الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العلم، بل هي محل خلاف بين المذاهب الأربعة؛ لثبوت الخلاف فيها مع المالكية، وأحمد في رواية، وابن أبي ليلى.
ولذا قال، ابن رشد الحفيد في سياق المسألة:"اختلفوا في السارق يسرق ما يجب فيه القطع فيرفع إلى الإمام وقد وهبه صاحب السرقة ما سرقه، أو يهبه له بعد الرفع وقبل القطع"(1)، واللَّه تعالى أعلم.
[85/ 1] المسألة الخامسة والثمانون: حد السرقة لا يسقط بالتوبة بعد الرفع
.
• المراد بالمسألة: أولًا: تعريف التوبة لغة واصطلاحًا: التوبة لغة: قال ابن فارس: "التاء والواو والباء كلمةٌ واحدة تدل على الرُّجوع، يقال: تابَ مِنْ ذنبه، أي رَجَعَ عنه"(2)
• التوبة اصطلاحًا: التوبة في اصطلاح الفقهاء هي الرجوع إلى اللَّه تعالى بترك ما مضى من المعاصي والذنوب (3).
ولها شروط حاصلها:
1 -
الإقلاع عن الذنب.
2 -
الندم على ما فعل.
3 -
العزم على عدم العودة للذنب (4).
4 -
أن تكون التوبة قبل فوات وقتها، وذلك بطلوع الشمس من مغربها، أو بلوغ الغرغرة.
(1) بداية المجتهد ونهاية المقتصد (2/ 453).
(2)
مقاييس اللغة (1/ 326).
(3)
انظر: الآداب الشرعية لابن مفلح (1/ 84).
(4)
وقال بعضهم: هذه الشروط الثلاثة يكفي عنها تحقق الندم؛ لأنه يستلزم الإقلاع عنه، والعزم على عدم العود، فهما ناشئان عن الندم لا أصلان معه، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:(الندم توبة)، قال ابن حجر في "فتح الباري" (13/ 471):"وهو حديث حسن".
5 -
رد المظالم إلى أهلها، إن كان الذنب يتعلق بحقوق الآخرين (1).
• ثانيًا: صورة المسألة: لو شبتت السرقة على شخص بما يوجب الحد، وبعد رفعه للإمام تاب السارق من سرقته، فإن القطع لا يسقط حينئذٍ.
يتبين مما سبق أن توبته لو كانت قبل ثبوت الأمر للسلطان، فذلك غير مراد في مسألة الباب.
• من نقل الإجماع: قال أبو بكر الجصاص (370 هـ): "قد اتفقنا أن التوبة لا تُسقط الحد"(2). وقال القرطبي (671 هـ): "لا خلاف فيما أعلمه أن التوبة لا تُسقط حدًا"(3).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (728 هـ): "اتفق العلماء فيما أعلم على أن قاطع الطريق واللص ونحوهما إذا رفعوا إلى ولى الأمر ثم تابوا بعد ذلك لم يسقط الحد عنهم بل تجب إقامته وإن تابوا"(4). وقال ابن القيم (751 هـ): "الحدود لا تسقط بالتوبة بعد القدرة اتفاقًا"(5). وقال ابن المرتضى (840 هـ): "ولا يسقط -أي الحد- بالتوبة بعد الرفع إجماعا"(6).
قال ابن الهمام (861 هـ): "للإجماع على أن التوبة لا تسقط الحد في الدنيا"(7). وقال ابن نجيم (970 هـ): "الإجماع على أن التوبة لا تسقط الحد في الدنيا"(8). وقال القاري (1014 هـ)، والشوكاني (1250 هـ) مثل قول ابن الهمام تمامًا:"للإجماع على أن التوبة لا تسقط الحد في الدنيا"(9). وقال أبو الطيب (1329 هـ):
(1) انظر: المغني (10/ 173)، شرح النووي (1/ 70)، فتح الباري (13/ 471).
(2)
أحكام القرآن (3/ 409).
(3)
تفسير القرطبي (5/ 91).
(4)
الفتاوى (28/ 300)، وانظر: الصارم المسلول (1/ 362).
(5)
إعلام الموقعين (3/ 105).
(6)
البحر الزخار (6/ 158).
(7)
فتح القدير (5/ 211).
(8)
البحر الرائق شرح كنز الدقائق (5/ 3).
(9)
مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (7/ 113)، فتح القدير (5/ 211).
"أجمع العلماء على أن التوبة لا تسقط حدًا من حدود اللَّه"(1).
• مستند الإجماع: يدل على مسألة الباب ما يلي:
1 -
قول اللَّه تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)} (2).
• وجه الدلالة: أن الآية عامة، ولم تستثن التائب من غيره.
2 -
عن ثعلبة بن سعد الأنصاري رضي الله عنه (3): "أن عمرو بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس (4) جاء إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه إني سرقت جملًا لبني فلان فطهرني، فأرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إنا افتقدنا جملًا لنا، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فقطعت يده، قال ثعلبة: أنا أنظر إليه حين وقعت يده وهو يقول: الحمد للَّه الذي طهرني منك، أردت أن تدخلي جسدي النار"(5).
• وجه الدلالة: أن عمرو بن سمرة جاء تائباص يطلب الحد، ومع ذلك أقام عليه النبي صلى الله عليه وسلم الحد، ولم يسقطه بالتوبة.
3 -
القياس على حد الزنى؛ فإن ماعز بن مالك، والغامدية، حين تابا من الزنى، ويلغ أمرهم للإمام، لم يُسقط النبي صلى الله عليه وسلم عنهم الحد لأجل توبتهم، فكذا السرقة، لا تسقط بالتوبة، إذا بلغت الإمام.
(1) عون المعبود (12/ 31).
(2)
سورة المائدة، آية (38).
(3)
هو ثعلبة بن سعد بن مالك بن خالد بن ثعلبة الأنصاري الساعدي، شهد بدرًا، واستشهد بأحد، وهو عم أبي حميد الساعدي وسهل بن سعدٍ. انظر: الاستيعاب 1/ 208، الجرح والتعديل 2/ 461، الإصابة 1/ 403.
(4)
هو عمرو بن حبيب بن عبد شمس، وقيل: عمرو بن سمرة الأقطع، وقيل: عمرو بن أبي حبيب، وقيل غير ذلك، عداده في الشاميين. انظر: الإصابة 4/ 644، معرفة الصحابة 4/ 2045.
(5)
ابن ماجه (رقم: 2588)، قال البوصيري في "مصباح الزُّجاجة" (3/ 112):"هذا إسناد ضعيف لضعف عبد اللَّه بن لهيعة"، وضعفه الألباني كما في "صحيح وضعيف ابن ماجه" (رقم: 2588).
• المخالفون للإجماع: ذهب بعض الفقهاء إلى أن التوبة بعد الرفع مسقطة للحد، وهو قول بعض الشافعية كالماوردي، والروياني (1)، والمحاملي (2)(3). وهو قول الشافعي لمَّا كان بالعراق، ثم رجع عنه بمصر (4).
وهو أيضًا رواية عند الحنابلة اختارها أبو الخطاب (5)(6).
وإن كان ابن تيمية قرر في كتابه الصارم المسلول أن الخلاف هو فيما لو لم يثبت الحد عند الإمام، أما إن ثبت عند الإمام فالمسألة محل إجماع.
وقرر أن ما نُقل عن الإمام أحمد في هذه المسألة أن من تاب فلا حد عليه ولو ثبت عليه الحد عند الإمام، ليس بصواب، بل متى أظهر التوبة بعد أن ثبت
(1) هو عبد الواحد بن إسماعيل بن أحمد بن محمد أبو المحاسن الروياني الطبري، الشافعي، فخر الإسلام، قاضي طبرستان، من أهل رويان -بنواحي طبرستان-، ولد سنة (114) هـ، أحد الأئمة الأعلام، برع في المذهب الشافعي حتى أنه كان يقول:"لو احترقت كتب الشافعي كنت أمليها من حفظي" وكانت له حظوه عند الملوك، من كتبه:"البحر" وهو من أطول كتب الشافعيين، ومناصيص الشافعي، تعصب عليه جماعة من الملاحدة فقتلوه وهو في الجامع سنة (152) هـ. انظر: طبقات الشافعية للسبكي 4/ 264، الكامل في التاريخ 9/ 134، سير أعلام النبلاء 19/ 261.
(2)
هو أبو الحسن، أحمد بن محمد بن أحمد بن القاسم بن إسماعيل الضبي المحاملي، البغدادي، الشافعي، فقيه فرضي، من مصنفاته:"تحرير الأدلة"، و"لباب الفقه"، ولد سنة (368) هـ، وتوفي سنة (415 هـ). انظر: تاريخ بغداد 4/ 372، الأنساب 5/ 209، طبقات الشافعية 1/ 174.
(3)
انظر: الدر المنثور (1/ 428 - 429).
(4)
حكاه عنه ابن حزم في المحلى (12/ 15).
(5)
هو أبو الخطاب، محفوظ بن أحمد بن حسن بن أحمد الكلوذاني البغدادي، أحد أئمة الفقه الحنبلي، درس الفقه على القاضي أبي يعلى، ولزمَهُ حتى برع في المذهب والخلاف، وصار إمام وقته، وفريد عصره في الفقه، من تصانيفه:"الهداية"، و"الخلاف الكبير" المسمى بـ "الانتصار في المسائل الكبار"، وغيرها، ولد سنة (432) هـ، ومات في جمادى الآخرة سنة (510) هـ انظر: اللباب في تهذيب الأنساب للجزري 2/ 49، طبقات الحنابلة 409.
(6)
انظر: الإنصاف (10/ 300).
عليه الحد عند الإمام بالبينة لم يسقط عنه الحد قولًا واحدًا عن الإمام أحمد، وأما إن تاب قبل أن يقدر عليه -بأن يتوب قبل أخذه وبعد إقراره الذي له أن يرجع عنه-: فهذا الذي فيه روايتان عن أحمد، إذ كان يقول بسقوط الحد ثم رجع عنه، وأيَّد ابن تيمية ذلك بأن هذا ما صرح به غير واحد من أئمة المذهب منهم الشيخ أبو عبد اللَّه بن حامد (1).
فتحصل مما قرره ابن تيمية أن المسألة عند الإمام أحمد على ثلاث حالات:
الحال الأولى: أن يتوب بعد ثبوت الحد عند الإمام، فهنا لا يسقط قولًا واحدًا عن الإمام أحمد.
الحال الثانية: أن يتوب قبل أن يقر بالحد، بأن يجيء للإمام تائبًا، فهذه لا حد فيها عند الإمام أحمد.
الحال الثالثة: أن يتوب بعد أن يقر، بأن يقر ثم يتوب، ففي هذه الحال روايتان عن أحمد، فكان يقول بسقوط الحد عنه، ثم رجع وقال بعدم سقوط الحد (2).
• دليل المخالف: استدل القائلون بسقوط الحد عن التائب بقول اللَّه تعالى: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)} (3).
• وجه الدلالة: الآية دليل على أن التائب لا يقام عليه الحد، إذ لو أقيم عليه الحد بعد التوبة لما كان لذكرها فائدة (4).
(1) هو أبو عبد اللَّه، الحسن بن حامد بن علي بن مروان، البغدادي، الوراق، شيخ الحنابلة، وهو شيخ القاضي أبي يعلي الفراء، كان يبتدئ مجلسة بإقراء القرآن، ثم التدريس، ثم ينسخ بيده ويقتات من أجرته، فسمي ابن حامد الوراق، من تصانيفه: الجامع في فقه ابن حنبل، وشرح أصول الدين، مات سنة (403) هـ انظر: تاريخ بغداد 7/ 303، البداية والنهاية 11/ 349، طبقات الحنابلة 2/ 169.
(2)
انظر: الصارم المسلول (1/ 507).
(3)
سورة المائدة، آية (39).
(4)
انظر: المنثور في القواعد الفقهية للزركشي (1/ 427).