الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكذلك بعض السلف أنكر بعضهم حروف القرآن مثل إنكار بعضهم قوله: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا} (1)، وقال: إنما هي: أو لم يتبين الذين آمنوا، وإنكار الآخر قراءة قوله:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (2)، وقال: إنما هي: ووصى ربك، وبعضهم كان حذف المعوذتين، وآخر يكتب سورة القنوت، وهذا خطأ معلوم بالإجماع والنقل المتواتر، ومع هذا فلما لم يكن قد تواتر النقل عندهم بذلك لم يكفروا، وإن كان يكفر بذلك من قامت عليه الحجة بالنقل المتواتر" (3).
النتيجة:
لم أجد من خالف في المسألة، لذا يظهر لي أن المسألة محل إجماع بين أهل العلم.
[124/ 4] المسألة الرابعة والعشرون بعد المائة: مرتكب الكبيرة والحدود لا يكفر إلا بالشرك
.
• المراد بالمسألة: المسلم إذا ارتكب ذنبًا من الصغائر، أو الكبائر التي عليها حدود، أو التي لا حدود عليها، فإنه لا يكفر بمجرد ارتكابه المعصية، سواء تاب منها أو لم يتب، ما لم تكن المعصية من الشرك الأكبر المخرج عن الملة.
ويتحصل مما سبق أن المعصية إن لم تكن مجرد فعل بأن كان معها اعتقاد استحلال، فذلك غير مراد في مسألة الباب.
• من نقل الإجماع: قال الترمذي (279 هـ): "لا نعلم أحدًا كفَّر أحدًا بالزنا، أو السرقة، وشرب الخمر"(4). وقال أبو الحسن الأشعري (324 هـ): "وأجمعوا على أن المؤمن باللَّه تعالى وسائر ما دعاه النبي إلى الإيمان به لا يخرجه عنه شيء من المعاصي، ولا يحبط إيمانه إلا الكفر، وأن العصاة من أهل القبلة
(1) سورة الرعد، آية (31).
(2)
سورة الإسراء، آية (23).
(3)
مجموع الفتاوى (12/ 492 - 493).
(4)
سنن الترمذي (2550).
مأمورين بسائر الشرائع، غير خارجين عن الإيمان بمعاصيهم" (1).
وقال ابن عبد البر (463 هـ): "وأجمع المسلمون على أنه لا يجوز ترك الصلاة على المسلمين المذنبين من أجل ذنوبهم، وإن كانوا أصحاب كبائر"(2). وقال النووي (676 هـ): "إجماع أهل الحق على أن الزاني والسارق والقاتل وغيرهم من أصحاب الكبائر غير الشرك لا يكفرون بذلك، بل هم المؤمنون ناقصوا الإيمان، إن تابوا سقطت عقوبتهم، وإن ماتوا مصرين على الكبائر كانوا في المشيئة، فإن شأن اللَّه تعالى عفا عنهم وأدخلهم الجنة أولًا، وإن شاء عذبهم ثم أدخلهم الجنة"(3)، ونقله عنه العراقي (4)، المباركفوري (5).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (728 هـ): "أئمة المسلمين أهل المذاهب الأربعة وغيرهم مع جميع الصحابة والتابعين لهم بإحسان متفقون على أن المؤمن لا يكفر بمجرد الذنب"(6). وقال ابن أبي العز الحنفي (792 هـ): "أهل السنة متفقون كلهم على أن مرتكب الكبيرة لا يكفر كفرًا ينقل عن الملة بالكلية"(7). وقال ابن حجر (852 هـ): "إجماع أهل السنة على أن مرتكب الكبائر لا يكفر إلا بالشرك"(8).
• مستند الإجماع: أما أدلة مسألة الباب فكثيرة منها:
1 -
قول اللَّه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ
(1) رسالة إلى أهل الثغر (274).
(2)
الاستذكار (3/ 29)، وانظر: التمهيد (17/ 22).
(3)
شرح النووي (2/ 41).
(4)
انظر: طرح التثريب (7/ 260).
(5)
انظر: تحفة الأحوذي (7/ 313 - 314).
(6)
مجموع الفتاوى (6/ 479)، وانظر: مجموع الفتاوى (4/ 307)، الاستقامة (2/ 185)، منهاج السنة النبوية (3/ 396).
(7)
شرح العقيدة الطحاوية (301)، وانظر:(315).
(8)
فتح الباري (12/ 60).
يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)} (1).
• وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى أخبر أن ما دون الشرك من المعاصي فإنه تحت مشيئته سبحانه، إن شاء غفر، وإن شاء عاقب، فلو كانت الكبائر كفرًا وصاحبها كافرًا ما كان أهلًا للمغفرة؛ لأنه قد تقرر أن الكفر لا يغفره اللَّه تعالى، ولا يصح حمل الآية على التائب؛ لأن التائب لا فرق في حقه بين الشرك وما دونه من المعاصي (2).
2 -
• وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى خاطب المؤمنين في الآية وبين سبحانه أن القاتل عمدًا، وولي المقتول أخوان، والأخوة ليست إلا لمن معه إيمان، كما قال سبحانه:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (4)(5).
3 -
• وجه الدلالة: أن اللَّه سبحانه جعل المعاصي ضروبًا، منها الكفر، ومنها الفسوق، ومنها العصيان، فعلم تغايرها وإلا لم يكن للعطف فائدة (7)، وفي ذلك يقول محمد بن نصر المروزي: "لما كانت المعاصي بعضها كفرًا وبعضها
(1) سورة النساء، آية (48).
(2)
انظر: التمهيد (17/ 16)، مجموع الفتاوى (7/ 484).
(3)
سورة البقرة، آية (178).
(4)
سورة الحجرات، آية (10).
(5)
انظر: الفتاوى (3/ 151)، لوامع الأنوار (1/ 368).
(6)
سورة الحجرات، آية (7).
(7)
انظر: الإيمان الكبير لابن تيمية (2/ 46).
ليس بكفر، فرق بينهما، فجعلها ثلاثة أنواع: نوع منها كفر، ونوع فسق وليس بكفر، ونوع عصيان وليس بكفر ولا فسوق، وأخبر أنه كرهها كلها إلى المؤمنين، ولما كانت الطاعات كلها داخلة في الإيمان وليس شيء منها خارجًا منه لم يفرق بينهما فيقول: حبب الإيمان والفرائض وسائر الطاعات، بل أجمل ذلك فقال: حبب إليكم الإيمان" (1).
4 -
• وجه الدلالة: أن اللَّه سبحانه بين أن الطائفة الباغية على الأخرى مؤمنة مع بغيها واعتدائها (3).
5 -
• وجه الدلالة: أن اللَّه سبحانه أمر من يرمي زوجته بالزنا باللعان، مما يدل على أن الرمي والزنا ليس كفرًا، إذ لو كان كفرًا لبانت منه عند رميه؛ لأنه إما أن تكون زانية أو بريئة، فإن كانت زانية كفرت، وتبين منه، وإن كانت بريئة كفر هو برميها وبانت منه لكفره (5).
(1) تعظيم قدر الصلاة (1/ 362).
(2)
سورة الحجرات، آية (9 - 10).
(3)
مجموع الفتاوى (3/ 151)، وانظر:(7/ 483).
(4)
سورة النور، آية (6 - 9).
(5)
الفصل في الملل والأهواء والنحل (3/ 134).
6 -
إيجاب حد القطع على السارق في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)} (1).
وكذا حد الجلد في الزاني غير المحصن، كما في قوله تعالى:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)} (2).
وحد القذف على القاذف في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)} (3).
• وجه الدلالة: أن كل واحد من السارق، والزاني، والقاذف قد أتى بكبيرة، ولو كانت السرقة، أو الزنى، أو القذف كفرًا، لأمَر تعالى بقتل أصحابها ردة، ولم يكتف فيه بالجلد أو القطع (4).
والآيات في الباب كثيرة.
7 -
عن عمر بن الخطاب أن رجلًا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد اللَّه، وكان يلقب حمارًا، وكان يضحك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأتي به يومًا، فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(لا تلعنوه؛ فواللَّه ما علمت إنه يحب اللَّه ورسوله)(5).
8 -
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: كنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في مجلس فقال: (تبايعوني على أن لا تشركوا باللَّه شيئًا، ولا تزنوا، ولا تسرقوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم اللَّه إلا بالحق، فمن وفى منكم فأجره على اللَّه، ومن أصاب شيئًا من ذلك فعوقب به فهو كفارة له، ومن أصاب شيئًا من ذلك
(1) سورة المائدة، آية (38).
(2)
سورة النور، آية (2).
(3)
سورة النور، آية (4).
(4)
التمهيد (17/ 19)، مجموع الفتاوى (4/ 307)، (7/ 482).
(5)
صحيح البخاري (رقم: 6398).
فستره اللَّه عليه فأمره إلى اللَّه، إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه) (1).
• وجه الدلالة: بين النبي صلى الله عليه وسلم أن من أصاب معصية وستره اللَّه فأمره إليه، وهو تحت المشيئة، فقد يعفو اللَّه عنه، وقد يعاقبه عليه، وقد تقرر أنه سبحانه لا يعفو عن الكفر (2).
9 -
أحاديث الشفاعة وهي من الأحاديث المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فمن ذلك ما رواه مسلم من حديث عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: (أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم -أو قال: بخطاياهم- فأماتهم إماتة، حتى إذا كانوا فحمًا أذن بالشفاعة، فجيء بهم ضبائر ضبائر (3)، فبثوا على أنهار الجنة، ثم قيل: يا أهل الجنة أفيضوا عليهم فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل) (4).
والأدلة في هذا الباب كثيرة، وفيما ذكر تحصيل للمقصود، واللَّه تعالى أعلم.
النتيجة:
يظهر لي -واللَّه أعلم- أن المسألة محل إجماع بين أهل السنة والجماعة، لكن ينبه إلى أن هذا الإجماع في الجملة، وإلا فثمة كبائر الخلاف في تكفير صاحبها مشهور بين أهل العلم، كالحكم بكفر تارك الصلاة.
لكن من الفقه أن يعلم بأن الخلاف بين أهل السنة في كفر تارك الصلاة، أو في غيره من الكبائر، مبني على أدلة خاصة تدل على ذلك هي محل نظر واجتهاد لأهل العلم في دلالتها على كفر صاحبها أو لا، أمَّا كون التكفير مرتبط بفعل الكبيرة فهذا الذي أجمع أهل السنة على عدم القول به، وإنما قال به الوعيدية
(1) البخاري (رقم: 18)، مسلم (رقم: 1709).
(2)
التمهيد (17/ 26).
(3)
الضبائر -بفتح الضاد وكسرها-: أي جماعات، وهو جمع، ومفرده ضباره. انظر: تهذيب اللغة (12/ 23)، غريب الحديث لابن سلام (1/ 72)، المعجم الوسيط (1/ 533).
(4)
مسلم، كتاب: الإيمان، باب: إثبات الشفاعة وإخراج الموحدين من النار، (رقم: 185).