الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحقوق على أصحابها (1).
أما الذين قالوا بجواز شهادة الأخرس إن أدَّاها بخط مقروء، ولا تقبل في غير ذلك، فاستدلوا عليه بـ:
أن موجب منع شهادة الأخرس هو احتمال الخطأ في فهم مراده بالإشارة، وهذا الاحتمال قد انتفى بكتابتها؛ لأن خطه صريح في الدلالة على مقصده، ويمكن نقاشه وطرح الأسئلة عليه عن طريق الكتابة، فيكون حكمه كالناطق (2).
النتيجة:
المسألة فيما يظهر على قسمين:
الأول: إن كان الأخرس ليس له إشارة مفهومة أو خط مقروء: فعدم قبول شهادته محل إجماع بين أهل العلم.
الثاني: إن كان للأخرس إشارة مفهومة أو خط مقروء: فعدم قبول شهادته ليست محل إجماع بين أهل العلم، بل الخلاف فيها مشهور ومعتبر، وهو بين المذاهب الفقهية الأربعة فضلًا عن غيرهم، ولذا حين ذكر القرطبي ما نقله من الإجماع تعقَّبه بقوله:"وما ذكروه من الإجماع في شهادة الأخرس فغلط"(3)، وكذلك قال ابن بطال:"وما حكوه من الإجماع في شهادة الأخرس، فهو غلط"(4).
ويوجه كلام الحنفية في نقل الإجماع أنهم أرادوا الإجماع المذهبي، واللَّه تعالى أعلم.
[42/ 1] لا تقبل شهادة الأعمى في الحدود
.
• المراد بالمسألة: إذا شهد الأعمى حال التحمل والأداء على شخص بما يوجب الحد، كزنى، أو سرقة، أو قذف، فإن شهادته غير مقبولة.
(1) الشرح الممتع على زاد المستقنع (15/ 418).
(2)
دقائق أولي النهى (3/ 588)
(3)
تفسير القرطبي (11/ 104).
(4)
شرح ابن بطال (7/ 459).
ويتبيَّن مما سبق أنه لو كان بصيرًا حال الجريمة، ثم أصيب بالعمى قبل أداء الشهادة، فهي مسألة غير مرادة.
• من نقل الإجماع: قال البابرتي: (786 هـ): "شهادة الأعمى إما أن تكون في الحدود والقصاص أوْ لا، فإن كان الأول فليست بمقبولة بالاتفاق"(1).
وقال ابن الهمام (861 هـ): "شهادة الأعمى لا تقبل فيها -أي الحدود- بالإجماع"(2).
• الموافقون على الإجماع: وافق على ذلك المالكية (3)، والشافعية (4)، والحنابلة في رواية (5).
• مستند الإجماع: الدليل الأول: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الشهادة، قال:(هل ترى الشمس)؟ قال: نعم، قال:(على مثلها فاشهد، أو دع)(6).
• وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل من شرط الشهادة المعاينة لما يشهد عليه، بل صرَّح بأن تكون المعاينة جليَّة لا مرية فيها، كمعاينة الشمس، والأعمى لا يمكنه معاينة المشهود، فلا تصح شهادته (7).
(1) العناية شرح الهداية (7/ 397).
(2)
انظر: فتح القدير (7/ 399).
(3)
انظر: المدونة (2/ 93)، تبصرة الحكام (2/ 87)، حاشية الدسوقي (4/ 167).
(4)
انظر: مغني المحتاج (6/ 385)، تحفة المحتاج (10/ 258 - 259)، تحفة الحبيب على شرح الخطيب (4/ 445).
(5)
انظر: المغني (10/ 184 - 185)، المبدع (10/ 238)، الإنصاف (12/ 61 - 62).
(6)
الحاكم في "المستدرك"(4/ 110)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(7/ 455)، وابن عدي (6/ 207) ترجمة (1681)، والعقيلي في "الضعفاء"(4/ 69) ترجمة (1624)، وأبو نعيم في "الحلية"(4/ 18).
(7)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (1/ 680)، تفسير القرطبي (3/ 390).
الدليل الثاني: أنه قضاء علي بن أبي طالب رضي الله عنه، حيث روي عن علي رضي الله عنه أنه شهد عنده رجل أعمى، فردَّ عليٌ رضي الله عنه شهادته (1).
• وجه الدلالة: أن عليًا رضي الله عنه رد شهادة الأعمى، وهو من الخلفاء الراشدين، الذين أمرنا باتباعهم، وهذا يُحتمل أن يكون في حد، ويؤيده رواية البيهقي بلفظ:"أن عليًا رضي الله عنه رد شهادة أعمى في سرقة لم يجزها"(2).
وإن كان في الحقوق فردُّها في الحدود هو من باب أولى لدرئها بالشبهات (3).
الدليل الثالث: أن من شروط الشهادة أن يأتي بها الشاهد بلفظ الشهادة، أي:"أشهد"، فلو قالها بلفظ غير الشهادة، كـ "أعلم" أو "أتيقن"، ونحو ذلك لم يصح، ولفظ الشهادة يقتضي المعاينة والمشاهدة، وتخصيص الشهادة بهذا اللفظ يدل على شرطية المشاهدة، والأعمى فاقد لذلك، فلا تصح شهادته (4).
الدليل الرابع: أن الأعمى إنما يعتمد في شهادته على تمييز الأصوات، وهذا محتمل للخطأ، فإن الأصوات قد تتشابه، وقد تُقلَّد، وتلك شبهة تدرأ بها الحدود (5).
• المخالفون للإجماع: المخالفون في المسألة على قولين:
القول الأول: ظاهر كلام ابن حزم هو قبول شهادة الأعمى في الحدود إذا
(1) أخرجه مصنف ابن أبي شيبة (5/ 111)، سنن البيهقي الكبرى (10/ 158).
(2)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 158).
(3)
انظر: المبسوط (16/ 129).
(4)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (1/ 680).
وهذا الجواب هو على مقتضى مذهب الأحناف من اشتراط لفظ الشهادة، وإلا فقد نازعه جمع من أهل العلم قال ابن القيم في "مدارج السالكين" (3/ 452):"لا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين اشتراط ذلك. . . . فليس مع من اشترط لفظ الشهادة دليل يعتمد عليه"، وقال الشوكاني في "نيل الأوطار" (8/ 339) قال:"بالإجماع على أن الشاهد لا يلزمه أن يقول أشهد باللَّه".
(5)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (1/ 680)، المبسوط (16/ 129)، العناية شرح الهداية (7/ 366).
تيقَّن ذلك، فإذا سمع رجلًا قذف آخر، فتيقَّن أنه صوت فلان فله الشهادة في ذلك (1).
القول الثاني: استثنى الشافعية فيما يتعلق بشهادة الأعمى في الحدود حالة واحدة، وهي الشهادة على الزنا فيما إذا وضع يده على ذكر رَجُلٍ داخلٍ في فرج امرأة أو دبر صبي، فأمسكهما ولزمهما، حتى شهد عند الحاكم بما عرفه بمقتضى وضع اليد (2).
• دليل المخالف: الدليل الأول: عموم آيات الشهادة ومن ذلك:
أ - قول اللَّه تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (3).
ب - قول اللَّه تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} (4).
ج - قول اللَّه تعالى: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} (5).
(1) انظر: المحلى (8/ 532)، حيث قال:"شهادة الأعمى مقبولة كالصحيح"، ولم يستثن من ذلك الحدود.
(2)
انظر: انظر: مغني المحتاج (6/ 373 - 374)، تحفة المحتاج (10/ 259).
ذهب الشافعية إلى عدم قبول شهادة الأعمى في المرئيات فيما تحمَّله وهو أعمى واستثنوا من ذلك ثلاث مسائل هي:
الأولى: الشهادة على الزنا، فيما إذا وضع يده على ذكر داخل في فرج امرأة أو دبر صبي مثلا فأمسكهما ولزمهما حتى شهد عند الحاكم بما عرفه بمقتضى وضع اليد فهذا أبلغ من الرؤية.
الثانية: الغصب والإتلاف، فلو جلس الأعمى على بساط لغيره فغصبه غاصب، أو أتلفه، فأمسكه الأعمى في تلك الحالة.
الثالثة: الولادة، فيما إذا وضعت العمياء يدها على قبل المرأة وخرج منها الولد وهي واضعة يدها على رأسه إلى تكامل خروجه وتعلقت بهما حتى شهدت بولادتها مع غيرها قبلت شهادتها. وفيما عدا هذه الصور الثلاث لا تجوز شهادة الأعمى في المرئيات التي تحمَّلها وهو أعمى.
(3)
سورة البقرة، آية (282).
(4)
سورة البقرة، آية (282).
(5)
سورة النساء، آية (6).
• وجه الدلالة: أن الآيات ذكرت الشهادة، وفي بعضها اشتراط رجلين، واشتراط العدالة، ولم يرد في شيء منها اشتراط البصر، فيكون الأعمى داخل في عموم الشهداء إذا كان عدلًا (1).
الدليل الثاني: عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: (إن بلالًا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم)، ثم قال:"وكان رجلًا أعمى لا ينادي حتى يُقال له: أصبحت أصبحت" متفق عليه (2).
• وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم علق الإمساك عن الصيام بأذان ابن أم مكتوم رضي الله عنه، وكان أعمى، وذلك يدل على اعتبار قوله، فكذا تُقبل شهادته بجامع أن كلًا منهما إخبار (3).
الدليل الثالث: عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا يقرأ في المسجد، فقال: رحمه الله، لقد أذكرني كذا وكذا آية أسقطتهن من سورة كذا وكذا).
وزاد عباد بن عبد اللَّه (4) عن عائشة رضي الله عنها: تهجد النبي صلى الله عليه وسلم في بيتي، فسمع صوت عباد يصلي في المسجد، فقال:(يا عائشة أصوت عبّاد (5)
(1) انظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 333)، تفسير القرطبي (3/ 390)، المغني (10/ 184).
(2)
أخرجه البخاري رقم (592)، ومسلم رتم (1092).
(3)
انظر: تبصرة الحكام (1/ 87)، طرح التثريب (2/ 211)، فتح الباري (2/ 101).
(4)
هو عباد بن عبد اللَّه بن الزبير بن العوام الأسدي، المدني، تابعي ثقة، وثقه النسائي، وذكره ابن حبان في الثقات، كان قاضي مكة زمن أبيه، وخليفته إذا حج، يروي عن عائشة وعن أبيه رضي الله عنهما. انظر: سير أعلام النبلاء (4/ 217)، تهذيب التهذيب (5/ 85).
(5)
هو أبو بشر، عباد بن بشر بن وقش بن زعوراء، الخزرجي الأنصاري، قال بن عبد البر: "لا يختلفون أنه أسلم بالمدينة على يدي مصعب بن عمير، شهد بدرًا والمشاهد كلها، آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين أبي حذيفة بن عتبة، وقتل يوم اليمامة شهيدًا، وهو ابن خمس وأربعين سنة. انظر: الاستيعاب 2/ 801، معرفة الصحابة 4/ 1729، الإصابة 3/ 611.
هذا)؟ قلت: نعم، قال:(اللهم ارحم عبّادًا) متفق عليه (1).
• وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا للقارئ عبّاد بن بشر رضي الله عنه دون أن يراه، وإنما اعتمد على الصوت في معرفته والدعاء، مما يدل على صحة الاعتماد على الصوت وكونه وسيلة لمعرفة الشيء، فيما يمكن تحصيله بالصوت (2).
الدليل الرابع: عن المسور بن مخرمة رضي الله عنهما (3) قال: قدِمتْ إلى النبي صلى الله عليه وسلم أَقْبِية (4)، فقال لي أبي مخرمة (5): انطلق بنا إليه عسى أن يعطينا منها شيئًا، فقام أبي على الباب، فتكلَّم، فعرف النبي صلى الله عليه وسلم صوته، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم ومعه قِباء، وهو يريه محاسنه، وهو يقول:(خبأتُ هذا لك، خبأت هذا لك) متفق عليه (6).
• وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم عرف صوت مخرمة رضي الله عنه قبل أن يراه، وإنما اعتمد على هذه المعرفة بالصوت، فخرج ومعه القباء ليُريه محاسنه، ويُهديه له، وذلك
(1) أخرجه البخاري رقم (2512)، ومسلم رقم (788).
(2)
انظر: فتح الباري (5/ 265).
(3)
هو أبو عبد الرحمن، المسور بن مخرمة بن نوفل القرشي الزهري، ولد بمكة بعد الهجرة بسنتين وقدم به أبوه المدينة في عقب ذي الحجة سنة ثمان، توفي النبي صلى الله عليه وسلم وعمره ثمان سنين، من أهل العلم والفضل، مات سنة (64 هـ). انظر: الاستيعاب 3/ 1399، معجم الصحابة 5/ 354، التعديل والتجريح 2/ 745.
(4)
القباء: نوع من اللباس، وجمعه أقبية. انظر: القاموس المحيط، فصل القاف، (1705)، معجم لغة الفقهاء (355).
(5)
هو أبو صفوان، مخرمة بن نوفل بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب القرشي الزهري، كان من مسلمة الفتح، وهو أحد المؤلفة قلوبهم، وممن حسن إسلامه منهم، وكان له علم بأيام قريش، كان يؤخذ عنه النسب، شهد حنينًا، مات بالمدينة سنة (54 هـ). انظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب 3/ 1380، الإصابة في تمييز الصحابة 6/ 50، معجم الصحابة 5/ 352.
(6)
أخرجه البخاري رقم (2514)، ومسلم رقم (1058).
يدل على قبول الاعتماد على الصوت، فيما يمكن معرفته عن طريق السماع (1).
الدليل الخامس: قياس قبول الشهادة على قبول الرواية، بجامع أن كلًا منهما إخبار عما سمعه، فكما تُقبل رواية الأعمى، فكذا تُقبل شهادته فيما طريقه السماع إذا تيقَّن الصوت (2).
الدليل السادس: أن عدم قبول شهادة الأعمى يلزم منه رد شهادة جملة من الصحابة رضي الله عنهم ممن أصيب بالعمى، كجابر بن عبد اللَّه، وابن أم مكتوم، وابن عباس، وابن عمر رضي الله عنهم، وهذا غاية البطلان (3).
الدليل السابع: أن الشرع أجاز للأعمى أن يعتمد على الصوت في كثير من القضايا، فله أن يطأ امرأته بناء على معرفة صوتها، وله أن يحلف على حقه بدلالة معرفة صوت مبايعه (4).
وأما استثناء الشافعية لصورة الأعمى إن أمسك ذكر الرجل في الفرج، ثم لزمهما حتى قام عند القاضي فعللوا لذلك بأن الشهادة في هذه الحال أبلغ من الشهادة بالرؤية (5).
النتيجة:
المسألة فيما يظهر ليست محل إجماع محقق بين أهل العلم؛ للخلاف عن ابن حزم، وعن الشافعية في الصورة المذكورة.
ومن حكى الإجماع فإما أنه أراد الإجماع المذهبي عند الحنفية، أو أنه أراد الإجماع من حيث العموم، ولم يعتبر قول ابن حزم، واللَّه تعالى أعلم.
(1) انظر: فتح الباري (10/ 207).
(2)
انظر: المبسوط (16/ 129)، المغني (10/ 184)، دقائق أولي النهى (3/ 594).
(3)
انظر: المحلى (8/ 534)، فتح الباري (5/ 265).
(4)
انظر: المنتقى شرح الموطأ (5/ 198)، أحكام القرآن لابن العربي (1/ 333)، المغني (10/ 184)، تبصرة الحكام (1/ 87).
(5)
انظر: مغني المحتاج (6/ 373 - 374)، تحفة المحتاج (10/ 259).