الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدليل الثاني: أنه لم يرد في الكتاب أو السنة تقدير معين للعقوبات التعزيرية، فكان الرجوع فيها للإمام بحسب ما يراه مصلحة راجحة، بخلاف الحدود، فإنه جاء الشرع بتقديرها.
النتيجة:
فيما يظهر أن المسألتين محل إجماع بين أهل العلم؛ لعدم المخالف، واللَّه تعالى أعلم.
[266/ 5] الشفاعة فيما يقتضي التعزير جائزة، إن رأى الإمام العفو، ولم تتعلَّق المعصية بحق شخص آخر
.
• المراد بالمسألة: إذا ارتكب شخص معصية لا حد فيها ولا كفَّارة، وغير متعلَّقة بالجناية على شخص معيَّن، كان قبَّل امرأة أجنبية لا تحل له، وبلغ أمره للإمام، فأراد الإمام تعزيره، فإنه يجوز لشخص أن يشفع لأجل ترك العقوبة، وللإمام قبول الشفاعة فيه، إذا كان الجاني يمكن أن ينزجر عن جريمته بدون التعزير، ورأى الإمام العفو عنه، ولا يجب على الإمام إقامة التعزير بموجب بلوغ الأمر إليه.
ويُنبه إلى أمرين: الأول: إن كان الإمام يرى أن المصلحة في إقامة التعزير وعدم العفو، كأن يكون الجاني لا يمكن أن ينزجر إلا بالتعزير، فهذه مسألة أخرى (1).
الثاني: إن كان الجاني قد جنى على شخص معيَّن، بأن لطمه، أو شتمه،
(1) وذلك أن الحنفية، والحنابلة ينصون على أنه إن كان الإمام يرى المصلحة في التعزير فإنه يجب عليه أن يعزِّر، ولا يجوز له العفو، كذا المالكية فيمن كان معروفًا بالفساد، أما إن كان الجاني يُمكن أن ينزجر بدون التعزير، ورأى الإمام العفو، فله ذلك.
أما الشافعية فيرون أن التعزير مستحب، فللإمام تركه ولو رأى المصلحة في التعزير. انظر: فتح القدير (5/ 346)، التاج والإكليل (8/ 436)، المغني (9/ 149 - 150).
فترْك تعزيره حينئذٍ بموجب الشفاعة غير مراد (1).
• من نقل الإجماع: قال ابن حجر (852 هـ): "جواز الشفاعة فيما يقتضي التعزير، وقد نقل بن عبد البر وغيره فيه الاتفاق"(2).
• الموافقون على الإجماع: وافق على الإجماع الحنفية (3)، والمالكية (4)، والحنابلة (5)، والظاهرية (6).
• مستند الإجماع: الدليل الأول عن عبد اللَّه بن الزبير رضي الله عنهما: أن رجلًا من الأنصار خاصم الزبير عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في شراج الحرة التي يسقون بها النخل، فقال الأنصاري: سرِّح الماء يمر، فأبى عليهم، فاختصموا عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم للزبير:(اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك)، فغضب الأنصاري فقال: يا رسول اللَّه أن كان ابن عمتك، فتلون وجه نبي اللَّه صلى الله عليه وسلم، ثم قال:(يا زبير اسق ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر)، فقال الزبير: واللَّه إني لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (7) متفق عليه (8).
(1) فإن جنى على شخص فذهب بعض الفقهاء إلى أن العفو هنا خاص بالمجني عليه، لا للإمام. انظر: البحر الرائق (5/ 49)، رد المحتار على الدر المختار (4/ 74)، مغني المحتاج (5/ 525).
(2)
فتح الباري (12/ 88)، وقد بحثت عن نص ابن عبد البر في كل من "التمهيد"، و"الاستذكار"، و"جامع بيان العلم وفضله"، ولم أجد النص، فاللَّه أعلم بموطنه.
(3)
انظر: فتح القدير (5/ 346)، البحر الرائق (5/ 49).
(4)
انظر: التاج والإكليل (8/ 436)، مواهب الجليل (6/ 320).
(5)
انظر: الشرح الكبير (10/ 361)، الإنصاف (10/ 241).
(6)
انظر: المحلى (11/ 188).
(7)
سورة النساء، آية (65).
(8)
أخرجه البخاري رقم (2231)، ومسلم رقم (2357).
الدليل الثاني: عن عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنه قال: قسم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قسمًا، فقال رجل: إنها لقسمة ما أريد بها وجه اللَّه، قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فساورته، فغضب من ذلك غضبًا شديدًا واحمرَّ وجهه حتى تمنيت أنِّي لم أذكره له، قال: ثم قال: (قد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر) متفق عليه (1).
• وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُعزر الرجل الذي قال له: "أن كان ابن عمتك"، وكذا الذي قال له:"إنها لقسمة ما أريد بها وجه اللَّه"، مع أن هذا قدح في عدل النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه في الحكم، وهذا يدل على أن للإمام ترك العقوبة بالتعزير، ولا فرق بين أن يتركها بموجب الشفاعة أو بغير ذلك، إن رأى العفو (2).
الدليل الثالث: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاءه رجل فقال: يا رسول اللَّه إني أصبت حدًا فأقمه علَيَّ، قال: ولم يسأله عنه، قال: وحضرت الصلاة، فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة قام إليه رجل فقال: يا رسول اللَّه إني أصبت حدًا فأقم فيَّ كتاب اللَّه، قال:(أليس قد صليت معنا؟ ) قال: نعم، قال:(فإن اللَّه قد غفر لك ذنبك -أو قال حدك-) متفق عليه (3).
• وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُعزَّر صاحب الذنب الذي أراد إقامة الحد عليه، وهو يدل على أن الإمام له العفو عن صاحب المعصية، ولا فرق أن يكون ذلك بموجب الشفاعة أو من قبل الإمام ابتداء (4).
الدليل الرابع: عن عائشة رضي الله عنها أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: (أقيلوا
(1) أخرجه البخاري رقم (3224)، ومسلم رقم (1062).
(2)
انظر: المغني (9/ 149 - 150).
(3)
أخرجه البخاري رقم (6437)، ومسلم رقم (2764).
(4)
انظر: المغني (9/ 149 - 150).