الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النتيجة:
المسألة فيما يظهر ليست محل إجماع بين أهل العلم؛ لثبوت الخلاف في ذلك عن بعض التابعين في جميع الحدود، وعن ابن حزم في حد الجلد، ولعل من نقل الإجماع لم يعتبر قول المخالف، واللَّه تعالى أعلم.
[7/ 1] الحدود كفارات لمن أقيمت عليه
• المراد بالمسألة: إذا ارتكب شخص ما يوجب الحد، وأقيم عليه الحد الذي فرضه اللَّه تعالى، فإنه يكون له كفارة، يسقط به عنه إثم ذلك الذنب.
• من نقل الإجماع: ابن رشد الجد (450 هـ): "الرجم كفارة للزنا بإجماع"(1).
وقال النووي (676 هـ): "الحد يكفر ذنب المعصية التي حُد لها. . . . ولا نعلم في هذا خلافًا"(2).
وقال ابن حجر (852 هـ): "قام إجماع أهل السنة على أن من أقيم عليه الحد من أهل المعاصي كان ذلك كفارة لإثم معصيته"(3) وقال الصنعاني (1182 هـ): "ورد أن هذه الحدود كفارات لمن أقيمت عليه، وهذا إجماع"(4).
• الموافقون على الإجماع: وافق على ذلك الحنابلة (5)، وابن حزم باستثناء حد الحرابة (6).
• مستند الإجماع: الدليل الأول: عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: كنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في مجلس فقال: (تبايعوني على أن لا تشركوا باللَّه شيئًا،
(1) البيان والتحصيل (2/ 269).
(2)
شرح النووي (11/ 199).
(3)
فتح الباري (12/ 112).
(4)
سبل السلام (2/ 426)، ونقل الإجماع أيضًا من المعاصرين الشيخ عبد اللَّه بن عبد الرحمن البسام في كتابه "تيسير العلام شرح عمدة الأحكام" (434) فقال:"الحد كفارة للمعصية التي أقيم الحد لها، وهو إجماع".
(5)
دقائق أولي النهى للبهوتي (3/ 341)، مطالب أولي النهى (6/ 168).
(6)
انظر: المحلى (12/ 12).
ولا تزنوا، ولا تسرقوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم اللَّه إلا بالحق، فمن وفى منكم فأجره على اللَّه، ومن أصاب شيئًا من ذلك فعوقب به فهو كفارة له، ومن أصاب شيئًا من ذلك فستره اللَّه عليه فأمره إلى اللَّه، إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه) متفق عليه (1).
• وجه الدلالة: الحديث نص صريح في أن إقامة الحدود كفارات لأهلها.
الدليل الثاني: عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أصاب حدًا فعُجِّل عقوبته في الدنيا، فاللَّه أعدل من أن يثني على عبده العقوبة في الآخرة، ومن أصاب حدًا فستره اللَّه عليه وعفا عنه فاللَّه أكرم من أن يعود في شيء قد عفا عنه) (2).
• وجه الدلالة: دل الحديث على أن العقوبة لا تثنى على العبد في الآخرة ما دام قد عوقب في الدنيا، وهذا من عدل اللَّه تعالى؛ ومن ثم فالحدود كفارات.
(1) أخرجه البخاري رقم (18)، ومسلم رقم (1709).
(2)
أخرجه أحمد (2/ 165)، والترمذي رقم (2626) وقال:"هذا حديث حسن غريب"، وابن ماجه رقم (2604). وأخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 48): وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، وقال الذهبي في تعليقه:"صحيح الإسناد"، وقال الضياء المقدسي في الأحاديث المختارة (400):"إسناده صحيح"، وحسن إسناده الحافظ ابن حجر في فتح الباري (1/ 68). والحديث رجاله ثقات رجال مسلم إلا أبو إسحاق السبيعي فإنه مدلس مختلط، لذا ضعف الألباني الحديث بهذا السند كما في ضعيف الجامع الصغير (783). إلا أن له شاهدًا من حديث خزيمة بن ثابت رضي الله عنه مرفوعًا بلفظ:(من أصاب ذنبا فأقيم عليه حد ذلك الذنب فهو كفارة له) أخرجه أحمد (36/ 191)، والدارقطني في سننه (3/ 214)، والطبراني في المعجم الكبير (4/ 88)، والبيهقي في السنن الكبرى (8/ 328)، وقال عنه البوصيري في "إتحاف المهرة بزوائد المسانيد العشرة" (5/ 132):"إسناده حسن"، وحسّن إسناده أيضًا ابن حجر في "فتح الباري"(1/ 68 - 69)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(2/ 1044).
الدليل الثالث: عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه (1) أن ماعز بن مالك الأسلمي أتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه إني قد ظلمت نفسي وزنيت، وإني أريد أن تطهرني، فرده، فلما كان من الغد أتاه، فقال: يا رسول اللَّه إني قد زنيت، فرده الثانية، فأرسل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى قومه فقال:(أتعلمون بعقله بأسًا، تنكرون منه شيئًا)، فقالوا: ما نعلمه إلا وفي العقل من صالحينا فيما نرى، فأتاه الثالثة، فأرسل إليهم أيضًا، فسأل عنه، فأخبروه أنه لا بأس به، ولا بعقله، فلما كان الرابعة حفر له حفرة ثم أمر به فرجم.
قال: فجاءت الغامدية فقالت: يا رسول اللَّه إني قد زنيت فطهرني، وإنه ردها، فلما كان الغد قالت: يا رسول اللَّه لم تردني؟ لعلك أن تردني كما رددت ماعزًا، فواللَّه إني لحبلى، قال:(إمَّا لا فاذهبي حتى تلدي)، فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة، قالت: هذا قد ولدته، قال:(اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه)، فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز، فقالت: هذا يا نبي اللَّه قد فطمته، وقد أكل الطعام، فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين، ثم أمر بها، فحفر لها إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها. . . . الحديث (2).
• وجه الدلالة: أن ماعز بن مالك صرح بأن الحد تطهير للذنب بقوله: "إني قد ظلمت نفسي وزنيت، وإني أريد أن تطهرني"، وكذا الغامدية في قولها:
(1) هو بريدة بن الحصيب بن عبد اللَّه بن الحارث بن الأعرج بن سعد الأسلمي، المروزي، غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم ست عشرة غزوة، وكان غزا خراسان في زمن عثمان، ثم تحول إلى مرو فسكنها إلى أن مات في خلافة يزيد بن معاوية سنة (63) هـ انظر: الإصابة 1/ 146، مشاهير علماء الأمصار 61، التعديل والتجريح 1/ 435.
(2)
أخرجه مسلم رقم (1695)، وأخرج البخاري إقرار ماعز، انظر: صحيح البخاري، كتاب: الحدود، باب: هل يقول الإمام للمقر: لعلك غمزت أو قبلت، رقم (2502).
"قد زنيت فطهرني"، وقد أقرهما النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك (1).
• المخالفون للإجماع: خالف في المسألة جماعة من الفقهاء وهم على ثلاثة أقوال:
القول الأول: قالوا بأن الحد لا يُسقط إثم تلك المعصية، بل لابد من التوبة، فإن حد ولم يتب بقي عليه إثم تلك المعصية حتى يتوب.
وهو قول الحنفية (2)، وبه قال سعيد بن المسيب (3)، وصفوان بن سليم (4)، واختاره البغوي (5).
القول الثاني: أن الحدود كفارات لمن أقيمت عليه باستثناء الحرابة فإنه لا يُكفرها مجرد الحد، بل لا بد أن تقترن بالتوبة. وبه قال ابن حزم (6).
(1) انظر: فتح الباري لابن رجب (1/ 74).
(2)
انظر: تبيين الحقائق (3/ 163)، البحر الرائق (5/ 3).
(3)
هو أبو محمد، سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب، المخزومي القرشي، المدني، شيخ الإسلام، وسيد التابعين وإمامهم وأجلهم، وأحد الفقهاء السبعة، جمع بين الحديث والفقه، والزهد والعبادة، وكان فقيه النفس، قوالًا بالحق، لا يخاف في اللَّه لومة لائم، توفي بالمدينة سنة (94 هـ). انظر: الطبقات الكبرى 5/ 88، التاريخ الكبير 3/ 510، تهذيب التهذيب 4/ 74.
(4)
هو أبو عبد اللَّه، صفوان بن سليم، ثقة، حجة، فقيه، عابد، قال أبو ضمرة:"رأيته ولو قيل له الساعة غدا ما كان عنده مزيد عمل"، كان يصلي بالليل حتى تورمت قدماه، وكان يتهجد بالشتاء فوق السطح لئلا ينام، توفي بالمدينة سنة (132 هـ). انظر: العبر في خبر من غبر 1/ 176، تذكرة الحفاظ 1/ 134، سير أعلام النبلاء 5/ 364.
(5)
انظر: معالم التنزيل (2/ 50)، ونقله عنه جمع منهم ابن رجب في "جامع العلوم والحكم"(171)، وابن حجر في "فتح الباري"(1/ 68).
(6)
انظر: المحلى (12/ 12).
أما ما نسبه ابن رجب في "جامع العلوم والحكم"(171)، وابن حجر في "فتح الباري"(1/ 68) إلى ابن حزم بأنه يرى أن الحدود لا تُكفِّر الذنب، ففيه نظر، أو توسعٌ، فإن نص عبارة ابن حزم في "المحلى" (12/ 12) قوله: "كل من أصاب ذنبًا فيه حد فأقيم عليه ما يجب في ذلك فقد سقط =
القول الثالث: ذهب طائفة إلى التوقف في المسألة (1).
• أدلة المخالفين: أما الحنفية فاستدلوا بقوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)} (2).
• وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى أخبر أن المحاربين بعد إقامة الحد عليهم فإن لهم عذاب عظيم في الآخرة، وهو يدل على أن الحد لم يُسقط عنهم الإثم والعقوبة في الآخرة، وإنما استثنى من ذلك من تاب فقط (3).
وأما ابن حزم فاستثنى المحاربين بدليل آية الحرابة السابقة.
• وجه الدلالة: في الآية دلالة على أن المحاربين معذبون في الآخرة حتى بعد إقامة الحد عليهم، هو يدل على إخراج المحاربين من النصوص الدالة على أن الحدود كفارات، ويبقى ما عداها من المعاصي على التكفير بالحد بموجب الأحاديث الدالة على ذلك (4).
• أما من توقف في المسألة فاستدلوا بحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال
= عنه ما أصاب من ذلك، تاب أو لم يتب، عدا المحاربة؛ فإن إثمها باق عليه وإن أقيم عليه حدها، ولا يسقطها عنه إلا التوبة للَّه تعالى فقط" ثم شرع يستدل لقوله ذلك، وهو صريح في أن ابن حزم يرى أن الحد كفارة للذنب، إلا في حد الحرابة فلا بد من توبة.
(1)
انظر: شرح النووي (11/ 224)، فتح الباري (1/ 66)، كذا ذكره القاضي عياض والنووي وغيرهما دون أن ينسبوه إلى شخصٍ أو مذهب بعينه.
(2)
سورة المائدة، آية (33 - 34).
(3)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (2/ 579)، البحر الرائق (5/ 3).
(4)
انظر: المحلى (12/ 13).