الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويقتل، بغير خلاف" (1).
وهذه النقولات وإن كان بعضها لم ينص على القذف وإنما هي في مطلق السب، إلا أن القذف يدخل في ذلك من باب الأولوية.
• الموافقون على الإجماع: وافق على ذلك الحنفية (2).
• مستند الإجماع: يستند الإجماع في المسألة إلى الأدلة التي ذُكرت في المسألة السابقة، فإنه إنما أبيح قتل قاذف النبي صلى الله عليه وسلم لكفره.
النتيجة:
المسألة فيما يظهر محل إجماع بين أهل العلم؛ لعدم المخالف، واللَّه تعالى أعلم.
[211/ 3] من قذف عائشة رضي الله عنها بما برأها اللَّه منه كفر
.
• المراد بالمسألة: مما هو مُقرَّر أن عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم رميت بالزنا في حياتها، حتى برَّأها اللَّه تعالى من ذلك في كتابه، فمن رمى عائشة بالزنا بعد نزول هذه الآيات، أو شك في براءتها من الزنا فإنه كافر.
ويتبين مما سبق أن من سب عائشة بغير القذف بالزنا، أو قذف أحدًا من نساء النبي صلى الله عليه وسلم غير عائشة، فكل ذلك غير مراد.
• من نقل الإجماع: قال النووي (676 هـ): "براءة عائشة رضي الله عنها من الإفك وهي براءة قطعية بنص القرآن العزيز، فلو تشكك فيها إنسان -والعياذ باللَّهِ- صار كافرًا مرتدًا بإجماع المسلمين"(3). وقال ابن تيمية (728 هـ): "قال القاضي أبو يعلى: من قذف عائشة بما برأها اللَّه منه كفر بلا خلاف، وقد حكى الإجماع على هذا غير واحد، وصرح غير واحد من الأئمة بهذا الحكم"(4).
(1) الصارم المسلول (1/ 10).
(2)
انظر: تبيين الحقائق (3/ 281)، فتح القدير (6/ 62).
(3)
شرح النووي (17/ 117).
(4)
الصارم المسلول (1/ 568).
وقال ابن كثير (774 هـ): "وقد أجمع العلماء، رحمهم الله، قاطبة على أن من سبها بعد هذا ورماها بما رماها به بعد هذا الذي ذكر في هذه الآية، فإنه كافر؛ لأنه معاند للقرآن"(1). وقال الزركشي (794 هـ): "الطاعن في عائشة رضي الله عنها بالقذف كافر إجماعًا"(2).
وقال العراقي (806 هـ): "براءة عائشة رضي الله عنها من الإفك براءة قطعية بنص القرآن، فلو شك فيها إنسان -والعياذ باللَّه تعالى- صار كافرًا، مرتدًا، بإجماع المسلمين"(3). وقال الحجاوي (960 هـ): "من قذف عائشة رضي الله عنها بما برأها اللَّه منه: كفَر بلا خلاف"(4).
وقال البهوتي (1051 هـ): "قذف عائشة رضي الله عنها بما برأها اللَّه منه كفر بلا خلاف"(5). وقال الرحيباني (1243 هـ): "قذف عائشة رضي الله عنها بما برأها اللَّه منه كفر بلا خلاف"(6).
• الموافقون على الإجماع: وافق على الإجماع الحنفية (7)، والمالكية (8)، وابن حزم (9).
• مستند الإجماع: الدليل الأول: قال اللَّه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي
(1) تفسير ابن كثير (6/ 31 - 32).
(2)
المنثور في القواعد (3/ 84).
(3)
طرح التثريب (8/ 69).
(4)
كشاف القناع شرح متن الإقناع (6/ 172).
(5)
دقائق أولى النهى في شرح غاية المنتهى (6/ 285).
(6)
مطالب أولي النهي في شرح غاية المنتهى (6/ 286)، وممن نقل الإجماع كذلك ابن ضويان في "منار السبيل شرح الدليل" (2/ 361) حيث قال:"من قذف عائشة بما برأها اللَّه منه كفر بلا خلاف"، وانظر: الموسوعة الكويتية (14/ 62).
(7)
انظر: البحر الرائق (5/ 131)، الفتاوى الهندية (2/ 264).
(8)
انظر: المنتقى شرح الموطأ (7/ 206)، مواهب الجليل (6/ 286).
(9)
انظر: المحلى (12/ 440).
تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20)} (1).
• وجه الدلالة: القرآن صرح ببراءة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، ونهى عن قذفها في قوله تعالى:{يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا} أي أن تعودوا لقذف عائشة رضي الله عنها، كما قرَّره أهل التفسير (2)، فمن شك في براءتها أو أنكر ذلك فقد شك في القرآن.
الدليل الثاني: قال تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (3).
• وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى جعل الخبيثات للخبيثين، والطيبات للطيبين، فإن كانت عائشة زانية فهي خبيثة، ويقتضي ذلك أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم خبيثًا -والعياذ باللَّه-، وذلك كفر (4).
الدليل الثالث: ما ثبت في السنة من قصة الإفك وبراءة عائشة رضي اللَّه
(1) سورة النور، آية (11 - 20).
(2)
انظر: تفسير ابن جرير (19/ 133)، تفسير القرطبي (12/ 205)، تفسير ابن كثير (6/ 29).
(3)
سورة النور، آية (26).
(4)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي (5/ 495).
عنها مما رميت به في حديث طويل ولفظ مسلم: أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج سفرًا أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم معه، قالت عائشة فاقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج فيها سهمي، فخرجت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وذلك بعد ما أنزل الحجاب، فانا أحمل في هودجي، وأنزل فيه مسيرنا، حتى إذا فرغ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من غزوه وقفل (1)، ودنونا من المدينة، آذن ليلة بالرحيل، فقمتُ حين آذنوا بالرحيل، فمشيتُ حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت من شأني أقبلت إلى الرجل، فلمست صدري فإذا عقدي من جزع ظفار (2) قد انقطع، فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون لي فحملوا هودجي، فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب، وهم يحسبون أني فيه، قالت: وكانت النساء إذ ذاك خفافًا لم يهبلن (3) ولم يغشهن اللحم، إنما يأكلن العلقة من الطعام (4)، فلم يستنكر القوم ثقل الهودج حين رحلوه، ورفعوه، وكنت
(1) أي رجع، والقُفول، وهو الرُّجوع من السفر، ولا يقال للذاهبين قافلةٌ حتى يرجعوا. انظر: مقاييس اللغة (5/ 112)، شرح النووي (9/ 112).
(2)
أي زيادة من خرَزٍ يماني، قال النووي في "شرح مسلم" (17/ 104):"الجزع -بفتح الجيم وإسكان الزاي-: وهو خرز يماني، وأما ظفار -فبفتح الظاء المعجمة وكسر الراء- وهي مبنية على الكسر، تقول: هذه ظفارِ، ودخلتُ ظفارِ، وإلى ظفارِ بكسر الراء بلا تنوين في الأحوال كلها، وهي قرية في اليمن".
(3)
أي لم يكثر لحمهن، يُقال: هبله اللحم: إذا أكثر عليه، وركب بعضه بعضًا، قال النووي في "شرح مسلم" "قولها:"يهبلن" ضبطوه على أوجه:
أشهرها: -ضم الياء وفتح الهاء والباء المشددة-.
والثاني: يهبلن -بفتح الياء والباء وإسكان الهاء بينهما-.
والثالث: -بفتح الياء وضم الباء الموحدة-، ويجوز بضم أوله وإسكان الهاء وكسر الموحدة".
(4)
العُلقة -بضم العين- أي القليل، والمراد أنهن يأكل الشيء القليل من الطعام. انظر: شرح النووي (17/ 104)، فتح الباري (8/ 460).
جارية حديثة السنن، فبعثوا الجمل وساروا، ووجدتُ عقدي بعد ما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب، فتيممت منزلي الذي كنت فيه، وظننت أن القوم سيفقدوني فيرجعون إلي، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني (1) قد عرس (2) من وراء الجيش، فأدلج، فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني فعرفني حين رآني، وقد كان يراني قبل أن يُضرب الحجاب علي، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرت وجهي بجلبابي، وواللَّه ما يكلمني كلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه، حتى أناخ راحلته، فوطن على يدها فركبتها فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة (3)، فهلك من هلك في شأني، وكان الذي تولى كبره عبد اللَّه بن أبي ابن سلول، فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمنا المدينة شهرًا، والناس يفيضون في قول أهل الإفك، ولا أشعر بشيء من ذلك، وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل
(1) هو أبو عمرو، صفوان بن المعطل بن ربيعة بن خزاير بن محارب بن ذكوان السلمي ثم الذكواني، شهد الخندق وما بعدها، اختلف في موته فقيل: قُتل في غزوة أرمينية شهيدًا وأميرهم يؤمئذ عثمان بن أبي العاص سنة تسع عشرة، وقيل: عاش إلى خلافة معاوية فغزا الروم فاندقت ساقه ثم نزل يطاعن حتى مات. انظر: الاستيعاب 2/ 725، الإصابة 3/ 440.
(2)
التعريس هو نزول المسافر في المكان آخر الليل للاستراحة أو النوم، ثم يرتحل منه. انظر: الصحاح (4/ 86)، فتح الباري (2/ 67).
(3)
أي نزلوا في وقت الوغْر: وهو وقت توسط الشمس كبد السماء، وذلك الوقت هو أشد الحر، يُقال: أوغر القوم: أي دخلوا وقت الوغْر.
وقوله: "في نحو الظهيرة" هو تفسير للوغر، أي وقت شدة الحر. انظر: النهاية في غريب الأثر (5/ 459)، فتح الباري (8/ 463).
رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيسلم ثم يقول كيف تيكم، فذاك يريبني، ولا أشعر بالشر حتى خرجت بعد ما نقهت وخرجت معي أم مسطح قبل المناصع -وهو متبرزنا- ولا نخرج إلا ليلًا إلى ليل، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبًا من بيوتنا، وأمْرُنا أمر العرب الأول في التنزه، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا، فانطلقت أنا وأم مسطح -وهي بنت أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف، وأمها ابنة صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق، وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب- فأقبلت أنا وبنت أبي رهم قِبل بيتي حين فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح في مرطها، فقالت: تعس مسطح، فقلت لها: بئس ما قلتِ، أتسبين رجلًا قد شهد بدرًا، قالت: أي هنتاه، أوَلم تسمعي ما قال؟ قلت: وماذا قال؟ قالت: فأخبرتني بقول أهل الإفك، فازددت مرضًا إلى مرضي، فلما رجعت إلى بيتي، فدخل علي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فسلم، ثم قال: كيف تيكم؟ قلت: أتأذن لي أن آتي أبوي، قالت: وأنا حينئذ أريد أن أتيقن الخبر من قبلهما، فأذن لي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فجئت أبوي فقلت لأمي يا أمتاه ما يتحدث الناس؟ فقالت: يا بنية هوني عليك، فواللَّه لقلَّما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا كثَّرن عليها.
قالت: قلت: سبحان اللَّه، وقد تحدث الناس بهذا؟ ! قالت: فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت، لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحت أبكي، ودعا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي، يستشيرهما في فراق أهله، قالت: فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم في نفسه لهم من الود، فقال يا رسول اللَّه: هم أهلك ولا نعلم إلا خيرًا، وأما علي بن أبي طالب فقال: لم يضيق اللَّه عليك والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية تصدقك، قالت: فدعا رسول اللَّه
-صلى الله عليه وسلم بريرة (1)، فقال:(أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك من عائشة) قالت له بريرة: والذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمرًا قط أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله، قالت: فقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على المنبر فاستعذر من عبد اللَّه بن أبي ابن سلول، قالت: فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر: (يا معشر المسلمين: من يعذرني من رجل قد بلغ أذاه في أهل بيتي، فواللَّه ما علمت على أهلي إلا خيرًا، ولقد ذكروا رجلًا ما علمت عليه إلا خيرًا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي) فقام سعد بن معاذ الأنصاري (2) فقال: أنا أعذرك منه يا رسول اللَّه، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، قالت: فقام سعد بن عبادة -وهو سيد الخزرج وكان رجلًا صالحًا، ولكن اجتملته الحمية-، فقال لسعد بن معاذ: كذبت لعمر اللَّه لا تقتله ولا تقدر على قتله، فقام أسيد بن حضير (3) وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال: لسعد بن عبادة كذبت، لعمر اللَّه
(1) هي بريرة، مولاة عائشة بنت أبي بكر الصديق، كانت مولاة لقوم من الأنصار، وقيل: لآل عتبة بن أبي إسرائيل، وقيل: لبني هلال، وقيل: لآل أبي أحمد بن جحش، فكاتبوها ثم باعوها من عائشة، وكانت تخدم عائشة قبل أن تشتريها، وجاء الحديث في شأنها بأن "الولاء لمن أعتق". انظر: سير أعلام النبلاء 2/ 298، الإصابة 4/ 251، تهذيب التهذيب 12/ 403.
(2)
هو سعد بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس بن زيد الأنصاري الأشهلي، سيد الأوس، شهد بدرًا، ورُمي بسهم يوم الخندق، فعاش بعد ذلك شهرًا حتى حكم في بني قريظة وأجيبت دعوته في ذلك، ثم انتقض جرحه فمات، سنة (5 هـ)، وصح الخبر أنه اهتز له عرش الرحمن حين موته. الاستيعاب 2/ 652، الإصابة 3/ 84، معجم الصحابة 3/ 9.
(3)
هو أبو يحيى، أسيد بن الحضير بن سماك بن عتيك الأنصاري الأشهلي، من السابقين إلى الإسلام، وهو أحد النقباء ليلة العقبة، وكان إسلامه على يد مصعب بن عمير، كان أبو سيد الأوس، فعاش أسيد شريفًا في الجاهلية والإسلام، كان من عقلاء العرب، حتى كان يلقب بالكامل، شهد أحدًا والخندق وما بعدها، توفي بالمدينة سنة (25 هـ). انظر: سير أعلام النبلاء 1/ 340، صفة الصفوة 1/ 502، الإصابة 1/ 83.
لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فثار الحيَّان الأوس والخزرج، حتى هموا أن يقتتلوا، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر، فلم يزل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يخفِّضهم حتى سكتوا، وسكت، قالت: وبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم بكيت ليلتي المقبلة لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي، فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي استأذنت علي امرأة من الأنصار، فأذنت لها، فجلست تبكي، قالت: فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فسلم ثم جلس، قالت: ولم يجلس عندي منذ قيل لي ما قيل، وقد لبث شهرًا لا يوحى إليه في شأني بشيء، قالت: فتشهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين جلس، ثم قال:(أما بعد، يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك اللَّه، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري اللَّه وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب تاب اللَّه عليه).
قالت: فلما قضى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مقالته، قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة، فقلت لأبي: أجب عني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيما قال، فقال: واللَّه ما أدري ما أقول لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقلت لأمي: أجيبي عني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقالت: واللَّه ما أدري ما أقول لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقلت -وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن-: إني واللَّه لقد عرفت أنكم قد سمعتم بهذا حتى استقر في نفوسكم وصدقتم به، فإن قلت لكم إني بريئة واللَّه يعلم أني بريئة لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر واللَّه يعلم أني بريئة لتصدقونني، كأني واللَّه ما أجد لي ولكم مثلًا إلا كما قال أبو يوسف:{فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (1)، قالت: ثم تحولت فاضطجعت على فراشي، قالت: وأنا واللَّه حينئذ أعلم أني بريئة، وأن اللَّه مبرئي ببراءتي، ولكن واللَّه ما كنت أظن أن ينزل
(1) سورة يوسف، آية (18).
في شأني وحي يتلى، ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم اللَّه عز وجل في بأمر يتلى، ولكني كنت أرجو أن يرى رسول اللَّه على في النوم رؤيا يبرئني اللَّه بها، قالت: فواللَّه ما رام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مجلسه ولا خرج من أهل البيت أحد حتى أنزل اللَّه عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم، فأخذه ما كان يأخذه من البُرحاء (1) عند الوحي، حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق في اليوم الشات، من ثقل القول الذي أنزل عليه، قالت: فلما سُري عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو يضحك، فكان أول كلمة تكلم بها أن قال:(أبشري يا عائشة أما اللَّه فقد برأك) فقالت لي أمي: قومي إليه، فقلت: واللَّه لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا اللَّه، هو الذي أنزل براءتي، قالت: فأنزل اللَّه عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} ، عشر آيات فأنزل اللَّه عز وجل هؤلاء الآيات براءتي. . . " الحديث متفق عليه (2).
النتيجة:
المسألة فيما يظهر محل إجماع بين أهل العلم؛ لعدم المخالف، واللَّه تعالى أعلم.
وقبل ختام المسألة ثمة تنبيهان: الأول: بعض أهل العلم كابن العربي حكى عن الشافعية قولًا حاصله أن من قذف عائشة رضي الله عنها بالزنا فإنه لا يكفر، وهذا فيه نظر، وإنما الذي حكاه بعض الشافعية قولان هما في مسألة من سب عائشة رضي الله عنها، لا في مسألة القذف، وثمة فرق بين القذف والسب (3).
الثاني: لم أعتبر الخلاف الصادر من أهل البدع، فإن الشيعة يرون قذف
(1) البُرحاء: هو الحمى، وقيل: شدة الحر، وهو في الأصل الشدة من كل كرب وبلاء. انظر: تهذيب اللغة (5/ 20)، فتح الباري (8/ 476).
(2)
أخرجه البخاري رقم (2518)، ومسلم رقم (2770).
(3)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (3/ 366)، تفسير القرطبي (12/ 205).
عائشة بالزنا، بل يرون كفرها -عياذًا باللَّه- إلا أني لم أعتبره قولًا، لكونه مذهبًا لا يُعتد به في الخلاف، لا سيما فيما يتعلق في باب العقائد، واللَّه تعالى أعلم (1).
(1) انظر: بحار الأنوار للمجلسي (22/ 220)، تفسير القُمي للقمي (2/ 377).