الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العلم، وأن أكثر أهل العلم على أن السارق لا يقتل من باب الحد، لكن ليس ذلك محل إجماع متحقق، ولذا لمَّا ذكر ابن عبد البر المسألة وخلاف أبي مصعب فيها، لم يجعل المسألة إجماعًا، وإنما نسبها للجمهور، فقال بعد قوله بعدم القتل:"وعلى هذا جمهور أهل العلم"(1).
واعتذر ابن حجر عمن نقل الإجماع بأن مرداهم أنه قد استقر الإجماع بعد ذلك على عدم القتل، وهذا التوجيه حسن؛ إذ هو أولى من تجهيل الأئمة، واللَّه تعالى أعلم.
[12/ 1] المسألة الثانية عشرة: السارق إذا دخل البيت ولم يخرج بالمتاع لا يُقطع
.
• المراد بالمسألة: لو أن شخصًا دخل دار شخص آخر، وجمع متاعًا، ثم قُبض عليه قبل أن يُخرِج المتاع من الدار، فهنا لا حد عليه، لكن للإمام أن يعزره.
ويتبين من ذلك أنه لو أخرج المتاع من الحرز، فهذه مسألة أخرى غير مسألة الباب، وإنما المراد هنا جمع المال في الحرز قبل إخراجه.
• من نقل الإجماع: هذه المسألة مبنية على مسألة اشتراط الحرز في السرقة، فمن اشترط إخراج المسروق من الحرز لإقامة حد السرقة، لم يقل بالقطع في مسألة الباب، وقد نقل غير واحد من أهل العلم الإجماع على أنه يشترط لإقامة حد القطع أن يكون المسروق محروزًا.
قال ابن هبيرة (560 هـ): "أجمعوا على أن الحرز معتبر في وجوب القطع"(2). فهذا نص في اشتراط الحرز على العموم، ونص جماعة على الإجماع في عين مسألة الباب:
(1) الاستذكار (7/ 549).
(2)
الإفصاح عن معاني الصحاح (2/ 205)، وثمة آخرين من أهل العلم نقلوا الإجماع على اشتراط الحرز، وإنما لم أذكرهم في مسألة الباب؛ لأنه قد أُفرِدت مسألة باشتراط الحرز في حد السرقة، وسيأتي فيه نقل كلام أهل العلم في كون الحرز مسألة إجماع أو لا، في المسألة الثانية والأربعون تحت عنوان:"من شروط إقامة حد السرقة أن تكون السرقة من حرز"، واللَّه تعالى أعلم.
قال ابن المنذر (318 هـ): "أجمعوا أن القطع يجب على من سرق ما يجب فيه القطع من الحرز، وانفرد الحسن البصري فقال فيمن جمع المتاع في البيت عليه القطع، ورواية أخرى مثل قول الجميع"(1). وقال أبو بكر الجصاص (370 هـ): "اتفق فقهاء الأمصار على أن القطع غير واجب إلا أن يفرق بين المتاع وبين حرزه، والدار كلها حرز واحد، فكما لم يخرجه من الدار لم يجب القطع"(2).
وقال ابن عبد البر (463 هـ): "قال مالك: "الأمر المجتمع عليه عندنا في السارق يوجد في البيت قد جمع المتاع لم يخرج به، أنه ليس عليه قطع". . . هذا مذهب جمهور العلماء من السلف والخلف، وبه قال أئمة الفتوى بالأمصار وأصحابهم إلى اليوم وذلك دليل على مراعاتهم الحرز أنه لا قطع إلا على من سرق من حرز، والخلاف في هذا شذوذ لا يلتفت إليه ولا يعرج عليه"(3).
وقال ابن قدامة (620 هـ): "هذا قول أكثر أهل العلم، وهذا مذهب عطاء، والشعبي (4)، وأبي الأسود الدؤلي (5)، وعمر بن عبد العزيز،
(1) الإجماع (110).
(2)
أحكام القرآن (2/ 604).
(3)
الاستذكار (7/ 571 - 572).
(4)
هو أبو عمرو، عامر بن شراحيل الشعبي، الحميري، الكوفي، من شعب همدان، ثقة مشهور، فقيه، فاضل، روى عن جملة من الصحابة، ولد في وسط خلافة عمر بن الخطاب، قال أحمد بن عبد اللَّه العجفي:"مرسل الشعبي صحيح ولا يكاد يرسل إلا صحيحًا"، وقال الشعبي:"أدركت خمسمائة من الصحابة أو أكثر"، وقال:"ما كتبت سوداء في بيضاء إلى يومي هذا، ولا حدثني رجل بحديث قط إلا حفظته، ولا أحببت أن يعيده علي"، مات سنة (104) هـ. انظر: الوفيات للبغدادي 1/ 244، البداية والنهاية 9/ 49، تذكرة الحفاظ 1/ 74 - 80.
(5)
هو المقداد بن عمرو بن ثعلبة بن مالك بن ربيعة، أبو الأسود ويقال غير ذلك، المعروف بالمقداد بن الأسود الكندي، صحابي، أسلم قديمًا، هاجر الهجرتين وشهد بدرًا والمشاهد بعدها، هو أحد السبعة الذين كانوا أول من أظهر الإسلام، آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين عبد اللَّه بن رواحة، روى عنه علي وأنس وعبيد اللَّه بن عدي وآخرون. انظر: تهذيب التهذيب 10/ 285، الإصابة 3/ 454، الأعلام 8/ 208.
والزهري (1)، وعمرو بن دينار (2)، والثوري (3)، ومالك، والشافعي، وأصحاب الرأي، ولا نعلم عن أحد من أهل العلم خلافهم، إلا قولًا حكي عن عائشة، والحسن، والنخعي (4)، فيمن جمع المتاع ولم يخرج به من الحرز عليه القطع، وعن الحسن مثل قول الجماعة، وحكي عن داود أنه لا يعتبر الحرز" ثم رد عليهم ابن قدامة بأن قولهم مخالف للإجماع (5).
(1) هو أبو بكر، محمد بن مسلم بن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن شهاب الزهري القرشي، المدني، عالم الحجاز والشام، كان من أكابر الحفاظ والفقهاء، ومن أعلم الناس بالحلال والحرام، قال الشافعي:"لولا الزهري لذهبت السنن من المدينة" ومناقبه كثيرة، حيث أجمع أهل العلم على إمامته في السنة والحديث، توفي سنة (124 هـ). انظر: شذرات الذهب 5/ 221، طبقات الشافعية 84، معجم المؤلفين 6/ 257.
(2)
هو عمرو بن دينار الجمحي بالولاء، أبو محمد الأثرم: فقيه، كان مفتي أهل مكة، فارسي الأصل، قال شعبة:"ما رأيت أثبت في الحديث منه"، وقال النسائي:"ثقة ثبت"، واتهمه أهل المدينة بالتشيع والتحامل على ابن الزبير، ونفى الذهبي ذلك، ولد بصنعاء سنة (46 هـ)، وتوفي بمكة سنة (126 هـ). انظر: سير أعلام النبلاء 5/ 300، تاريخ الإسلام 5/ 114، تهذيب التهذيب 8/ 28.
(3)
أبو عبد اللَّه، سفيان بن سعيد بن مسروق بن حبيب، الثوري، الكوفي، أحد الأئمة، المجتهد الفقيه، وأمير المؤمنين في الحديث، وكان سيد أهل زمانه في علوم الدين والتقوى والزهد والعبادة، وكان له مذهب متبوع في الفقه، وكان شديد الحفظ، ويقول عن نفسه:"ما استودعت قلبي شيئًا فخانني"، وهو من تابعي التابعين، وأخذ عنه العلم خلق كثير، ولد في الكوفة سنة (97) هـ، وتوفي بالبصرة سنة (161) هـ. انظر: تاريخ بغداد 9/ 151، التعديل والتجريح 3/ 1139، الجواهر المضية 1/ 250.
(4)
هو أبو عمران، إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود النخعي، الإمام، الحافظ، فقيه العراق، كان واسع الرواية، ومفتي أهل الكوفة هو والشعبي في زمانهما، وكان رجلًا صالحًا، بصيرًا بعلم ابن مسعود رضي الله عنه، قال الإمام أحمد:"كان إبراهيم ذكيًا، حافظًا، صاحب سنة"، توفي سنة (96) هـ، وقيل:(95) هـ. انظر: الطبقات الكبرى 6/ 188 - 199، تذكرة الحفاظ 1/ 70، تهذيب التهذيب 1/ 155.
(5)
المغني (9/ 98).
وقال بهاء الدين المقدسي (624 هـ): "الشرط الرابع: أن يخرجه من الحرز، كل أهل العلم على اشتراطه، ولا نعلم عن أحد خلافهم"(1). وقال القرطبي (671 هـ): "اتفق جمهور الناس على أن القطع لا يكون إلا على من أخرج من حرز ما يجب فيه القطع، وقال الحسن بن أبي الحسن: إذا جمع الثياب في البيت قطع، وقال الحسن بن أبي الحسن أيضًا في قول آخر: مثل قول سائر أهل العلم، فصار اتفاقًا صحيحًا"(2). وحكاه النووي (676 هـ) إجماعًا (3).
وقال شمس الدين ابن قدامة (682 هـ) في سياق شروط قطع السارق: "الرابع: أن يخرجه من الحرز، يشترط أن يسرق من حرز ويخرجه منه وهذا قول أكثر أهل العلم منهم عطاء، والشعبي، وأبو الأسود الدؤلي، وعمر بن عبد العزيز، والزهري، وعمرو بن دينار، والثوري، ومالك، والشافعي، وأصحاب الرأي، ولا نعلم عن أحد من أهل العلم خلافهم، إلا قولًا حكي عن عائشة، والحسن، والنخعي، فيمن جمع المتاع فلم يخرج به من الحرز عليه القطع، وعن الحسن مثل قول الجماعة، وحكي عن داود أنه لا يعتبر الحرز؛ لأن الآية لا تفصيل فيها، وهذه أقوال شاذة غير ثابتة عمن نقلت عنه، قال ابن المنذر: ليس في خبر ثابت ولا مقال لأهل العلم إلا ما ذكرناه، فهو كالإجماع"(4).
وقال ابن الهمام (861 هـ): "الإخراج من الحرز شرط عند عامة أهل العلم، وعن عائشة، والحسن، والنخعي، أن من جمع المال في الحرز قطع، وإن لم يخرج به، وعن الحسن مثل قول الجماعة، وعن داود لا يعتبر الحرز أصلًا، وهذه الأقوال غير ثابتة عمن نقلت عنه، ولا مقال لأهل العلم إلا ما ذكرنا، فهو كالإجماع"(5) ونقله عنه ابن نجيم (6).
(1) العدة شرح العمدة لبهاء الدين المقدسي (2/ 180).
(2)
تفسير القرطبي (6/ 162).
(3)
انظر: تحفة المحتاج في شرح المنهاج (9/ 133).
(4)
الشرح الكبير (10/ 258).
(5)
فتح القدير (5/ 280).
(6)
انظر: البحر الرائق (5/ 62).
وقال الجزيري (1360 هـ): "اتفق الأئمة على أن القطع لا يكون إلا على من أخرج من حرز ما يجب فيه القطع من المال، فإذا جمع الثياب في البيت ثم ضبط قبل أن يحملها فلا قطع عليه"(1).
• مستند الإجماع: يدل على مسألة الباب ما يلي:
1 -
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أنه سئل عن الثمر المعلق؟ فقال: (ما أصاب من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه، ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثليه والعقوبة، ومن سرق شيئًا منه بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع، ومن سرق دون ذلك فعليه غرامة مثليه والعقوبة)(2).
وفي رواية أخرى للنسائي: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سُئل في كم تقطع اليد؟ قال: (لا تقطع اليد في ثمر معلق، فهذا ضمه الجرين قطعت في ثمن المجن، ولا تقطع في حريسة الجبل (3)، فإذا آوى المراح قطعت في ثمن المجن) (4).
• وجه الدلالة: أن الشارع جعل من شرط القطع أن يكون المال مُحرزًا، وذلك يدل على أن من شرط القطع هتك الحرز وإخراج المتاع منه (5).
2 -
من النظر: أن من لم يُخرِج من الحرز لا يعد سارقًا حقيقة، وإنما هو كمن وضع بين يديه خمرًا ليشربها، ولم يفعل، أو كرجل جلس بين يدي امرأة
(1) الفقه على المذاهب الأربعة (5/ 179).
(2)
أخرجه أحمد (11/ 273)، والترمذي (رقم: 1289)، وأبو داود (رقم: 4390)، والنسائي (رقم: 4958)
(3)
الحريسة فعيلة بمعنى مفعولة، أي المحروسة في الجبل، فلا قطع في سرقتها لعدم الحرز. انظر: الصحاح (4/ 54)، مشارق الأنوار للقاضي عياض (1/ 188).
(4)
أخرجه النسائي، كتاب: قطع السارق، باب: الثمر المعلق يسرق (4957).
(5)
انظر: المغني (9/ 103).
يريد أن يصيبها، ثم لم يفعل، فليس على أحد من هؤلاء حد، والمقصود بالسرقة هو إخراج المال، لا هتك الحرز، فإذا لم يتحقق المقصود فلا يُعد الشخص سارقًا حقيقة (1).
• المخالفون للإجماع: المتأمل في كلام ابن عبد البر، وابن قدامة وغيرهم يلحظ أن ثمة مخالفًا في المسألة.
والمخالف في مسألة اشتراط الحزر لوجوب القطع هم الظاهرية (2)، حيث ذهبوا إلى وجوب القطع في مسألة الباب بناءً على أن الحرز غير شرط في القطع، فلو أخذ المتاع ثم قبض قبل أن يُخرجه من الدار وجب عليه الحد، ونقله ابن حزم عن عائشة رضي الله عنها، والنخعي، وسعيد بن المسيب (3)، وعبيدالله بن عبد اللَّه بن عتبة (4)، والحسن البصري (5).
• دليل المخالف: علل ابن حزم لمسألة الباب بأنه ليس من شرط القطع في السرقة أن يأخذه من حرز.
النتيجة:
يظهر لي -واللَّه أعلم- أن المسألة ليست محل إجماع متحقق بين
(1) انظر: المبسوط (9/ 139)، أحكام القرآن للجصاص (2/ 605)، المنتقى شرح الموطأ (7/ 186).
(2)
المحلى (12/ 352).
(3)
هو أبو محمد، سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب، المخزومي القرشي، المدني، شيخ الإسلام، وسيد التابعين هامامهم وأجلهم، واحد الفقهاء السبعة، جمع بين الحديث والفقه، والزهد والعبادة، وكان فقيه النفس، قوالًا بالحق، لا يخاف في اللَّه لومة لائم، توفي بالمدينة سنة (94) هـ. انظر: الطبقات الكبرى 5/ 88، التاريخ الكبير 3/ 510، تهذيب التهذيب 4/ 74.
(4)
هو أبو عبد اللَّه، عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة بن مسعود، الهذلي، المدني، الفقيه، العلم، أحد الفقهاء السبعة، وكان إماما في الفقه والحديث، شاعرًا، قال الزهري:"كان عبيد اللَّه من بحور العلم"، مات سنة (98) هـ. انظر: الطبقات الكبرى 5/ 86، تهذيب الكمال 19/ 73.
(5)
المحلى (12/ 302).