لهيعة"، وضعفه الألباني كما في "صحيح وضعيف ابن ماجه" رقم (2588).
(4)
أخرجه مسلم رقم (1695).
(5)
أخرجه مسلم رقم (1695).
(6)
أخرجه مسلم رقم (1696).
الدليل الرابع: أن الحد له كفارة تُسقط عنه إثم ما ارتكبه، فلا يسقط بالتوبة المجردة عن الكفارة، ككفارة اليمين والقتل.
وأما القسم الثاني: وهو أن حد الحرابة يَسقط بالتوبة قبل بلوغه للإمام، فدليله قوله تعالى:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)} (1)(2).
• المخالفون للإجماع: القول الأول: ذهب بعض الفقهاء إلى أن التوبة مسقطة للحد مطلقًا، سواء تاب قبل أن يُرفع أمره للإمام، أو بعده، وسواء كان في حد الحرابة أو غيره من الحدود.
وهو قول بعض الشافعية كالماوردي، والروياني (3)، . . .
(1) سورة المائدة، آية (34).
(2)
وقد نقل جماعة من أهل العلم الإجماع على أن حد الحرابة تسقط بالتوبة قبل بلوغها للإمام منهم:
ابن حزم في "المحلى"(12/ 16) حيث قال: "صح النص من القرآن وصح الإجماع بأن حد المحاربة تسقطه التوبة قبل القدرة عليهم"، وقال ابن هبيرة في "الإفصاح عن معاني الصحاح" (2/ 217):"اتفقوا أن من تاب منهم قبل القدرة عليه سقطت عنه حقوق اللَّه تعالى"، وقال ابن تيمية في "الفتاوى الكبرى" (3/ 411):"إن تاب من الزنا، والسرقة، أو شرب الخمر قبل أن يرفع إلى الإمام فالصحيح أن الحد يسقط عنه، كما يسقط عن المحاربين بالإجماع إذا تابوا قبل القدرة".
(3)
هو عبد الواحد بن إسماعيل بن أحمد بن محمد أبو المحاسن الروياني الطبري، الشافعي، فخر الإسلام، قاضي طبرستان، من أهل رويان -بنواحي طبرستان-، ولد سنة (114) هـ، أحد الأئمة الأعلام، برع في المذهب الشافعي حتى أنه كان يقول:"لو احترقت كتب الشافعي كنت أمليها من حفظي" وكانت له حظوه عند الملوك، من كتبه:"البحر" وهو من أطول كتب الشافعيين، ومناصيص الشافعي، تعصب عليه جماعة من الملاحدة فقتلوه وهو في الجامع سنة (152) هـ انظر: طبقات الشافعية للسبكي 4/ 264، الكامل في التاريخ 9/ 134، سير أعلام النبلاء 19/ 261.
والمحاملي (1)(2)، واختاره ابن القيم من الحنابلة (3).
القول الثاني: أن الحدود تسقط بالتوبة قبل القدرة أما بعدها فلا، وبه قال ابن حزم (4)، وهو رواية عند الحنابلة اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية (5). القول الثالث: أن التوبة تسقط الحد سواء قبل بلوغ أمره للإمام أو بعده، باستثناء حد الحرابة بعد القدرة عليه، وهو رواية عند الحنابلة اختارها أبو الخطاب (6)(7).
(1) هو أبو الحسن، أحمد بن محمد بن أحمد بن القاسم بن إسماعيل الضبي المحاملي، البغدادي، الشافعي، فقيه فرضي، من مصنفاته:"تحرير الأدلة"، و"لباب الفقه"، ولد سنة (368) هـ، وتوفي سنة (415 هـ). انظر: تاريخ بغداد للبغدادي 4/ 372، الأنساب للسمعاني 5/ 209، طبقات الشافعية 1/ 174.
(2)
انظر: الدر المنثور للسيوطي (1/ 428 - 429).
وهذا القول حكاه بعضهم عن الشافعي كما في شرح البخاري لابن بطال (8/ 442)، وحكى ابن حزم في "المحلى"(12/ 15) عن الشافعي أنه كان يقول بسقوط الحد بالتوبة لما كان بالعراق، ثم رجع عنه لما كان بمصر.
(3)
انظر: أعلام الموقعين (3/ 15).
(4)
المحلى (12/ 12)، ونسب ابن رجب لابن حزم القول بأن الحدود لا تكون كفارة إلا بالتوبة، وفيه نظر؛ فإن نص كلام ابن حزم في المحلى (12/ 12):"كل من أصاب ذنبًا فيه حد فأقيم عليه ما يجب في ذلك فقد سقط عنه ما أصاب من ذلك -تاب أو لم يتب- حاش المحاربة، فإن إثمها باق عليه وإن أقيم عليه حدها، ولا يسقطها عنه إلا التوبة للَّه تعالى"، وهو ظاهر أن مذهب ابن حزم القول بأن الحدود كفارة إلا في حد الحرابة.
(5)
انظر: الفتاوى الكبرى (3/ 411).
(6)
هو أبو الخطاب، محفوظ بن أحمد بن حسن بن أحمد الكلوذاني البغدادي، أحد أئمة الفقه الحنبلي، درس الفقه على القاضي أبي يعلى، ولزمَهُ حتى برع في المذهب والخلاف، وصار إمام وقته، وفريد عصره في الفقه، من تصانيفه:"الهداية"، و"الخلاف الكبير" المسمى بـ "الانتصار في المسائل الكبار"، وغيرها، ولد سنة (432) هـ، ومات في جمادى الآخرة سنة (510) هـ. انظر: اللباب في تهذيب الأنساب 2/ 49، طبقات الحنابلة 409.
(7)
انظر: الإنصاف (10/ 300).
وإن كان شيخ الإسلام ابن تيمية قرر في كتابه الصارم المسلول (1/ 507) أن الخلاف عن =
• أدلة المخالفين: أما من قال بأن التوبة مسقطة للحد مطلقًا فاستدل بما يلي:
الدليل الأول: جاء في القرآن الكريم التصريح بإسقاط حد الزنا بالتوبة في قوله تعالى: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16)} (1)، وكذا جاء إسقاط حد السرقة أيضًا في قوله سبحانه:{فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)} (2). وهذا يفيد أن الحد يسقط بالتوبة.
الدليل الثاني: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاءه رجل، فقال: يا رسول اللَّه إني أصبت حدًا فأقمه عليّ، قال: ولم يسأله عنه، قال: وحضرت الصلاة فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة قام إليه رجل، فقال: يا رسول اللَّه إني أصبت حدًا فأقم فيّ كتاب اللَّه قال: (أليس
= الإمام أحمد في المسألة هو فيما لو لم يثبت الحد عند الإمام، أما إن ثبت عند الأمام فالمسألة محل إجماع أن التوبة لا تسقط الحد.
وقرر أن ما نُقل عن الإمام أحمد في هذه المسألة أن من تاب فلا حد عليه ولو ثبت عليه الحد عند الإمام، ليس بصواب، بل متى أظهر التوبة بعد أن ثبت عليه الحد عند الإمام بالبينة لم يسقط عنه الحد قولًا واحدًا عن الإمام أحمد، وأما إن تاب قبل أن يقدر عليه -بأن يتوب قبل أخذه وبعد إقراره الذي له أن يرجع عنه-: فهذا الذي فيه روايتان عن أحمد، إذ كان يقول بسقوط الحد ثم رجع عنه، وأيَّد ابن تيمية ذلك بأن هذا ما صرح به غير واحد من أئمة المذهب منهم الشيخ أبو عبد اللَّه بن حامد.
فتحصل مما قرره ابن تيمية أن المسألة عند الأمام أحمد على ثلاث حالات:
الحال الأولى: أن يتوب بعد ثبوت الحد عند الأمام، فهنا لا يسقط قولًا واحدًا عن الإمام أحمد.
الحال الثانية: أن يتوب قبل أن يقر بالحد، بأن يجيء للإمام تائبًا، فهذه لا حد فيها عند الإمام أحمد.
الحال الثالثة: أن يتوب بعد أن يقر، بأن يقر ثم يتوب، ففي هذه الحال روايتان عن أحمد، فكان يقول بسقوط الحد عنه، ثم رجع وقال بعدم سقوط الحد.
(1)
سورة النساء، آية (16).
(2)
سورة المائدة، آية (39).
قد صليت معنا؟ ) قال: نعم، قال:(فإن اللَّه قد كفر لك ذنبك -أو قال حدك (1) -) متفق عليه (2).
• وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقم الحد على الرجل الذي أصاب الحد، بل أخبره بأن اللَّه قد غفر له حدَّه بتوبته وصلاته.
الدليل الثالث: عن عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له)(3).
• وجه الدلالة: فيه دلالة على أن التائب من الذنب مساوٍ لمن لا ذنب له، ويدخل في ذلك من تاب من الذنب الذي بموجبه وجب عليه الحد.
(1) قال النووي في "شرح مسلم"(17/ 81): "هذا الحد معناه معصية من المعاصى الموجبة للتعزير، وهي هنا من الصغائر؛ لأنها كفرتها الصلاة، ولو كانت كبيرة موجبة لحد أو غير موجبة له لم تسقط بالصلاة، فقد أجمع العلماء على أن المعاصي الموجبة للحدود لا تسقط حدودها بالصلاة، هذا هو الصحيح في تفسير هذا الحديث.
وحكى القاضي عن بعضهم: أن المراد بالحد المعروف، وإنما لم يحده لأنه لم يفسِّر موجب الحد، ولم يستفسره النبي صلى الله عليه وسلم عنه إيثارًا للستر، بل استحب تلقين الرجوع عن الإقرار بموجب الحد صريحًا".
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6437)، ومسلم رقم (2764).
(3)
أخرجه ابن ماجه رقم (4250)، من طريق أبي عبيدة عن ابن مسعود رضي الله عنه.
وأبو عبيدة لم يسمع من ابن مسعود، إلا أن للحديث شواهد من حديث ابن عباس عند البيهقي في السنن الكبرى (10/ 154)، ومن حديث أبي سعيد الخدري عند الطبراني في "المعجم الكبير"(10/ 150).
ولذا حسَّن الحديث بعض أهل العلم بمجموع طرقه، قال السخاوي في المقاصد الحسنة (1/ 249):"رجاله ثقات، بل حسنه شيخنا -أي ابن حجر- يعني لشواهده، وإلا فأبو عبيدة جزم غير واحد بأنه لم يسمع من أبيه"، وحسنه الألباني أيضًا بمجموع طرقه وشواهده في "سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة"(2/ 83).
وأما يذكره كثير من الفقهاء مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ: (التوبة تجب ما قبلها) هذا لا أصل له، كما نبَّه عليه الألباني في "إرواء الغليل".
الدليل الرابع: قوله صلى الله عليه وسلم لماعز حين أقيم عليه الحد وجد مس الحجارة، فر يشتد حتى مر برجل معه لحي جمل، فضربه به، وضربه الناس، حتى مات، فذكروا ذلك لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أنه فر حين وجد مس الحجارة، ومس الموت، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:(هلا تركتموه لعله أن يتوب فيتوب اللَّه عليه)(1).
• وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد الصحابة رضي الله عنهم إلى أن الأفضل حين هرب ماعز أن يتركوه لتوبته، ولا يقيموا عليه الحد، وهو ظاهر في أن التوبة تسقط عنه الحد (2).
الدليل الخامس: أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي برجل أكره امرأة على الزنا، ثم جاء تائبًا، فلم يرجمه النبي صلى الله عليه وسلم وقال له:(اذهب فقد غفر اللَّه لك)(3).
وأما القائلون بأن الحدود تسقط بالتوبة قبل القدرة أما بعدها فلا فاستدلوا
(1) أخرجه أحمد (24/ 322)، والترمذي، كتاب: الحدود، باب: درء الحد عن المعترف إذا رجع، رقم (1428)، وأبو داود، كتاب: الحدود، باب: رجم ماعز بن مالك، رقم (4419)، وابن ماجه، كتاب: الحدود، باب: الرجم، رقم (2554)، قال الحاكم:"هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي، وقال الترمذي:"حديث حسن"، وقال ابن حجر في التلخيص (4/ 107):"إسناده حسن"، وصححه الألباني كما في "الإرواء"(7/ 354)، وأصله في الصحيحين.
(2)
انظر: أعلام الموقعين (2/ 60).
(3)
أخرجه الترمذي، كتاب: الحدود، باب: ما جاء في المرأة إذا استكرهت على الزنا، رقم (1454)، وقال:"هذا حديث حسن غريب صحيح"، وأبو داوود، كتاب: الحدود، باب: في صاحب الحد يجيء فيقر، رقم (4379)، من رواية سماك عن علقمة بن وائل الكندي عن أبيه، قال ابن القيم في الطرق الحكمية (1/ 86):"هذا الحديث إسناده على شرط مسلم"، وقال الألباني في السلسلة الصحيحة (2/ 599):"رجاله ثقات كلهم رجال مسلم، وفي سماك كلام لا يضر وهو حسن الحديث في غير روايته عن عكرمة"، وضغفه آخرون للاضطراب في رواياته ففي بعض الروايات أنه أمر برجم الرجل المُكرِه" وفي روايات أخرى أنه عفى عنه، ولذا قال الذهبي في "تذكرة الحفاظ" (3/ 88): "هذا حديث منكر جدًّا على نظافة إسناده".
بما يلي: الدليل الأول: قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)} (1).
• وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى أخبر أن المحارب إن تاب قبل القدرة عليهم فإنه يسقط عنه الحد، وهو يدل على أنه بعد القدرة عليه يقام عليه الحد بمفهوم المخالفة، ويقاس على ذلك سائر الحدود (2).
الدليل الثاني: أن من إذا تاب قبل القدرة فالظاهر أنها توبة إخلاص، أما بعد القدرة عليه فقد تكون تقية من إقامة الحد عليه (3).
الدليل الثالث: أن من تاب قبل القدرة عليه ففي قبول التوبة وإسقاط الحد عنه ترغيبًا له في التوبة، فناسب ذلك الإسقاط عنه، وأما بعدها فلا حاجة إلى ترغيبه؛ لأنه قد عجز عن الفساد والمحاربة (4).
الدليل الرابع: أن قبول توبة المحارب بعد القدرة عليه يفضي إلى انتهاك المحارم، وسد باب العقوبة؛ من جهة كونه ذريعة لكل مجرم قُبض عليه أن يتظاهر بالتوبة، مما ينتج عنه تعطيل حد اللَّه تعالى في الحرابة (5).
أما القائلون بأن التوبة تسقط الحد سواء قبل بلوغ أمره للإمام أو بعده، باستثناء حد الحرابة بعد القدرة عليه، فاستدلوا على سقوط الحد بأدلة القول الأول، واستدلوا على استثناء الحرابة قبل القدرة عليه بآية الحرابة التي استدل بها أصحاب القول الثاني.
النتيجة:
المسألة فيما يظهر ليست محل إجماع بين أهل العلم؛ لثبوت الخلاف عن بعض الفقهاء بسقوط الحد بالتوبة سواء قبل الرفع أو بعده وهو قول بعض الشافعية كالماوردي، والروياني، والمحاملي، واختاره ابن القيم،
(1) سورة المائدة، آية (34).
(2)
انظر: الفتاوى الكبرى لابن تيمية (3/ 411).
(3)
انظر: المغني (9/ 130).
(4)
انظر: المغني (9/ 130).
(5)
انظر: أسنى المطالب (4/ 156).