الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[19/ 1] يباح للإنسان أن يستر على نفسه الحد
• المراد بالمسألة: إذا ارتكب شخص ما يوجب الحد، وكانت من الحدود الخالصة للَّه، فإن له أن يستر على نفسه، ولا يجب عليه أن يرفع أمره للحاكم حتى يُقام عليه الحد.
والمراد بالمسألة تقرير الإجماع على إباحة الستر في الحدود لمن تاب من ذلك، أما مسألة التفضيل بين أن يستر الإنسان على نفسه أو أن يُبلغ عن نفسه، وكذا مسالة من عَلم أن شخصًا قد وجب عليه الحد فهل له أن يكتم عنه، أم يجب عليه أن يشهد، وكذا إن كان الحد ليس حدًا خالصًا للَّه وهو حد القذف فكل ذلك غير مراد (1).
• من نقل الإجماع: قال ابن حزم (456 هـ): "جميع الأمة متفقون على أن الستر مباح، وأن الاعتراف مباح، وإنما اختلفوا في الأفضل، ولم يقل أحد من أهل الإسلام: إن المعترف بما عمل مما يوجب الحد عاص للَّه تعالى في اعترافه، ولا قال أحد من أهل الإسلام قط: إن الساتر على نفسه ما أصاب من حد: عاص للَّه تعالى"(2).
وقال ابن عبد البر (463 هـ): "السلطان لا يحل له أن يعطل حدًا من الحدود التي للَّه عز وجل، إقامتها عليه إذا بلغته، كما ليس له أن يتجسس عليها إذا استترت عنه، وبأن الشفاعة في ذوي الحدود حسنة جائزة، وإن كانت الحدود فيها واجبة إذا لم تبلغ السلطان، وهذا كله لا أعلم فيه خلافا بين العلماء، وحسبك بذلك علمًا"(3).
وقال ابن الهمام (861 هـ): "هذه الأخبار الواردة في طلب الستر بلغت مبلغًا لا تنحطُّ به عن درجة الشهرة، لتعدد متونها، مع قبول الأمة لها، فصح
(1) انظر: المنثور في القواعد للزركشي (2/ 66 - 67).
(2)
المحلى (12/ 14).
(3)
الاستذكار (7/ 540).
التخصيص بها، أو هي مستند الإجماع على تخيير الشاهد في الحدود، فثبوت الإجماع دليل ثبوت المخصص" (1).
• الموافقون على الإجماع: وافق على ذلك الشافعية (2)، والحنابلة (3).
• مستند الإجماع: الدليل الأول: عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: كنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في مجلس فقال: (تبايعوني على أن لا تشركوا باللَّه شيئًا، ولا تزنوا، ولا تسرقوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم اللَّه إلا بالحق، فمن وفى منكم فأجره على اللَّه، ومن أصاب شيئًا من ذلك فعوقب به فهو كفارة له، ومن أصاب شيئًا من ذلك فستره اللَّه عليه فأمره إلى اللَّه، إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه) متفق عليه (4).
• وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر من ستره اللَّه بالاعتراف أن يعترف بجرمه.
الدليل الثاني: عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قام بعد أن رُجم الأسلمي فقال: (اجتنبوا هذه القاذورة التي نهى اللَّه عنها، فمن ألمَّ فليستتر بستر اللَّه، وليتب إلى اللَّه؛ فإنه من يُبد لنا صفحته نقم عليه كتاب اللَّه عز وجل (5).
(1) فتح القدير (7/ 368)، وأراد بذلك أن الأحاديث المتعددة في طلب الستر، وكذا ثبوت الإجماع على إباحة الستر فكل منها يخِّصص النصوص الواردة في وجوب أداء الشهادة.
(2)
انظر: روضة الطالبين (4/ 174)، أسنى المطالب (4/ 131)، نهاية المحتاج (8/ 8).
(3)
انظر: المغني (9/ 71)، الفروع (6/ 60)، مطالب أولي النهى (6/ 168).
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (18)، ومسلم رقم (1709).
(5)
أخرجه الحاكم في المستدرك (4/ 272)، والبيهقي في معرفة السنن والآثار (13/ 74) موصولًا من طريق عمرو بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنه.
وأخرجه مالك في الموطأ (5/ 1205)، والشافعي في الأم (6/ 157)، والبيهقي في السنن الصغري (3/ 345)، عن زيد بن أسلم مرسلًا.
فمن أهل العلم ضغَّف الحديث لإرساله منهم الشافعي في "الأم" حيث قال (6/ 149) "غير =
• وجه الدلالة: الحديث صريح في الأمر بالاستتار لمن أصاب حدًا (1).
الدليل الثالث: عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تعافوا الحدود قبل أن تأتوني به، فما أتاني من حد فقد وجب)(2).
• وجه الدلالة: في الحديث إرشاد إلى العفو عن الحدود وعدم رفعها للحاكم، وهو يدل على إباحة التستر وعدم وجوب رفع الحد للحاكم (3).
= متصل الإسناد"، وقال الدارقطني في "العلل" (12/ 386) بعد أن ذَكر الطرق الموصولة: "ورواه ليث بن سعد، وابن عُيَينة، وحماد بن زيد، عن يحمى بن سعيد، عن عبد اللَّه بن دينار مرسلًا عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهو أشبهها بالصواب"، وقال البيهقي في معرفة السنن والآثار (13/ 73): "غير متصل الإسناد"، وقال ابن عبد البر في "الاستذكار" (7/ 497): "لم يختلف عن مالك في إرسال هذا الحديث، ولا أعلمه يستند بهذا اللفظ من وجه من الوجوه".
بينما صحح الحديث جماعة من أهل العلم منهم ابن الصباغ كما نقله عنه ابن الملقن في "البدر المنير"(8/ 616)، وقال الحاكم في "المستدرك" (4/ 272):"هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي قي تعليقه فقال:"على شرط البخاري ومسلم"، وصححه أيضًا ابن السكن، وقال العراقي في "المغني عن حمل الأسفار" (2/ 813):"إسناده حسن"، وقال الهيتمي في "الزواجر عن اقتراف الكبائر" (2/ 209):"بإسناد جيد"، وقال ابن المقري في روضة الطالب مع شرحه أسنى المطالب (4/ 131):"بإسناد جيد"، وقال الشوكاني في "فتح الغفار الجامع لأحكام سنة نبينا المختار" (3/ 1653):"أسنده الحاكم والبيهقي من رواية ابن عمر بإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم"، وصححه الألباني في "صحيح الجامع الصغير"(1/ 93).
وقد نبَّه الشافعي في "الأم"(157) إلى أن الحديث وإن كان ضعيف السند إلا أنه صحيح المعنى للأحاديث الدالة على الستر فقال: (هذا حديث منقطع ليس مما يثبت به هو نفسه حجة، وقد رأيت من أهل العلم عندنا من يعرفه ويقول به فنحن نقول به".
(1)
انظر: الاستذكار (7/ 466)، أسنى المطالب (4/ 131)، سبل السلام (2/ 423).
(2)
أخرجه أبو داود رقم (538)، والنسائي، رقم (4885).
(3)
انظر: الاستذكار (7/ 467).
الدليل الرابع: عن عبد اللَّه بن بريدة (1) عن أبيه رضي الله عنه قال: جاء ماعز بن مالك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه، طهرني؟ فقال:(ويحك ارجع فاستغفر اللَّه وتب إليه)، قال: فرجع غير بعيد ثم جاء فقال: يا رسول اللَّه، طهرني؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:(ويحك، ارجع فاستغفر اللَّه وتب إليه)، قال: فرجع غير بعيد، ثم جاء فقال: يا رسول اللَّه طهرني؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، حتى إذا كانت الرابعة قال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:(فيم أطهرك)؟ فقال: من الزنا، فسأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:(أبه جنون)؟ فأخبر أنه ليس بمجنون، فقال:(أشرب خمرًا)؟ فقام رجل فاستنكهه (2) فلم يجد منه ريح خمر، قال فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:(أزنيت)؟ فقال: نعم، فأمر به فرجم (3).
وفي بعض الروايات أن ماعزًا استشار هزال بن يزيد (4)، فأاشار عليه هزال بأن يذهب للنبي صلى الله عليه وسلم فيُخبره، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ويلك يا هزال لو كنت سترته
(1) هو أبو سهل، عبد اللَّه بن بريدة بن الحصيب الأسلمي، ثقة حافظ محدث، روى عن جملة من الصحابة، أصله من الكوفة، سكن البصرة، ونولى القضاء حتى مات سنة (125 هـ). انظر: التعديل والتجريح 2/ 812، الثقات لابن حبان 5/ 16، تاريخ دمشق 27/ 125.
(2)
أي أمر بشمِّ رائحة فمه، ومنه:"النَّكهِة": وهي رائحة الفم، ويقال:"كَهَّ في وجْهِي": أَي تنفَّسَ، والمراد أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من يشُم فم ماعز، بأن يتنفَّس ماعز في وجهه فيشم ريحه، ليعلم هل فيه رائحة خمر أو لا. انظر: لسان العرب، مادة (كهكه)(13/ 537)، مختار الصحاح (688).
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه رقم (1695)، وأخرج البخاري إقرار ماعز، انظر: صحيح البخاري رقم (2502).
(4)
هو هزال بن يزيد بن ذئاب بن كليب بن عامر بن جذيمة بن مازن الأسلمي، كانت له جارية ترعى غنمًا له، ووقع عليها ماعز بن مالك، ولم يذكر أهل التراجم عنه إلا نسبه وقصته مع ماعز، ولم يذكروا شيئًا أخباره أو سنة ولادته أو وفاته. انظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب 4/ 1438، الإصابة في تمييز الصحابة 6/ 536.
بثوبك كان خيرًا لك) (1).
• وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم رد ماعزًا حين أقر بالزنا، وأمره أن يرجع إلى اللَّه فيستغفره ويتوب إليه، وهو يدل على أن ذلك خير له من أن يرفع نفسه للحاكم ليُقام عليه الحد (2).
الدليل الخامس: عموم الأحاديث الدالة على الستر ومنها:
أ- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يستر اللَّه على عبد في الدنيا إلا ستره اللَّه يوم القيامة)(3).
ب- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يستر عبدٌ عبدًا في الدنيا إلا ستره اللَّه يوم القيامة)(4).
ج- عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ستر مسلمًا ستره اللَّه يوم القيامة) متفق عليه (5).
• وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد أمته إلى الستر في المعاصي، وأنها سبيل للستر في الآخرة، وهذا عام يدخل في الحدود، قال ابن عبد البر:"وإذا كان ستر المسلم على المسلم مندوبًا إليه مرغوبًا فيه فستر المرء على نفسه أولى به، وعليه التوبة مما وقع فيه"(6).
(1) أخرجه أحمد (36/ 218)، وأبو داود رقم (4377)، والنسائي في السنن الكبرى رقم (7275)، وقال الحاكم في المستدرك (4/ 403):"هذا حديث صحيح الإسناد لم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في تعليقه فقال:"صحيح"، وقال ابن عبد الهادي في "تنقيح التحقيق" (4/ 535):"هذا الإسناد صالح"، وقال الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" (2/ 291):"صحيح لغيره".
(2)
انظر: الاستذكار (7/ 467)، المنتقى شرح الموطأ (5/ 188).
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2590).
(4)
أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2590).
(5)
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2301)، ومسلم رقم (2580).
(6)
انظر: الاستذكار (7/ 467)، وانظر: العناية شرح الهداية (7/ 376)، المغني (9/ 71)، دقائق أولي النهى (3/ 340)، مجموع الفتاوى (34/ 108)، شرح ابن بطال (8/ 444).
الدليل السادس: أنه مروي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، قال الشافعي:"روي أن أبا بكر أمر رجلًا في زمان النبي صلى الله عليه وسلم أصاب حدًا بالاستتار، وأن عمر أمره به، وهذا حديث صحيح عنهما"(1).
الدليل السابع: أنه قد ثبت جواز تلقين المُقر بالحد ليرجع عن إقراره، وهو مروي عن جمع من الصحابة رضي الله عنهم كأبي بكر، وعمر، وعلي، وأبي هريرة، وأبي مسعود، وأبي الدرداء، وعمرو بن العاص، وأبي واقد الليثي (2) رضي الله عنهم (3)، وهو ثابت عن بعضهم كما قال ابن حجر:"ثبت عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم تلقين المقر بالحد"(4).
بل نقل النووي الاتفاق على مشروعية تلقين المقر ليرجع عن إقراره فقال: "قد جاء تلقين الرجوع عن الإقرار بالحدود عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن الخلفاء الراشدين، ومن بعدهم، واتفق العلماء عليه"(5)، وإذا جاز تلقينه ليرجع عن إقراره، فسكوته عن الاعتراف بنفسه جائز من باب أولى.
(1) الأم (6/ 149)، وانظر في تخريجهما: مصنف عبد الرزاق (10/ 227)، مصنف ابن أبي شيبة (6/ 462) وصحح الحافظ ابن حجر إسناده في "الإصابة"(2/ 229)، الطبقات الكبرى لابن سعد (5/ 13)، معرفة السنن والآثار (6/ 472).
(2)
هو أبو واقد، اختلف في اسمه فقيل الحارث بن مالك، وقيل: عوف بن الحارث، وقيل غير ذلك، من بني ليث بن بكر بن عبد مناة بن علي بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر، أسلم قديمًا، وشهد بدرًا، سكن مكة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، حتى مات بها سنة (68 هـ). انظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب 4/ 1774، معجم الصحابة 2/ 42، تهذيب التهذيب 12/ 295.
(3)
أخرج هذه الآثار ابن أبي شيبة في مصنفه (5/ 544)، وعبد الرزاق في مصنفه (10/ 224).
(4)
فتح الباري (12/ 126)، وانظر: شرح النووي (11/ 195).
(5)
شرح النووي (11/ 195)، وانظر: نهاية المحتاج (7/ 463) حيث قال الرملي: "من أقر بعقوبة للَّه تعالى -أي بموجبها، كزنى، وسرقة، وشرب مسكر، ولو بعد دعوى، فالصحيح أن للقاضي أن يعرض له، أي يجوز له كما في الروضة، لكن في شرح مسلم إشارة إلى نقل الإجماع على ندبه، وحكاه عن الأصحاب والمعتمد الأول" بتصرف يسير.