الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني مسائل الإجماع في العقوبات التعزيرية
[268/ 5] نسخ العقوبة بالمال
.
• المراد بالمسألة: من التعزيرات التي كانت مشروعة العقوبة بالمال، إما بتحريقه، أو بمنعه، إلا أن هذا النوع من التعزير قد نُسخ حكمه، فلا يجوز للإمام التعزير به. والتعزير بالمال له أربع صور:
أولًا: التعزير بإتلاف المال، ومن ذلك شق أوعية الخمر، وتحريق أمكنة الخمارين، الأمر بقطع من لبس ثوب الحرير.
ثانيًا: التعزير بتغيير المال، مثل تقطيع الستر الذي فيه صورة إلى وسادتين، وإلزام من آذى جاره ولم ينته بأن يبيع داره.
ثالثًا: التعزير بتمليك المال، مثل مضاعفة الغرم على السارق من غير حرز بأن يرُدَّ ما سرقه ومثله معه، وتعزير مانع الزكاة بدفع الزكاة، ونصف ما وجب عليه من الزكاة.
رابعًا: التعزير بحبس المال، وذلك بأن يحبس الإمام عن صاحب المعصية ماله حتى يتوب، فإن تاب ردَّ إليه ماله.
وجميع هذه الصور لا يجوز للإمام أن يعاقب بها.
• من نقل الإجماع: قال الشوكاني (1250 هـ): "قد نقل الطحاوي والغزالي الإجماع على نسخ العقوبة بالمال"(1).
• الموافقون على الإجماع: وافق على ذلك الحنفية (2)، والمالكية في
(1) انظر: نيل الأوطار (4/ 147)، ولم أجد نص الطحاوي والغزالي بعد البحث عنه في مظانه، فاللَّه أعلم.
(2)
انظر: البحر الرائق (5/ 44)، الفتاوى الهندية (2/ 167).
قول (1)، والشافعية (2)، والحنابلة (3).
• مستند الإجماع: عموم الأدلة الدالة على النهي عن إضاعة المال ومنها حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن اللَّه حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنع وهات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال) متفق عليه (4).
• المخالفون للإجماع: ذهب جماعة من الفقهاء إلى جواز العقوبة بالمال. وبه قال بعض الحنفية منهم أبو يوسف (5)، وهو قول للمالكية في بعض الصور (6)، وقول في مذهب أحمد اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية (7) وابن القيم (8).
• دليل المخالف: استدل من أجاز العقوبة بالمال بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، ومن بعده
(1) انظر: حاشية الدسوقي (3/ 47)، منح الجليل (4/ 533).
(2)
انظر: المجموع (5/ 308)، فتوحات الوهاب (5/ 164).
(3)
مطالب أولي النهى (6/ 224)، دقائق أولي النهى (3/ 366)، كشاف القناع (6/ 124).
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2277)، ومسلم رقم (593).
(5)
انظر: تبيين الحقائق (3/ 208)، البحر الرائق (5/ 44)، معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام (195).
وعبارة أبي يوسف هي جواز العقوبة بأخذ المال، وقد جاء في "البحر الرائق" أن مراد أبي يوسف بهذا اللفظ هو العقوبة بحبس المال دون غيره من العقوبات المالية، وهو بمعنى إمساك مال صاحب المعصية، حتى يرتدع، فإذا رجع وتاب، رُد إليه ماله.
وأما إتلاف المال، أو أخذ المال للسلطان أو لبيت المال فذلك غير جائز.
(6)
انظر: تبصرة الحكام (2/ 296)، مواهب الجليل (4/ 345)، شرح مختصر خليل (8/ 110).
ومن صور العقوبة بالمال عن بعص المالكية أن من آذى جاره ولم ينته عن ذلك فللإمام أن يبيع الدار.
(7)
انظر: الفتاوى الكبرى (4/ 211)، وقد نص شيخ الإملام أن في مذهب أحمد جواز العقوبة بإتلاف المال، أو أخذه، ومن باب أولى إمساكه ثم ردُّه لصاحبه بعد توبته.
(8)
انظر: حاشية ابن القيم على سنن أبي داود (4/ 319)، الطرق الحكمية (226).
وذلك في عدة مواطن ومنها:
الدليل الأول: عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه ركب إلى قصره بالعقيق، فوجد عبدًا يقطع شجرًا أو يخبطه، فسلبه، فلما رجع سعد جاءه أهل العبد فكلموه أن يرد على غلامهم أو عليهم ما أخذ من غلامهم، فقال:"معاذ اللَّه أن أرد شيئًا نفَّلنيه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأَبَى أن يرد عليهم"(1).
• وجه الدلالة: الحديث ظاهر أن من قطع شجر حرم المدينة، فإنه يُباح سلَبه، وهذا من باب العقوبة بالمال.
الدليل الثاني: عن عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنه قال: رأى النبي صلى الله عليه وسلم عليّ ثوبين معصفرين (2) فقال: (أأمُّك أمرتك بهذا؟ ) قلت: أغسلهما، قال:(بل أحرقهما)(3).
الدليل الثالث: عن عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه حرّق نخل بني النضير" متفق عليه (4).
• وجه الدلالة من الحديثين: الحديثين السابقين ظاهرين في العقوبة بإتلاف المال.
الدليل الرابع: عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أنه سئل عن الثمر المعلق؟ فقال: (ما أصاب من ذي حاجة غير متخذ
(1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (990).
(2)
أي مصبوغة بالعُصفر، وهو نوع من النبات يُستخرج به صِبغ أصفر أو أحمر، تُصبغ به الثياب، ليُعطي منظرًا ورائحة طيِّبة، كالزعفران، قال ابن فارس في "مقاييس اللغة" (4/ 369):"وهذا إن كان معرَّبًا فلا قياسَ له، وإنْ كان عربيًا فمنحوتٌ من عَصَر وصَفر، يراد به عُصارته وصُفْرته". انظر: المصباح المنير (214)، المعجم الوسيط (2/ 605).
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2077).
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2201)، ومسلم رقم (1746).
خبنة (1) فلا شيء عليه، ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثليه والعقوبة، ومن سرق شيئًا منه بعد أن يؤويه الجرين (2) فبلغ ثمن المجن فعليه القطع، ومن سرق دون ذلك فعليه غرامة مثليه والعقوبة) (3).
(1) الخبنة: معطف الإزار وطرفه من أسفل، وما يأخذه الإنسان بحضنه أو تحت إبطه، والمراد به في الحديث من أكل ولم يأخذ في ثوبه شيء. انظر: تاج العروس، مادة:(خبن)، (34/ 477).
(2)
الجرين: هو المكان المُعد لجمع الثمر بعد قطفه، لأجل تجفيفه، ويطلق عليه اسم: البَيْدر، والمِربد، وجمعه:"جُرُنْ" انظر: المصباح المنير (97)، المطلع على أبواب الفقه للبعلي (132).
(3)
أخرجه أحمد (11/ 273)، والترمذي رقم (1289)، وقال:"هذا حديث حسن"، وأبو داود رقم (4390)، والنسائي رقم (4958).
والحديث ضعفه ابن حزم في المحلى (12/ 305 - 306)؛ لأنه من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
بينما احتج به جماعة من الحفاظ، كما قال الألباني في "صحيح أبي داود" (5/ 395):"إسناده حسن، وحسنه الترمذي، وصححه ابن الجارود، والحاكم، والذهبي".
وقد اختلف أهل العلم في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، فمنهم من جعله من أصح الأسانيد كما قال إسحاق بن راهويه:"إذا كان الراوي عن عمرو بن شعيب ثقة فهو كأيوب عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما".
ومنهم من ضعفه كما قال يحيى بن سعيد: "حديثه عندنا واه"، "وإليه ذهب ابن حزم، قال الألباني في الإرواء (1/ 266): "والحق الوسط وهو أنه حسن الحديث، وقد احتج بحديثه جماعة من الأئمة المتقدمين كأحمد، وابن المديني، وإسحاق، والبخاري، وغيرهم".
قال الزيلعي في "نصب الراية"(1/ 59): "ومن فوائد شيخنا الحافظ جمال الدين المزي قال: عمرو بن شعيب يأتي على ثلاثة أوجه: عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وهو الجادة.
وعمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنه.
وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنه، فعمرو له ثلاثة أجداد: محمد، وعبد اللَّه، وعمرو بن العاص، فمحمد تابعي، وعبد اللَّه، وعمرو صحابيان، فإن كان المراد بجده محمدا فالحديث مرسل؛ لأنه تابعي، وإن كان المراد به عمرو، فالحديث منقطع؛ لأن شعيبًا لم يدرك عمرًا، وإن كان المراد به عبد اللَّه فيحتاج إلى معرفة سماع شعيب من عبد اللَّه، وقد ثبت في "الدارقطني" وغيره بسند صحيح سماع عمرو من أبيه شعيب، وسماع شعيب من جده عبد اللَّه".
• وجه الدلالة: في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم عاقب السارق بدفع ضعفي ما سرق، وهذا من باب العقوبات المالية (1).
الدليل الخامس: عن عبد الرحمن بن حاطب (2): "أن رقيقًا لحاطب سرقوا ناقة لرجل من مزينة، فانتحروها، فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأمر عمر رضي الله عنه كثير بن الصلت (3) أن يقطع أيديهم، ثم قال عمر رضي الله عنه: "أراك تجيعهم"، ثم قال عمر: "واللَّه لأغرمنك غرمًا يشق عليك"، ثم قال للمزني (4): "كم ثمن ناقتك" فقال المزني: قد كنت واللَّه أمنعها من أربع مائة درهم، فقال عمر: "أعطه ثمان مائة درهم" (5).
• وجه الدلالة: أن عمر رضي الله عنه أوجب على حاطب مثلي قيمة الناقة المسروقة،
(1) وقد أخذ الإمام أحمد بهذا الحديث فأوجب على السارق ضعفي ما سرق، وهو سورة من صور العقوبات المالية. انظر: المغني (9/ 105)، دقائق أولي النهى (3/ 375)، كشاف القناع (6/ 139).
(2)
هو عبد الرحمن بن حاطب بن أبي بلتعة اللخمي، ولد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ذكره جماعة في الصحابة، وذكره البخاري ومسلم وابن سعد والجمهور في التابعين، قال ابن سعد:"كان ثقة، قليل الحديث"، مات سنة (68 هـ). انظر: الإصابة 5/ 30، تهذيب التهذيب 6/ 158.
(3)
هو أبو عبد اللَّه، كثير بن الصلت بن معدي كرب بن وكيعة بن شرحبيل بن معاوية الكندي، المدني، روى عن أبي بكر وعمر وعثمان وزيد بن ثابت وجماعة، وكان كاتبًا لعبد الملك بن مروان على الرسائل ذكره بن سعد في الطبقة الأولى من تابعي أهل المدينة، وثقه العجلي، وابن حبان، قيل أنه أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وجزم أبو حاتم الرازي وأبو أحمد العسكري وابن مندة وغيرهم أنه ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. انظر: تاريخ دمشق 50/ 34، الكاشف 3/ 5، تهذيب التهذيب 8/ 419.
(4)
الرجل الذي من مزينة لم أجد له ترجمة خاصة بهذه القصة.
(5)
أخرجه مالك في الموطأ (1436).
والحديث من حيث السند صحيح كما قال ابن حزم في المحلى (12/ 307): "هذا أثر عن عمر كالشمس"، لكن أهل العلم لم يأخذوا بعموم الحديث كما قال ابن عبد البر في الاستذكار (7/ 209):"أدخل مالك هذا الحديث في كتابه الموطأ وهو حديث لم يتوطأ عليه، ولا قال به أحد من الفقهاء ولا أرى العمل به".