الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدليل الثاني: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23)} (1).
• وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى توعد القاذف باللعن وتوعده بالعذاب العظيم وذلك لا يكون إلا على أمر محرم وكبيرة من الكبائر.
الدليل الثالث: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات)، قالوا: يا رسول اللَّه وما هن؟ قال: (الشرك باللَّه، والسحر، وقتل النفس التي حرم اللَّه إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات) متفق عليه (2).
النتيجة:
المسألة فيما يظهر محل إجماع بين أهل العلم؛ لعدم المخالف، واللَّه تعالى أعلم.
[156/ 3] من نفى رجلًا عن أبيه وكانت أمه حرة مسلمة عفيفة فعليه الحد
.
• المراد بالمسألة: من صور القذف عند الفقهاء أن ينفي الرجل شخصًا عن أبيه، بأن يقول له: أنت لست بابن فلان، وتكون أُمُّه محصنة.
ويتبيَّن مما سبق أنه إن كانت أمه غير محصنة بكونها ليست حرةً، أو ليست مسلمة، أو ليست عفيفة، فالمسألة غير مرادة (3).
• من نقل الإجماع: قال ابن عبد البر (463 هـ): "لا خلاف بين السلف والخلف من العلماء فيمن نفى رجلًا عن أبيه وكانت أمه حرة مسلمة عفيفة، أن عليه الحد، ثمانين جلدة، إن كان حرًا"(4).
وقال ابن رشد الحفيد (595 هـ): "أما القذف الذي يجب به الحد فاتفقوا على وجهين: أحدهما: أن يرمي القاذف المقذوف بالزنا. والثاني: أن ينفيه عن
(1) سورة النور، آية (23).
(2)
أخرجه البخاري رقم (2615)، ومسلم رقم (89).
(3)
لأن القذف هنا للأم وليس للولد، ومن شرط القذف إحصان الأم بأن تكون حرة مسلمة عفيفة.
(4)
الاستذكار (7/ 520).
نسبه إذا كانت أمه حرة مسلمة" (1).
وقال ابن القطان (628 هـ): "الحد على من نفى رجلًا عن أبيه وإن كانت أم المنفي مملوكة، ولا خلاف بينهم أنه يُحد إن كانت أم المنفي حرة عفيفة"(2).
• الموافقون على الإجماع: وافق على ذلك الحنفية (3)، والشافعية (4)، والحنابلة (5).
• مستند الإجماع: الدليل الأول: عن الأشعث بن قيس قال: أتيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في وفد كندة، ولا يروني إلا أفضلهم، فقلت: يا رسول اللَّه، ألستم منا؟ فقال:(نحن بنو النضر بن كنانة، لا نقفو أمُّنا (6)، ولا ننتفي من أبينا) قال: فكان الأشعث بن قيس يقول: "لا أوتى برجل نفى رجلًا من قريش من النضر بن كنانة إلا جلدته الحد"(7).
(1) بداية المجتهد ونهاية المقتصد (4/ 224).
(2)
الإقناع في مسائل الإجماع (2/ 248).
(3)
انظر: فتح القدير (5/ 320)، البناية شرح الهداية (6/ 365).
(4)
انظر: مغني المحتاج (5/ 57)، نهاية المحتاج (7/ 108).
(5)
انظر: المغني (9/ 90)، الشرح الكبير على متن المقنع (10/ 223).
(6)
أي لا نقذفها، يقال: قفوت الرجل، إذا قذفته صريحًا، وقفوت الرجل أقفوه قفوًا: إذا رميته باسم قبيح. انظر: غريب الحديث لابن سلام (4/ 407)، غريب الحديث للخطابي (2/ 243)، غريب الحديث لابن الجوزي (2/ 260).
(7)
أخرجه أحمد (36/ 160)، وابن ماجه رقم (2612) من طريق حماد بن سلمة، عن عقيل بن طلحة، عن مسلم بن هيضم، عن الأشعث بن قيس رضي الله عنه.
والحديث رجاله ثقات غير مسلم بن هضيم فإنه صدوق، حديثه حسن، لذا قال ابن كثير في "البداية والنهاية" (2/ 186):"إسناده جيد قوي"، وقال البوصيري في "إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة" (6/ 50):"إسناده رواته ثقات"، وقال في "مصباح الزجاجة" (2/ 73):"هذا إسناد صحيح رجاله ثقات"، وقال الضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة" (2/ 218):"إسناده حسن"، وقال الألباني في "إرواء الغليل" (8/ 35):"إسناده حسن"، وصححه في "صحيح الجامع الصغير"(2/ 1144).
الدليل الثاني: عن ابن عباس رضي الله عنه في قصة هلال بن أمية حين لاعن امرأته وفرَّق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما وفيه قال ابن عباس: "ففرق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بينهما، وقضى أن لا يُدعى ولدُها لأب، ولا تُرمى، ولا يُرمى ولدُها، ومن رماها أو رمى ولدَها فعليه الحد"(1).
• وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بأن من رمى ولدها بأن عليه الحد، والمراد بقوله:"رمى ولدها" أي دعاه ابن زنا (2).
الدليل الثالث: عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "لا جلد إلا في اثنين؛ رجل قذف محصنة، أو نفى رجلًا عن أبيه، وإن كانت أُمُّه أمة"(3).
وهذا القول من ابن مسعود رضي الله عنه لا يقوله إلا توقيفًا (4).
الدليل الرابع: أن القذف بنفي الأب هو في الحقيقة قذف للأم، فكأنه قال: أمك زانية؛ لأن قوله: لست بابن فلان، يقتضي إما أن تكون أمه قد
(1) أخرجه أحمد (4/ 35)، وأبو داود رقم (2256)، من طريق عبَّاد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه.
والحديث في سنده عبَّاد بن منصور ضعَّفه الإمام أحمد وغيره؛ لأنه بيان سيئ الحفظ، مدلسًا، قدريًا داعيًا لبدعته، بينما احتج بحديثه آخرون لا سيما في الشواهد، لذا فقد اختلف أهل العلم في الحديث وممن صححه ابن دقيق العيد في "الإلمام بأحاديث الأحكام" (1/ 300) حيث قال:"فيه عباد بن منصور تكلم فيه غير واحد، وتكلم في روايته عن عكرمة خصوصًا إلا أن الجبل يحيى بن سعيد يقول فيه: عباد بن منصور ثقة ليس ينبغي أن يترك حديثه لرأي أخطأ فيه، يريد ما ينسب إليه من القدر" ثم قال: "حديث صحيح، وفي إسناده عباد بن منصور، صدوق يدلس، وتغير بآخره، وقد عنعن، ولكنه قد توبع، تابعه هشام بن حسان".
وممن ضعفه الألباني كما في "ضعيف أبي داود"(2/ 246) حيث قال: "إسناده ضعيف؛ لعنعنة عباد بن منصور، وضعفه". وانظر: البدر المنير (8/ 189)، نصب الراية (3/ 251)، تهذيب التهذيب (5/ 90).
(2)
المغني (9/ 96).
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(5/ 487).
(4)
انظر: المغني (9/ 90)، الاستذكار (7/ 520).
تزوجت غير أبيه وأتت منه بذلك الولد، أو تكون أمه قد أتت به بطريق غير شرعي وهو الزنا، فإذا لم يكن الأول، فبالضرورة يكون الثاني (1).
• المخالفون للإجماع: ذهب بعض الفقهاء إلى أنه إن رُمى شخص بنفي أبيه، كأن قيل له: أنت لست بابن فلان، فإنه لا يُعتبر قذفًا.
وهو مروي عن الشعبي، وبه قال الظاهرية (2).
• دليل المخالف: استدل الظاهرية على أن نفي النسب لا يُعتبر قذفا بما يلي:
الدليل الأول: أن آية القذف إنما وردَت في القذف بالزنا، فيُقتصر عليه، ولا يُقاس عليه غيره من الألفاظ إلا بدليل.
الدليل الثاني: أن قول الشخص "لست بابن فلان" لا يلزم منه قذف الأم بالزنا؛ إذ يُحتمل أنه أراد أن الولد كان لقيطًا، أو أن أُمه اُستكرهت على الزنا، أو أنها حملت به في حالة لا يكون للزنا فيه دخول، كالنائمة توطأ، أو السكرى، أو المغمى عليها، أو الجاهلة، وبهذا يبطل أن يكون النافي قاذفًا (3).
النتيجة:
المسألة فيما يظهر ليست محل إجماع محقق بين أهل العلم؛ لمخالفة الظاهرية.
ومن حكى الاتفاق فأراد اتفاق المذاهب الأربعة في الجملة (4)، واللَّه تعالى أعلم.
(1) انظر: البناية شرح الهداية (6/ 365).
(2)
انظر: المحلى (12/ 220).
(3)
انظر: المحلى (12/ 222).
(4)
إنما جعلت المسألة اتفاقية في المذاهب الأربعة في الجملة لأن ثمة صورًا لا يجب فيها الحد عند بعض العلماء ومن ذلك ما نص عليه المالكية فيمن كان لقيطًا، فإن نفي الأب عنه بقول "لست بابن فلان" لا يكون قذفًا موجبًا للحد. انظر: شرح مختصر خليل (8/ 86).