الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[7/ 3] المسألة السابعة: ما وُجِد بيد البغاة من مالٍ لغيرهم مردودٌ إلى أصحابه
.
• المراد بالمسألة: إذا بغت طائفة على أهل العدل، ثم انتهى بغيهم إما بتوبة منهم، أو بتمكن أهل العدل عليهم، أو بغير ذلك، فإن ما وُجد عند البغاة من مال أهل العدل يُرد إلى أصحابه، ومن وجد ماله بعينه فهو أحق به.
• من نقل الإجماع: قال ابن أبي شيبة (235 هـ): "عن الزهري قال: "هاجت الفتنة وأصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم متوافرون، فأجمع رأيهم على أنهم لا يقاد ولا يودي ما أصيب على تأويل القرآن إلا مال يوجد بعينه""(1).
وقال ابن حزم (456 هـ): "اتفقوا أن ما وجد بيده -أي المحارب-، وبيد الباغين المتأولين، مردود إلى أربابه"(2).
• مستند الإجماع: يدل على مسألة الباب ما يلي:
1 -
عموم الأدلة الدالة على حرمة مال المسلم ووجوب رده إليه، ومن ذلك حديث سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(على اليد ما أخذت حتى تودي)(3).
2 -
إجماع الصحابة رضي الله عنهم على ذلك كما في رواية ابن أبي شيبة السابقة.
النتيجة:
لم أجد من خالف في المسألة، لذا يظهر لي -واللَّه أعلم- أن المسألة محل إجماع بين أهل العلم.
[8/ 3] المسألة الثامنة: الرجل من البغاة إذا أتلف مالًا بتأويل القرآن فإنه لا يغرم
.
• المراد بالمسألة: لو خرج البغاة على إمام بتأويل سائغ، ولهم مَنَعَةٌ، فإن
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (6/ 439).
(2)
مراتب الإجماع (217).
(3)
أخرجه أحمد (33/ 277)، وأبو داود (رقم: 318)، والترمذي (رقم: 1266)، وابن ماجه (رقم: 2400).
ما أتلفوه على أهل العدل حال القتال لا ضمان فيه.
ويتبين مما سبق أن البغاة إن لم تكن لهم مَنَعَةٌ، أو لم يكن لهم تأويل سائغ، أو كان ما أتلفوه في غير الحرب، فكل ذلك غير مراد في مسألة الباب.
• من نقل الإجماع: المسألة حكاها جمع من أهل العلم على أنها إجماع من الصحابة رضوان اللَّه تعالى عليهم: قال ابن أبي شيبة (235 هـ): "عن الزهري قال: "هاجت الفتنة وأصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم متوافرون، فأجمع رأيهم على أنهم لا يقاد ولا يودي ما أصيب على تأويل القرآن إلا مال يوجد بعينه""(1).
وقال السرخسي (483 هـ): "فأما سقوط الضمان فهو حكم ثبت باتفاق الصحابة بخلاف القياس"(2). وقال الكاساني (587 هـ): "الباغي إذا أصاب شيئًا من ذلك -أي الدماء أو الأموال- من أهل العدل فقد اختلفوا فيه، قال أصحابنا: إن ذلك موضوع، وقال الشافعي رحمه الله: إنه مضمون. . . ولنا: ما روي عن الزهري أنه قال: "وقعت الفتنة وأصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم متوافرون، فاتفقوا أن كل دم استحل بتأويل القرآن فهو موضوع، وكل مال استحل بتأويل القرآن فهو موضوع، وكل فرج استحل بتأويل القرآن فهو موضوع" ومثله لا يكذب، فانعقد الإجماع من الصحابة رضي الله عنهم على ما قلنا"(3).
وقال المرغيناني (593 هـ): "الباغي إذا قتل العادل لا يجب الضمان عندنا ويأثم.
وقال الشافعي رحمه الله في القديم: إنه يجب، وعلى هذا الخلاف إذا تاب المرتد وقد أتلف نفسًا أو مالًا، وله: أنه أتلف مالًا معصومًا، أو قتل نفسًا معصومةً، فيجب الضمان اعتبارًا بما قبل المنعة، ولنا: إجماع الصحابة رضي اللَّه تعالى عنهم، رواه الزهري" (4).
(1) مصنف ابن أبي شيبة (6/ 439).
(2)
المبسوط (30/ 142).
(3)
بدائع الصنائع (7/ 141).
(4)
العناية شرح الهداية (6/ 106 - 107).
وقال الموفق ابن قدامة (625 هـ): "وليس على أهل البغي أيضًا ضمان ما أتلفوه حال الحرب، من نفس ولا مال، وبه قال أبو حنيفة، والشافعي في أحد قوليه.
وفي الآخر: يضمنون ذلك؛ لقول أبي بكر لأهل الردة: "تدون قتلانا، ولا ندي قتلاكم". . . فأما قول أبي بكر رضي الله عنه فقد رجع عنه، ولم يُمضه، فإن عمر قال له: أما أن يدوا قتلانا فلا؛ فإن قتلانا قُتلوا في سبيل اللَّه تعالى، على ما أمر اللَّه". فوافقه أبو بكر، ورجع إلى قوله، فصار أيضًا إجماعًا حجة لنا"(1).
وكذا قال شمس الدين ابن قدامة (682 هـ) نفس أحرف ابن قدامة (2).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (728 هـ): "ما أتلفه أهل البغي المتأولون على أهل العدل من النفوس والأموال هل يضمنون على روايتين: إحداهما: يضمنونه؛ جعلا لهم كالمحاربين، وكقتال العصبية الذي لا تأويل فيه، وهذا نظير من يجعل العقود والقبوض المتأول فيها بمنزلة ما لا تأويل فيه. والثانية: لا يضمنونه، وعلى هذا اتفق السلف"(3).
وقال ابن القيم (751 هـ): "أجمع أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن كل مال أو دم أصيب بتأويل القرآن فهو هدر في قتالهم في الفتنة"(4).
• مستند الإجماع: استدل لمسألة الباب بأدلة منها:
1 -
• وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى أمر بقتال الفئة الباغية حتى ترجع عن بغيها، ولم يذكر سبحانه ضمان ما أتلف من مال أو نفس (6).
(1) المغني (9/ 9).
(2)
انظر: الشرح الكبير (10/ 62).
(3)
مجموع الفتاوى (22/ 13).
(4)
إعلام الموقعين (4/ 89).
(5)
سورة الحجرات، آية (9).
(6)
انظر: سبل السلام (2/ 377).
2 -
أن هذا إجماع الصحابة رضوان اللَّه تعالى عليهم، فإنهم في قتال الجمل وصفين لم يضمن أحد للًاخر ما قتل، أو أتلف من مال، وقد أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه عن ابن شهاب الزهري أنه قال:"هاجت الفتنة وأصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم متوافرون، فاجتمع رأيهم على أنه لا يقاد، ولا يودى ما أصيب على تأويل القرآن، إلا مال يوجد بعينه"(1).
وأخرجه البيهقي عن الزهري بلفظ: "كتب إليه سليمان بن هشام يسأله عن امرأة فارقت زوجها وشهدت على قومها بالشرك ولحقت بالحرورية، فتزوجت فيهم ثم جاءت تائبة.
قال: فكتب إليه الزهري وأنا شاهد: أما بعد، فإن الفتنة الأولى ثارت وفي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ممن شهد بدرًا، فرأوا أن يهدم أمر الفتنة، لا يقام فيها حد على أحد في فرج استحله بتأويل القرآن، ولا قصاص في دم استحله بتأويل القرآن، ولا مال استحله بتأويل القرآن، إلا أن يوجد شيء بعينه، وإني أرى أن تردها إلى زوجها وتحد من قذفها" (2).
3 -
من النظر: أن ترك تغريمهم أدعى لتوبتهم؛ فإن القول بتغريمهم قد يؤدي إلى تنفيرهم عن التوبة والعود إلى الطاعة، ويكون ذلك حاملًا لهم على التمادي فيما هم فيه.
• المخالفون للإجماع: خالف جماعة من أهل العلم لمسألة الباب فذهبوا إلى أن الباغي يضمن ما أتلفه على أهل العدل، وهو قول للشافعي (3)، ورواية
(1) مصنف ابن أبي شيبة (6/ 439).
(2)
سنن البيهقي الكبرى (8/ 175)
(3)
انظر: حاشيتا قليوبي وعميرة (4/ 172)، بدائع الصنائع (7/ 141)، المغني (9/ 9)، وهذا القول عند الشافعية خلاف الراجح عندهم، إذ الراجح عندهم هو عدم تضمين ما أتلف أهل البغي على أهل العدل حال الحرب. انظر: تحفة المحتاج في شرح المنهاج (9/ 52).
عن الإمام أحمد (1).
وبه قال الأوزاعي (2) وبعض الظاهرية منهم ابن حزم (3).
• دليل المخالف: استدل الموجبون للضمان بأدلة منها:
1 -
ما أخرجه البيهقي وابن أبي شيبة ولفظه: "عن طارق بن شهاب (4) قال:
(1) انظر: الإنصاف (10/ 317).
(2)
انظر: المحلى (11/ 346 - 347)، مغني المحتاج (5/ 403).
(3)
انظر: المحلى (11/ 346 - 347)، ولابن حزم تفصيل في الغرامة حيث قال: "القول عندنا أن البغاة كما قدمنا في صدر كلامنا ثلاث أصناف: صنف تأولوا تأويلًا يخفى وجهه على كثير من أهل العلم، كمن تعلق بآية خصتها أخرى، أو بحديث قد خصه آخر، أو نسخها نص آخر، فهؤلاء كما قلنا معذورون، حكمهم حكم الحاكم المجتهد يخطئ فيقتل مجتهدًا، أو يتلف مالًا مجتهدًا، أو يقضي في فرج خطأ مجتهدًا، ولم تقم عليه الحجة في ذلك، ففي الدم دية على بيت المال، لا على الباغي، ولا على عاقلته ويضمن المال كل من أتلفه، ونسخ كل ما حكموا به، ولا حد عليه في وطء فرج جهل تحريمه ما لم يعلم بالتحريم، وهكذا أيضًا من تأول تاويلًا خرق به الإجماع بجهالة ولم تقم عليه الحجة ولا بلغته.
وأما من تأول تأويلًا فاسدًا لا يعذر فيه، لكن خرق الإجماع -أي شيء كان- ولم يتعلق بقرآن ولا سنة، ولا قامت عليه الحجة وفهمها، وتأول تأويلًا يسوغ، وقامت عليه الحجة وعنَّد، فعلى من قتل هكذا القود في النفس فما دونها، والحد فيما أصاب بوطء حرام، وضمان ما استهلك من مال. وهكذا من قام في طلب دنيا مجردًا، بلا تأويل، ولا يعذر هذا أصلا؛ لأنه عامد لما يدري أنه حرام -وباللَّه تعالى التوفيق- وهكذا من قام عصبية ولا فرق، وقد تكون الفئتان باغيتين إذا قامتا معًا في باطل، فإذا كان هكذا فالقود أيضًا على القاتل، من أي الطائفتين كان".
(4)
هو أبو عبد اللَّه، طارق بن شهاب بن عبد شمس بن سلمة الأحمسي، البجلي، الكوفي، رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وأرسل عنه الحديث حيث لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا، وغزا في خلافة أبي بكر غير مرة، قال قيس بن مسلم:"سمعته يقول: رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وغزوت في خلافة أبي بكر وعمر بضعًا وثلاثين، أو قال: بضعًا وأربعين، من بين غزوة وسرية"، قال ابن حجر:"إذا ثبت أنه لقي النبي صلى الله عليه وسلم فهو صحابي على الراجح، وإذا ثبت أنه لم يسمع منه فروايته عنه مرسل صحابي، وهو مقبول على الراجح"، توفي سنة (82 هـ)، ومن أرخ وفاته بعد المائة فهو وهم كما نبه على ذلك الذهبي وابن حجر. انظر: سير أعلام النبلاء 5/ 485، الإصابة 3/ 510، تهذيب التهذيب 5/ 4.
جاء وفد بُزاخة أسد وغطفان (1) إلى أبى بكر رضي الله عنه يسألونه الصلح، فخيرهم أبو بكر رضي الله عنه بين الحرب المُجْلِية (2) أو السلم المُخْزِية، فقالوا: هذا الحرب المجلية قد عرفنا، فما السلم المخزية، قال أبو بكر رضي الله عنه: تؤدون الحلَقة (3) والكراع (4)، وتتركون أقوامًا تتبعون أذناب الإبل، حتى يري اللَّه خليفة نبيه والمسلمين أمرا يعذرونكم به، وتدون قتلانا (5) ولا ندي قتلاكم، وقتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، وتردون ما أصبتم منا، ونغتم ما أصبنا منكم، فقال عمر رضي الله عنه: قد رأيت رأيًا وسنشير عليك، أما أن يؤدوا الحلقة والكراع فنعما رأيت، وأما أن يُتركوا قوما يتبعون أذناب الإبل حتى يُرِي اللَّه خليفة نبيه
(1) بُزاخة هو موضع بالبحرين، أو ماء لطيء بارض نجد، وهذا الموضع كان فيه حرب للمسلمين أيام أبي بكر رضي الله عنه، وهؤلاء الوفد كانوا قد ارتدوا ثم تابوا وأرسلوا وفدهم إلى الصديق يعتذرون إليه فأحب أن لا يقضي فيهم حتى يشاور أصحابه في أمرهم. انظر: معجم البلدان للحموي (1/ 408)، معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع للبكري (1/ 247).
(2)
قال ابن الأثير"أي حَرْبًا مُجْلِيَةً مُخْرِجة عن الدَّار والمال"، من الجلاء، قال ابن منظور:"جَلا القومُ عن أَوطانهم يَجْلُون وأَجْلَوْا إِذا خرجوا من بلد إِلى بلد"، ومنه قوله تعالى:{وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا} [الحشر: 3]، انظر: النهاية لابن الأثير مادة: (جلا)، (1/ 290)، لسان العرب (14/ 149) مادة:(جلا)، فتح الباري (13/ 210).
(3)
الحلَقة -بفتح اللام-: أي السلاح، قال الخطابي في "غريب الحديث" (2/ 32):"الحلقة السلاح وأداة الحرب وأكثر ما يقال ذلك في الدروع". انظر: فتح الباري (13/ 210)، غريب الحديث لابن الجوزي (1/ 235).
(4)
المراد بالكراع هنا الخيل، كما بينه الحافظ ابن حجر في "فتح الباري"(13/ 210)، قال الرازي في مختار الصحاح:"الكُراع: اسم يجمع الخيل"، وأما أصل الكراع فقال ابن فارس في مقاييس اللغة (5/ 138 - 139):"الكاف والراء والعين أصلٌ صحيح يدلُّ على دِقَّةٍ في بعض أعضاء الحيوان، من ذلك الكُرَاع، وهو من الإنسان ما دونَ الرُّكبة، ومن الدوابِّ: ما دون الكَعب. . . فأمَّا تسميتُهم الخَيْل كُراعًا فإنَّ العرب قد تعبَّر عن الجسم ببعض أعضائِه، كما يقال: أعتَقَ رقبةً، ووَجْهِي إليك. فيمكنُ أن يكون الخيلُ سمِّيت كُرَاعًا لأكارعها".
(5)
أي تؤدون دية قتلانا.