الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول مسائل الإجماع العامة في حد البغي
[1/ 3] المسألة الأولى: الخوارج مع ضلالهم فرقة من المسلمين، تجوز مناكحتهم، وأكل ذبائحهم، وأنهم لا يكفرون ما داموا متمسكين بأصل الإسلام
.
• المراد بالمسألة: الكلام في مسألة الباب على الخوارج الذين خرجوا على علي رضي الله عنه، وقالوا بكفر مرتكب الكبيرة، فإنهم مع ضلالهم في الخروج على علي رضي الله عنه واستباحتهم لدماء المسلمين، وتكفيرهم إياهم، إلا أنهم مع ذلك لم يخرجوا من دائرة الإسلام، فدماؤهم فأموالهم وأعراضهم معصومة، لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين، وتجوز مناكحتهم (أي تزويجهم أو الزواج منهم)، وأكل ذبائحهم، وكذا كل من سلك نهجهم ممن بعدهم.
أما من اعتقد شيئًا آخر كفريًا زيادة على معتقد الخوارج في زمن علي رضي الله عنه، فغيم داخلين في مسألة الباب.
• من نقل الإجماع: قال الخطابي (388 هـ): "أجمع علماء المسلمين على أن الخوارج مع ضلالتهم فرقة من فرق المسلمين، وأجازوا مناكحتهم، وأكل ذبائحهم، وأنهم لا يكفرون ما داموا متمسِّكين بأصل الإسلام"، نقله عنه ابن حجر (1)، والمناوي (2). . .
(1) انظر: فتح الباري (12/ 300).
(2)
هو عبد الرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين بن يحيى بن محمد بن محمد بن محمد بن أحمد بن مخلوف بن عبد السلام، الحدادي، ثم المناوي، القاهري، الشافعي الملقب بزين الدين، العالم، الزاهد، العابد، برع في الفقه، والتفسير، والحديث، وغيرها من الفنون، انزوى للبحث والتصنيف، وكان قليل الطعام كثير السهر، يقتصر في اليوم على أكلة واحدة، فمرض وضعفت أطرافه، فجعل ولده تاج الدين محمد يستملي منه تآليفه، له مصنفات كثيرة، بلغت نحو الثمانين، منها الكبير والصغير والتام والناقص، من كتبه:"كنوز الحقائق"، =
(1)
، والقاري (2)، والشوكاني (3).
وذى ابن الهمام (861 هـ) أن حكم الخوارج عند جمهور الفقهاء وجمهور أهل الحديث حكم البغاة، ثم قال:"وذهب بعض أهل الحديث إلى أنهم مرتدون لهم حكم المرتدين. . . قال ابن المنذر: "ولا أعلم أحدًا وافق أهل الحديث على تكفيرهم"، وهذا يقتضي نقل إجماع الفقهاء"(4).
• مستند الإجماع: استدل أهل العلم لهذه المسألة:
بأن هذا هو ظاهر مذهب الصحابة رضوان اللَّه تعالى عليهم، فإنهم لم يعملوا في قتال الخوارج بما يشرع في حق الكفار، من السبي، والغنيمة، وأمثال ذلك مما هو مشهور في أحكام المقاتلين من الكفار وأهل الردة، بل أجْرَوا فيهم حكم المسلمين. فلم يجهزوا على الجريح، ولم يتبعوا المدبر، ولم يغنموا منهم.
كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "الخوارج كانوا من أظهر الناس بدعة، وقتالًا للأمة، وتكفيرًا لها، ولم يكن في الصحابة من يُكفرهم، لا علي بن أبى طالب ولا غيره، بل حكموا فيهم بحكمهم في المسلمين الظالمين المعتدين"(5).
ومما يبين ذلك أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما قاتل الحرورية -وهم الخوارج- قيل له: أكفارهم؟ قال: "من الكفر فرُّوا"، قيل: فمنافقين؟ قال: "إن المنافقين لا يذكرون اللَّه إلا قليلًا وهؤلاء يذكرون اللَّه كثيرًا، قيل:
= و"التيسير في شرح الجامع الصغير"، و"فيض القدير"، ولد سنة (952 هـ)، وتوفي بالقاهرة سنة (1031 هـ). انظر: خلاصة الأثر 2/ 400، البدر الطالع 396، إيضاح المكنون للرومي 1/ 19.
(1)
انظر: فيض القدير (4/ 126).
(2)
انظر: مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (7/ 94).
(3)
انظر: نيل الأوطار (7/ 199).
(4)
فتح القدير (6/ 99 - 100)، وانظر: تبيين الحقائق (5/ 151)، رد المحتار للدر المختار (4/ 263).
(5)
مجموع الفتاوي (7/ 217 - 218).
فما هم؟ قال: قوم أصابتهم فتنة فعموا فيها وصمُّوا" (1).
ولما ضربه عبد الرحمن بن ملجم (2) قال علي رضي الله عنه: "أطيبوا طعامه، وألينوا فراشه، فإن أعش فأنا أولى بدمه عفوًا وقصاصًا، وإن أمت فألحقوه بي أخاصمه عند رب العالمين"(3).
فقوله: "وإن حييت فأنا ولي الدم" دليل على أنه لا يرى الخوارج كفارًا؛ لأنه لو كان ابن ملجم كافرًا أو مرتدًا لما كان علي رضي الله عنه ولي الدم عفوًا أو قصاصًا، لأن من بدَّل دينه وجب قتله بحد الردة.
• المخالفون للإجماع: خالف جماعة في مسألة الباب فذهبوا إلى أن الخوارج الذي قاتلوا عليًا رضي الله عنه كفار، فلا تحل ذبائحهم ولا مناكحتهم، وهذا القول ذهب إليه طائفة من المحدثين، ويحكى رواية عن أحمد الإمام رحمه اللَّه تعالى (4).
وإليه ذهب جماعة من أهل العلم كالقرطبي (5)، وابن العربي (6)، والسبكي (7)، والمرداوي (8).
قال ابن حجر: "وهو مقتضى صنيع البخاري -أي القول بكفر الخوارج-
(1) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (10/ 150)، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة (2/ 543)، والبيهقي في السنن الكبرى (8/ 173).
(2)
هو عبد الرحمن بن ملجم المرادي، الخارجي، قاتِل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قرأ القرآن على معاذ بن جبل، وكان من العباد، ثم كان من شيعة علي بن أبي طالب بالكوفة، وشهد معه صفين، ثم صار من الخوارج، وهو عند الخوارج والنصيرية من أفضل الأمة، لأنه -على زعمهم- خلص روح اللاهوت من ظلمة الجسد وكدره، ولما دُفن علي رضي الله عنه، أُحضر ابن ملجم، وجاء الناس بالنفط والبواري، وقطعت يداه ورجلاه، وكحلت عيناه، ثم قطع لسانه، ثم أحرق، وذلك بالكوفة سنة (40 هـ). انظر: وفيات الأعيان 7/ 218، لسان الميزان 3/ 439.
(3)
الطبقات الكبرى لابن سعد (3/ 37).
(4)
انظر: التمهيد (23/ 238)، المغني (9/ 4)، مجموع الفتاوى (3/ 443).
(5)
انظر: فتح الباري (12/ 299 - 300).
(6)
انظر: فتح الباري (12/ 299 - 300).
(7)
انظر: فتاوى السبكي (2/ 569).
(8)
انظر: الإنصاف (3/ 313).
حيث قرنهم بالملحدين، وأفرد عنهم المتأولين بترجمة" (1).
كما نسب ابن حجر هذا القول للقاضي عياض (2)(3)، إلا أن القاضي عياض وإن كان نص على كفر من أنكر الرجم من الخوارج، وكُفر من كفَّر الصحابة، لكنه بين في موضع آخر أن الصواب عدم كفرهم فقال في معرض كلامه على خلاف الناس في كفر من تأول الصفات عن ظاهرها، بتحريف، أو تعطيل، أو تشبيه، أو تمثيل: "الصواب ترْك إكفارهم، والإعراض عن الحتم عليهم بالخسران وإجراء حكم الإسلام عليهم في قصاصهم، ووراثاتهم، ومناكحاتهم، ودياتهم، والصلوات عليهم، ودفنهم في مقابر المسلمين، وسائر معاملاتهم، لكنهم يغلظ عليهم بوجيع الأدب وشديد الزجر والهجر، حتى يرجعوا عن بدعتهم، وهذه كانت سيرة الصدر الأول فيهم، فقد كان نشأ على زمن الصحابة وبعدهم في التابعين من قال بهذه الأقوال من القدر، ورأي الخوارج، والاعتزال، فما أزاحوا لهم قبرًا، ولا قطعوا لأحد منهم ميراثًا، لكنهم هجروهم، وأدَّبوهم بالضرب، والنفي، والقتل، على قدر أحوالهم؛
(1) فتح الباري (12/ 299)، وأراد ابن حجر بقوله:"وهو مقتضى صنيع البخاري. . . "، أن البخاري ذكر في صحيحه كتابًا، وعنونه بقوله:"كتاب: استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم"، وذكر فيه ثمانية أبواب، منها: قوله: "باب: قتل الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجة عليهم"، فقرن الخوارج بالملحدين، وذكر في هذا الباب أحاديث الخوارج، ثم بوب بعد ذلك بقوله:"باب: ما جاء في المتؤولين"، ولم يذكر فيه أحاديث الخوارج، مما قد يفهم منه أن البخاري يرى كفر الخوارج.
(2)
هو أبو الفضل، عياض بن موسى بن عياض، اليحصبي، السبتي، الفقيه، المالكي، القاضي، المفسر، المحدث، وهو عالم المغرب، كان من أعلم الناس بكلام العرب وأنسابهم وأيامهم، حافظًا لمذهب مالك، أصوليًا، عالمًا بالنحو واللغة، شاعرًا مجيدًا، وخطيبًا بليغًا، من تصانيفه:"الشفا بتعريف حقوق المصطفى"، و"إكمال المعلم بشرح صحيح مسلم"، ولد بسبته بالمغرب سنة (476) هـ، وتوفي بمراكش سنة (544) هـ. انظر: تذكرة الحفاظ 4/ 1304، شذرات الذهب 4/ 138، العبر في خبر من غبر 4/ 122.
(3)
انظر: فتح الباري (12/ 300 - 301).
لأنهم فُسَّاق، ضُلًّال، عصاة، أصحاب كبائر عند المحققين وأهل السنة ممن لم يقل بكفرهم منهم، خلافًا لمن رأى غير ذلك" (1).
• دليل المخالف: استدل القائلون بكفر الخوارج بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم، ووصفه لهم بأنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ومن ذلك ما جاء في قصة قسم النبي صلى الله عليه وسلم للذهب الذي أتى به علي من اليمن: فقام رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناشز الجبهة، كث اللحية، محلوق الرأس، مشمر الإزار، فقال: يا محمد اتق اللَّه، قال صلى الله عليه وسلم:(ويلك أولست أحق أهل الأرض أن يتقي اللَّه)، ثم ولَّى الرجل، فقام خالد بن الوليد رضي الله عنه (2)، -وفي بعض الروايات: عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال: دعني أضرب عنقه يا رسول اللَّه.
فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (لعله أن يكون يصلي) قال: وكم من مصلِّ يقول بلسانه ما ليس بقلبه، قال عليه الصلاة والسلام:(إني لم أُومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم)، ثم نظر إليه وهو مقف فقال:(إنه يخرج من ضئضئ (3) هذا قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وقراءتكم مع قراءتهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية،
(1) الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم للقاضي عياض (2/ 294).
(2)
هو أبو سليمان، خالد بن الوليد بت المغيرة بن عبد اللَّه بن عمر بن مخزوم، كان أحد أشراف قريش في الجاهلية، ولما أراد الإسلام قدم على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هو وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة فلما رآهم راسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه:"رمتكم مكة بأفلاذ كبدها" هاجر للإسلام بعد الحديبية وقبل خيبر، ولا يصح لخالد مشهد مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قبل فتح مكة، وله الأثر المشهور في قتال الفرس والروم، وافتتح دمشق، توفي بحمص، وقيل: في المدينة، سنة (21) هـ انظر: المنتخب من كتاب ذيل المذيل للطبري 1/ 57، الطبقات الكبرى 7/ 394، الإصابة 2/ 251.
(3)
قال أبو عبيد في "غريب الحديث"(2/ 111): "الضئضئ: أصل الشيء ومعدنه"، وقال القاضي عياض في مشارق الأنوار على صحاح الآثار (2/ 102):"بكسر الضادين المعجمتين وهمزة ساكنة بينهما: أي من أصله، والضئضئ أصل الشيء ومعدنه، وقيل: نسله، ويقال ضُؤضُؤ بضمهما أيضًا".
لئن أدركتهم لأقتلنَّهم قتل عاد) (1)، وفي رواية:(قتل ثمود)(2).
وفي رواية: (لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قضي لهم على لسان نبيهم صلى الله عليه وسلم لاتكلوا عن العمل)(3).
وفي رواية: (أينما لقيتوهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرًا لمن قتلهم يوم القيامة)(4).
قال شيخ الإسلام: "قال الإمام أحمد: صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه"(5).
النتيجة:
يظهر لي -واللَّه أعلم- أن المسألة ليست محل إجماع بين أهل العلم؛ لثبوت الخلاف فيه عن طائفة من المحدثين، وابن العربي، والقرطبي، والسبكي، والمرداوي، وهو ظاهر صنيع البخاري، ورواية محكية عن أحمد.
لكن ينبه إلى أن جمهور أهل السنة القائلين بأن قتال الخوارج ليس بقتال كفار، لا يريدون بذلك مساواة الخوارج بغيرهم من البغاة، أو مساواتهم بأهل الجمل وصفين (6)، كما نبه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية؛ فإن الصحابة أجمعوا على
(1) صحيح البخاري (رقم: 6995)، وصحيح مسلم (رقم 1064).
(2)
صحيح البخاري (رقم: 4099)، وصحيح مسلم (2064) عن أبي سعيد رضي الله عنه.
(3)
صحيح مسلم (رقم: 1066).
(4)
صحيح البخاري (رقم: 3415)، وصحيح مسلم (رقم: 1066) عن علي رضي الله عنه.
(5)
مجموع الفتاوى (7/ 479)، وانظر أيضًا: مجموع الفتاوى (3/ 142).
(6)
إنما فصَلت أهل الجمل وصفين عن البغاة، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم أطلق عليهم اسم الفئة الباغية في قوله عليه الصلاة والسلام:"تقتل عمارًا الفئة الباغية"، لأن جماعة من المحققين كشيخ الإسلام ابن تيمية يفرقون بين قتال الصحابة رضوان اللَّه عليهم، وقتال غيرهم البغاة، وذلك لأن البغاة يطلق عليهم اسم الفسوق، والصحابة رضوان اللَّه عليهم عدول، قال ابن تيمية في الفتاوى (3/ 443):"وأما جمهور أهل العلم فيفرقون بين الخوارج المارقين وبين أهل الجمل وصفين وغير أهل الجمل وصفين ممن يعد من البغاة المتأولين وهذا هو المحروف عن الصحابة وعليه عامة أهل الحديث والفقهاء والمتكلمين وعليه نصوص أكثر الأئمة وأتباعهم: من أصحاب مالك وأحمد والشافعي وغيرهم".