الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حكاه الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: "ما علمت أحدًا رد شهادة العبد" وهذا يدل على أن ردَّها إنما حدث بعد عصر الصحابة رضي الله عنهم، واشتهر هذا القول لما ذهب إليه مالك والشافعي وأبو حنيفة، وصار لهم أتباع يفتون ويقضون بأقوالهم، فصار هذا القول عند الناس هو المعروف" (1).
[40/ 1] قبول شهادة العبد في الحدود
.
• المراد بالمسألة: إذا ارتكب شخص ما يوجب الحد، وثبت ذلك عند الحاكم بموجب الشهادة، فإنه لا يشترط لقبول الشهادة أن يكون الشهود كلهم أحرار، بل لو كان الشهود أرقاء صحت شهادتهم.
• من نقل الإجماع: قال ابن القيم (751 هـ): "وقد حكى الإمام أحمد عن أنس بن مالك إجماع الصحابة رضي الله عنهم على شهادته، فقال: "ما علمت أحدًا رد شهادة العبد""(2).
وقد سبق في المسألة السابقة من قال بقبول شهادة العبد في الحدود، وأدلته، ومن خالف في ذلك فمنع شهادة العبد في الحدود، وبيان أدلته، ونتج عن ذلك أن المسألة محل خلاف معتبر بين أهل العلم، واللَّه تعالى أعلم.
[41/ 1] لا تقبل شهادة الأخرس في الحدود
.
• المراد بالمسألة: إذا ثبت الحد على شخص، وكان موجب ثبوت الحد هو البيِّنة بشهادة الأخرس، فإن الحد لا يُقام حينئذٍ، وشهادة الأخرس غير مقبولة مطلقًا حتى لو كانت شهادته بإشارة مفهومة أو كان كتبها بخط مقروء.
(1) الطرق الحكمية (139)، قال الشيخ ابن عثيمين كما في "مجموع فتاوى ورسائل العثيمين" (26/ 476):"من أغرب ما نقل في الإجماع أن بعضهم قال: "أجمعوا على قبول شهادة العبد"، وآخرون قالوا: "أجمعوا على أنها لا تقبل شهادة العبد"".
وهذا له أمثلة كثيرة في كتب الفقهاء ومن ذلك مسألة كفر تارك الصلاة فمنهم من حكى الإجماع على كفر تاركها، ومنهم من حكى الإجماع على عدم كفر تارك الصلاة.
(2)
إعلام الموقعين (1/ 77).
• من نقل الإجماع: قال القرطبي (671 هـ) حكاية عن الحنفية: "وشهادة الأخرس لا تقبل بالإجماع"(1).
وقال ابن الهمام (861 هـ): "وفي المبسوط (2): أنه لا تجوز شهادة الأخرس بإجماع الفقهاء"(3).
• الموافقون على الإجماع: وافق على ذلك الحنفية (4)، والشافعية في الأصح (5)، والحنابلة (6).
• مستند الإجماع: الدليل الأول: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الشهادة، قال:(هل ترى الشمس)؟ قال: نعم، قال: (على مثلها
(1) تفسير القرطبي (11/ 104)، لكن يُنبه أن القرطبي لم يحك ذلك من جهة التقرير للإجماع، وإنما ذكره على لسان الحنفية حيث ذهبوا إلى أن الأخرس لا يصح لعانه، واستدلوا على عدم صحة لعان الأخرس بأن اللعان من باب الشهادات، وشهادة الأخرس لا تقبل بالإجماع.
فحكى القرطبي هذا القول عنهم واستدلالهم بذلك، ثم تعقَّب ما نقلوه من الإجماع على ذلك في معرض الرد عليهم فقال:"وما ذكروه من الإجماع في شهادة الأخرس فغلط".
وكذا فعل ابن بطال في شرحه على صحيح البخاري (7/ 495)، والعيني في عمدة القاري شرح صحيح البخاري (20/ 292).
(2)
هو كتاب في مذهب الحنفية، لمحمد بن محمد بن أحمد الخجندي السنجاري، المتوفى سنة (749 هـ).
(3)
فتح القدير (7/ 399).
(4)
انظر: المبسوط (16/ 130)، بدائع الصنائع (16/ 268)، البحر الرائق شرح كنز الدقائق (7/ 77). إلا أن الحنفية قالوا إن شهد بالكلام وهو ناطق، ثم خرس قبل الحكم فإن شهادته تبطل، وبه قال أبو حنيفة، وصاحبه محمد بن الحسن، وخالف أبو يوسف فذهب لمذهب الجمهور بأنه إن شهد بالكلام وهو ناطق، قُبلت شهادته حتى لو أصيب بالخرس بعد ذلك. انظر: فتح القدير (7/ 399)، حاشية يونس الشلبي على تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق (4/ 218).
(5)
انظر: أسنى المطالب (4/ 356)، مغني المحتاج (6/ 345)، المنثور في القواعد الفقهية (1/ 165).
(6)
انظر: المغني (10/ 185)، الفروع (6/ 579)، الإنصاف (12/ 38).
فاشهد، أو دع) (1).
• وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل من شرط الشهادة أن تكون عن يقين لا شك فيه، وإشارة الأخرس لا يحصُل بها اليقين، حيث قد تُفهم على غير مراده، وبالتالي فلا تكون مقبولة لعدم حصول اليقين بها (2).
(1) أخرجه الحاكم في المستدرك (4/ 110)، والبيهقي في شعب الإيمان (7/ 455)، وابن عدي (6/ 207) ترجمة (1681)، والعقيلي في الضعفاء (4/ 69) ترجمة (1624)، وأبو نعيم في الحلية (4/ 18).
من طريق محمد بن سليمان بن مسمول ثنا عبيد اللَّه بن سلمة بن وهرام عن طاوس اليماني عن ابن عباس به.
والحديث ضعفه جماعة من أهل العلم منهم البيهقي حيث قال "في السنن الكبرى"(10/ 156) بعد ذِكره للحديث: "محمد بن سليمان بن مسمول هذا تكلم فيه الحميدي، ولم يُرو من وجه يعتمد عليه".
وقال ابن حزم في "المحلى"(8/ 534): "هذا خبر لا يصح سنده؛ لأنه من طريق محمد بن سليمان بن مسمول، وهو هالك، عن عبيد اللَّه بن سلمة بن وهرام، وهو ضعيف".
وقال ابن عدي في "الكامل"(6/ 207) بعد ذكره للحديث: "لمحمد بن سليمان بن مسمول غير ما ذكرتُ، وعامة ما يرويه لا يتابع عليه فى إسناده ولا متنه".
وقال ابن حجر في بلوغ المرام (420): "أخرجه بن عدي بإسناد ضعيف، وصححه الحاكم فأخطأ".
وقال الزيلعي في نصب الراية (5/ 83): "وفي إسناده محمد بن سليمان بن مسمول، وهو ضعيف"، وضعفه الألباني أيضًا في سلسلة الأحاديث الضعيفة (6/ 477).
بينما صحح الحاكم الحديث فقال في "المستدرك"(4/ 110): "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه".
وتعقبه جماعة من أهل العلم منهم الذهبي في "التلخيص" فقال: "واهٍ"، وابن حجر في "بلوغ المرام" حيث قال:"صححه الحاكم فأخطأ".
(2)
انظر: المبسوط (16/ 130)، نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج (8/ 292)، دقائق أولي النهى (3/ 588).
الدليل الثاني: أن من شرط الشهادة أن يأتي بها الشاهد بلفظ "أشهد"، فلو قالها بلفظ غير الشهادة، كـ "أعلم" أو "أتيقن"، ونحو ذلك لم يصح، والإتيان بلفظ الشهادة في حق الأخرس متعذِّرة (1).
الدليل الثالث: أن المعتبر في الشهادة اليقين، وهذا لا يمكن تحصيله من الأخرس؛ لأن الإشارة تحتمل الخطأ في فهم المقصود على وجه التمام، فهو من الشبهات التي تدرأ بها الحدود (2).
الدليل الرابع: قياس شهادة الأخرس بالإشارة على شهادة الناطق بالإشارة، فكما أن الناطق لا تصح شهادته بالإشارة بإجماع أهل العلم، فكذا لا تصح شهادة الأخرس، بجامع أن كلًا منهما شهادة تفتقر لليقين (3).
• المخالفون للإجماع: خالف في عدم قبول شهادة الأخرس جماعة من أهل العلم، وحاصل الأقوال المخالفة على قولين:
القول الأول: قبول شهادة الأخرس إذا أدَّاها بإشارة مفهومة، أو كتابة مقروءة.
وهو قول المالكية (4)، وبعض الشافعية (5).
القول الثاني: تقبل شهادة الأخرس إن أدَّاها بخطه، ولا تقبل في غير ذلك من إشارة مفهومة أو نحوه.
(1) انظر: أحكام القرآن للجصاص (1/ 680)، المبسوط (16/ 130)، بدائع الصنائع (16/ 268).
(2)
انظر: المبسوط (16/ 130)، المغني (10/ 186).
(3)
انظر: المغني (10/ 185).
(4)
انظر: التاج والإكليل لمختصر خليل (8/ 167)، شرح مختصر خليل (7/ 179)، حاشية الدسوقي (4/ 168).
(5)
روضة الطالبين وعمدة المفتين للنووي (8/ 219)، المهذب (2/ 324)، الأشباه والنظائر للسيوطي (314)، المجموع شرح المهذب (20/ 226).
واختار هذا القول من المعاصرين الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله كما في الشرح الممتع على زاد المستقنع (15/ 417).
وهو قول بعض الحنابلة، وتوقف فيه الإمام أحمد (1).
• أدلة المخالفين: أما الذين قالوا بقبول شهادة الأخرس إن كانت له إشارة مفهومة فاستدلوا بما يلي:
الدليل الأول: قال تعالى: {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} (2).
• وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى جعل الرمز -وهو الإشارة- مستثنى من الكلام، والأصل أن المستثنى من جنس المستثنى منه، فيدل ذلك على أن الرمز من جنس الكلام، وإذا كانت الشهادة معتبرة من الناطق فكذلك تعتبر الشهادة بالإشارة، لأن الإشارة نوع من الكلام كما بيَّنت الآية (3).
الدليل الثاني: عن عائشة رضي الله عنها قالت: صلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في بيته وهو شاك (4)، فصلى جالسًا، وصلى وراءه قوم قيامًا، فأشار إليهم أن اجلسوا، فلما انصرف قال:(إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا) متفق عليه (5).
• وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بالجلوس عن طريق الإشارة، فدل على أن الإشارة طريق يحصل به العلم عند تعذُّر النطق، ولولا ذلك لما اكتفى النبي صلى الله عليه وسلم بالإشارة إلى أصحابة أن يجلسوا (6).
(1) انظر: المغني (10/ 158)، الفتاوى الكبرى (5/ 577)، الإنصاف (12/ 39)، دقائق أولي النهى (3/ 588).
(2)
سورة آل عمران، آية (41).
(3)
انظر: تفسير القرطبي (4/ 81)، تفسير البحر المحيط (2/ 344)، فتح الباري (9/ 440).
(4)
من الشكوى، وهو المرض، كما جاء ذلك مصرحًا في رواية مسلم رقم (412) بلفظ:"اشتكى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فدخل عليه ناس من أصحابه يعودونه فصلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جالسًا. . . " الحديث.
(5)
أخرجه البخاري رقم (656)، ومسلم رقم (412).
(6)
انظر: المغني (10/ 185).
الدليل الثالث: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "خرجَتْ جارية عليها أوضاح (1) بالمدينة، فرماها يهودي بحجر، فجيء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبها رمق، فقال لها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: (فلان قتلك)؟ فرفعت رأسها، فأعاد عليها، قال: (فلان قتلك)؟ فرفعت رأسها، فقال لها في الثالثة: (فلان قتلك)؟ فخفضت رأسها، فدعا به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقتله بين الحجرين" متفق عليه (2).
• وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر إشارة المرأة، وأقامها مقام العبارة المنطوقة (3).
الدليل الرابع: قياس إشارة الأخرس المفهومة في طلاقه، ونكاحه، وظهاره، وإيلائه، على إشارته المفهومة في شهادته، بجامع أن كلًا منهما إشارة مفهومة معتبرة، فكما أن إشارة الأخرس إذا فُهمت فإنه يُعمل بها في كثير من الأحكام، كطلاقه، ونكاحه، وظهاره، وإيلائه، فكذا يُعمل بها في شهادته (4).
الدليل الخامس: أن الشهادة علم يؤديه الشاهد إلى الحاكم، فإذا فُهم هذا العلم عن طريق الإشارة فإنها تُقبل منه كالناطق إذا أداها بصوت، وإنما اختلفت الآلة، فآلة الناطق اللسان، وآلة الأخرس الإشارة (5).
الدليل السادس: أن عدم قبول شهادة الأخرس مطلقًا يؤدي إلى ضياع
(1) الأوضاح: نوع من حلي الفضة، سمي بذلك لبياضه. انظر: غريب الحديث لابن سلام (3/ 188)، فتح الباري (12/ 199).
(2)
أخرجه البخاري رقم (2282)، ومسلم رقم (1672).
وقد ذكر البخاري في صحيحه (5/ 2027) نحوًا من أربعة عشر حديثًا في ذلك في كتاب الطلاق، باب:"الإشارة في الطلاق والأمور".
(3)
انظر: شرح ابن بطال (8/ 151)، الإنصاف (7/ 188).
(4)
انظر: المغني (10/ 185)، التاج والإكليل لمختصر خليل (8/ 167)، المجموع شرح المهذب (20/ 226).
(5)
تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام (2/ 86)، وانظر: أسنى المطالب (4/ 356)