الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بأن عليًا رضي الله عنه لم يغسل أهل النهروان ولم يصل عليهم، وكان ذلك بمحضر الصحابة رضي الله عنهم ولم ينكر عليه أحد، فكان كالإجماع، وإذا ثبت هذا في البغاة الذين أفسدوا بتأويل فيلحق بهم قطاع الطريق من باب أولى، لأنهم أفسدوا بلا تأويل (1).
النتيجة:
يظهر -واللَّه أعلم- أن المسألة على ثلاثة أحوال:
الحال الأولى: الصلاة على من مات في حد الحرابة والبغي، فهذه المسألة على قسمين:
الأول: إن ماتوا في حال الحرابة أو البغي: فهذه ليست محل إجماع محقق بين أهل العلم فيما إذا ماتوا حال الحرابة أو حال البغي؛ للخلاف فيه عن الحنفية.
الثاني: إن ماتوا في غير حال الحرابة والبغي فالصلاة عليهم مشروعة بالإجماع؛ لعدم المخالف.
الحال الثانية: الصلاة على من مات بسبب الرجم في حد الزنا، فهذه المسألة عليها عامة العلماء، ولم يخالف فيه إلا الزهري، ولعلَّه خلاف شاذ، لمخالفته للأحاديث الصحيحة.
الحال الثالثة: سائر الحدود، فهذا فيما يظهر هو محل إجماع بين أهل العلم على الصلاة على من مات في غيرها من الحدود؛ لعدم المخالف، واللَّه تعالى أعلم.
[27/ 1] ليس للسلطان أن يتجسس على الحدود إذا استترت عنه
.
• المراد بالمسألة: أولًا: المراد بالتجسس: التجسس في اللغة: تتبع الأخبار، يقال: جس الأخبار وتجسسها: إذا تتبعها، ومنه الجاسوس؛ لأنه
(1) انظر: المبسوط (2/ 53)، بدائع الصنائع (1/ 312)، درر الحكام شرح غرر الأحكام (1/ 163).
يتتبع الأخبار ويفحص عن بواطن الأمور، ثم استعير لنظر العين (1).
والتجسس في الاصطلاح الشرعي لا يخرج عن المعنى اللغوي إذ هو بمعنى التفحص عن الأخبار وتتبعها (2).
• ثانيًا: صورة المسألة: إذا ارتكب شخص ما يوجب الحد، ولم يكن ثمة حقوق متعلقة لآدمي، وليس في ستر ذلك الذنب مفسدة، فإن الإمام حينئذٍ ليس له أن يتجسس الأخبار عن فعل الحد الفلاني حتى يقيمه، بل يحاول ستر صاحبه ما استطاع، وكذا لو شك الإمام أو المحتسب في شخص وليس في ستره مفسدة، فليس له أن يتتبع عوراته بحجة كشف جُرمه وإثمه.
ويتبين مما سبق أن ثمة أمورًا ليست من مسألة الباب منها:
الأول: إن كان في الحد أمور متعلقة بالآدمي، كقذف، أو سرقة أموال لم تُرد لأصحابها، أو زنى بامرأة وهي مكرهة وتريد حقَّها من الاغتصاب، أو نحو ذلك.
الثاني: إن كان في ترك صاحب الحد مفسدة فهنا ترك التجسس غير مراد، كأن يكون في ترك التجسس انتهاك حرمة يفوت استدراكها، مثل أن يخبره من يثق بصدقه أن رجلًا خلا برجل ليقتله، أو امرأة ليزني بها، فيجوز له في هذه الحال أن يتجسس ويقدم على الكشف والبحث حذرًا من فوات ما لا يستدرك
(1) انظر: المخصص (3/ 477)، (15/ 499)، العين (6/ 5)، غريب الحديث للخطابي (1/ 83). قال الأنباري في "الزاهر في معاني كلمات الناس" (1/ 320):"وقد فرَّق بين التجسس والتحسس يحيى بن أبي كثير فقال: التجسس البحث عن عورات الناس، والتحسس الاستماع لأحاديث الناس"، وقيل: التجسس أن يطلب الخبر لغيره، والتحسس أن يطلب الخبر لنفسه، وقيل: هما بمعنى واحد، والظاهر التفريق بدليل قوله صلى الله عليه وسلم:(لاتحسسوا ولا تجسسوا)، وهو يدل على أن بينهما فرق؛ لأنه عطف بينهما بالواو التي تقتضي المغايرة، واللَّه أعلم. انظر: غريب الحديث لابن الجوزي (1/ 156)، تاج العروس، مادة:(جسس).
(2)
انظر: معجم لغة الفقهاء (121).
من انتهاك المحارم وارتكاب المحظورات، وهكذا لو عَرَف ذلك قوم من المتطوعة جاز لهم الإقدام على الكشف والإنكار، أو كان في ترك صاحب الحد زيادة تماديه وارتكابه، كزانٍ لا يتوب من فعله، فكل ذلك غير مراد في مسألة الباب (1).
• من نقل الإجماع: قال ابن عبد البر (463 هـ): "السلطان لا يحل له أن يعطل حدًا من الحدود التي للَّه عز وجل إقامتها عليه إذا بلغته، كما ليس له أن يتجسس عليها إذا استترت عنه، وبأن الشفاعة في ذوي الحدود حسنة جائزة وإن كانت الحدود فيها واجبة إذا لم تبلغ السلطان، وهذا كله لا أعلم فيه خلافًا بين العلماء"(2) ونقله عنه أبو الطيب (3).
• الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (4)، والشافعية (5)، والحنابلة (6)، والظاهرية (7).
• مستند الإجماع: الدليل الأول: الأدلة العامة التي تدل على تحريم التجسس، ومنها:
أ - قول اللَّه تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا} (8).
ب - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب
(1) انظر: تبصرة الحكام لابن فرحون (2/ 95)، الأحكام السلطانية للماوردي (314)، الأحكام السلطانية لأبي يعلى (295)، المحلى (12/ 45).
(2)
الاستذكار (7/ 540).
(3)
انظر: عون المعبود (12/ 22).
(4)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (3/ 605 - 606)، بريقة محمودية للخادمي (3/ 255).
(5)
انظر: أسنى المطالب (4/ 180)، تحفة المحتاج (9/ 219)، مغني المحتاج (6/ 11).
(6)
انظر: الأحكام السلطانية لأبي يعلى (295)، غذاء الألباب (1/ 263)، الآداب الشرعية (1/ 261).
(7)
انظر: المحلى (12/ 45).
(8)
سورة الحجرات، آية (12).
الحديث، ولا تجسَّسوا، ولا تحسَّسوا. . .) متفق عليه (1).
• وجه الدلالة: النصوص صريحة في تحريم التجسس على الغير، ومنه التجسس على أصحاب المعاصي، فهو داخل في العموم، فيما لا مفسدة فيه تخرجه من هذا العموم (2).
الدليل الثاني: عن معاوية رضي الله عنه قال سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: (إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم، أو كدت أن تفسدهم)، فقال أبو الدرداء رضي الله عنه: كلمة سمعها معاوية من رسول اللَّه رضي الله عنه نفعه اللَّه تعالى بها (3).
الدليل الثالث: عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم)(4).
• وجه الدلالة من الحديثين: في الحديث إرشاد لولي الأمر ألا يتتبع عورات المسلمين، ومحال الريبة لديهم، وأن ذلك سبيل لفسادهم.
الدليل الرابع: عن عبد اللَّه بن بريدة عن أبيه أن ماعز بن مالك الأسلمي أتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه إني قد ظلمت نفسي وزنيت، وإني أريد أن تطهرني، فرده، فلما كان من الغد أتاه، فقال: يا رسول اللَّه إني قد زنيت، فرده الثانية، فأرسل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى قومه فقال:(أتعلمون بعقله بأسًا، تنكرون منه شيئًا)، فقالوا: ما نعلمه إلا وفيَّ العقل من صالحينا فيما نرى، فأتاه
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4849)، ومسلم رقم (2563).
(2)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (3/ 605 - 606)، غذاء الألباب (1/ 263).
(3)
أخرجه أبو داود رقم (4888)، وابن حبان في صحيحه (13/ 72)، والطبراني في "المعجم الكبير"(14/ 304)، والبيهقي في السنن الكبرى (8/ 333)، قال ابن مفلح في "الآداب الشرعية" (1/ 284):"بإسناد صحيح"، وصححه الألباني في "غاية المرام"(242).
(4)
أخرجه أحمد (39/ 287)، وأبو داود (رقم: 4889)، قال الهيثمي في "مجمع الزوائد ومنبع الفوائد" (5/ 259):"رجاله ثقات"، وصححه الألباني في "صحيح الأدب المفرد"(111).
الثالثة، فأرسل إليهم أيضًا، فسأل عنه، فأخبروه أنه لا بأس به، ولا بعقله، فلما كان الرابعة حفر له حفرة ثم أمر به فرجم، قال: فجاءت الغامدية فقالت: يا رسول اللَّه إني قد زنيت فطهرني، وإنه ردها، فلما كان الغد قالت: يا رسول اللَّه لم تردني؟ لعلك أن تردني كما رددت ماعزًا، فواللَّه إني لحبلى، قال:(إمَّا لا فاذهبي حتى تلدي)، فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة، قالت: هذا قد ولدته، قال:(اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه)، فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز، فقالت: هذا يا نبي اللَّه قد فطمته، وقد أكل الطعام، فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين، ثم أمر بها، فحفر لها إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها. . . الحديث" (1).
• وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم ردَّ ماعز بن مالك والغامدية أول الأمر حتى رجعا إليه يريدان الحد، ولم يبعث النبي صلى الله عليه وسلم في أثرهما يتتبع ما فعلاه، ولم يبحث عن المرأة التي وقع عليها ماعز، أو الرجل الذي وقع على الغامدية.
الدليل الخامس: عموم الأحاديث الدالة على استحباب ستر الإنسان على نفسه، وستره على غيره (2)، حيث أن عمومها يدخل فيه ستر الإمام على رعيته.
الدليل السادس: أن ابن مسعود رضي الله عنه أتي برجل، فقيل له: هذا فلان تقطر لحيته خمرًا، فقال عبد اللَّه رضي الله عنه:"إنا قد نهينا عن التجسس، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به"(3).
(1) أخرجه مسلم رقم (1695)، وأخرج البخاري إقرار ماعز رقم (2502).
(2)
وقد سبق ذكر هذه الأحاديث في المسألة رقم 19 بعنوان: "يباح للإنسان أن يستر على نفسه الحد".
(3)
أخرجه أبو داود، كتاب: الآدب، باب: النهي عن التجسس، رقم (4890). قال العجلوني في "كشف الخفاء" (2/ 324):"على شرط الشيخين"، وقال النووي في "رياض الصالحين" (290):"حديث حسن صحيح، رواه أبو داود بإسناد على شرط البخاري ومسلم"، وقال الألباني في تعليقه على سنن أبي داود حديث رقم (4890):"إسناده صحيح".