الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
• وجه الدلالة: في الحديث أن التائب من الذنب كمن لم يُذنب، فمن أقيم عليه الحد وتاب من سرقته فإنه يرجع عدلًا تقبل شهادته كمن لم يذنب.
النتيجة:
لم أجد من خالف في المسألة، لذا يظهر لي -واللَّه أعلم- أن المسألة محل إجماع بين أهل العلم.
[17/ 1] المسألة السابعة عشرة: السارق إذا بلغ الإمام لم تجز الشفاعة فيه
.
• المراد بالمسألة: لو ثبتت السرقة على شخص بما يوجب إقامة الحد عليه، ورفع أمره إلى الحاكم أو نائبه، وكان ثبوت السرقة بالبينة، وجب إقامة الحد عليه، ولا تجوز الشفاعة في العفو عنه، حتى لو عفى عنه صاحب المال المسروق، ما لم يكن الحاكم الذي رفعت إليه القضية هو صاحب المال المسروق.
ويتبين من هذه الصورة أن ثمة أربع صور غير داخلة في مسألة الباب:
أحدها: لو كانت السرقة غير موجبة للحد، وإنما الواجب فيها التعزير، فهذه عامة أهل العلم على جواز الشفاعة حينئذ.
الثانية: لو كانت السرقة موجبة للحد لكن، لم يرفع الأمر للحاكم أو نائبه، فهذه غير مسألة الباب، وأكثر أهل العلم على جواز الشفاعة حينئذ.
الثالثة: لو رفع الأمر إلى الحاكم وكان بإقرار الجاني، لا بالبينة، كما في قصة ماعز والغامدية، فهذه مسألة محل نزاع، وهي غير مرادة في مسألة الباب (1).
الرابعة: لو كان صاحب المال المسروق هو الحاكم الذي رفعت له القضية.
• من نقل الإجماع: قال ابن حزم (456 هـ): "عن عمر بن الخطاب قال: "لا عفو عن الحدود، ولا عن شيء منها بعد أن تبلغ الإمام، فإن إقامتها من السنة"، فهذا قول صاحب لا يعرف له مخالف"(2). وقال ابن عبد البر (463 هـ):
= حسنه شيخنا -أي ابن حجر- يعني لشواهده، وإلا فأبو عبيدة جزم غير واحد بأنه لم يسمع من أبيه"، وحسنه الألباني أيضًا بمجموع طرقه وشواهده في "سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة" (2/ 83).
(1)
انظر: مجموع الفتاوى (28/ 301).
(2)
المحلى (12/ 266).
"السلطان لا يحل له أن يعطل حدًا من الحدود التي للَّه عز وجل، إقامتها عليه إذا بلغته، كما ليس له أن يتجسس عليها إذا استترت عنه، وبأن الشفاعة في ذوي الحدود حسنة جائزة وإن كانت الحدود فيها واجبة إذا لم تبلغ السلطان، وهذا كله لا أعلم فيه خلافًا بين العلماء"(1) ونقله عنه أبو الطيب (2).
وقال ابن قدامة (620 هـ): "أجمعوا على أنه إذا بلغ الإمام لم تجز الشفاعة فيه"(3)، وذكر أبو العباس القرطبي (656 هـ) (4):"تحريم الشفاعة في الحدود إذا بلغت الإمام، فيَحْرُم على الشافع وعلى الْمُشَفَّع، وهذا لا يختلف فيه"(5) نقله عنه العراقي (6).
وقال النووي (676 هـ): "أجمع العلماء على تحريم الشفاعة في الحد بعد بلوغه إلى الإمام"(7) وقال شمس الدين ابن قدامة (682 هـ): "أجمعوا على أنه إذا بلغ الإمام لم تجز الشفاعة فيه"(8). وقال ابن تيمية (728 هـ): "قد أجمع المسلمون على أن تعطيل الحد بمال يؤخذ، أو غيره لا يجوز، وأجمعوا على أن المال المأخوذ من الزاني، والسارق والشارب، والمحارب، وقاطع الطريق ونحو ذلك لتعطيل الحد، مال سحت خبيث"(9). وقال الشوكاني (1250 هـ):
(1) الاستذكار (7/ 540).
(2)
انظر: عون المعبود (12/ 22).
(3)
المغني (9/ 220).
(4)
هو أبو العباس، أحمد بن عمر بن إبراهيم الأنصاري القرطبي، المالكي، فقيه، محدث، من كتبه:"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم"، و"اختصار صحيح البخاري"، ولد بقرطبة سنة (578 هـ)، وتوفي بالاسكندرية سنة (656 هـ). انظر: العبر في خبر من غبر 5/ 226، العبر في خبر من غبر 5/ 273، الأعلام 1/ 186.
(5)
المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (5/ 78).
(6)
انظر: طرح التثريب (8/ 34).
(7)
شرح النووي (11/ 186).
(8)
الشرح الكبير (10/ 289 - 290).
(9)
مجموع الفتاوى (28/ 303)، وانظر: الصارم المسلول (1/ 425).
"العفو بعد الرفع إلى الإمام لا يسقط به الحد، وهو مجمع عليه"(1) وقال ابن قاسم (1392 هـ): "أجمعوا على أنه إذا بلغ الإمام لم تجز الشفاعة فيه"(2).
• مستند الإجماع: مما يدل على مسألة الباب:
1 -
عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم: "أن قريشًا أهمهم شأن المرأة التي سرقت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح، فقالوا: من يكلم فيها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأتي بها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فكلمه فيها أسامة بن زيد، فتلون وجه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال: (أتشفع في حد من حدود اللَّه)؟ فقال له أسامة: استغفر لي يا رسول اللَّه، فلما كان العشي، قام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فاختطب فأثنى على اللَّه بما هو أهله، ثم قال: (أما بعد، فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وإني والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها"(3).
2 -
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تعافوا الحدود قبل أن تأتوني به، فما أتاني من حد فقد وجب)(4).
(1) نيل الأوطار (7/ 155).
(2)
حاشية الروض المربع (7/ 371).
(3)
صحيح البخاري، (رقم: 3288)، وصحيح مسلم (رقم: 1688).
(4)
أخرجه أبو داود (رقم: 538)، والنسائي (رقم: 4885). وأخرجه الحاكم في "المستدرك"(4/ 424) ثم قال: "حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، وصححه الذهبي في تعليقه على المستدرك، وقال ابن حجر في الفتح (19/ 202):"سنده إلى عمرو بن شعيب صحيح"، وحسَّنه الألباني كما في "صحيح الجامع الصغير وزياداته"(1/ 568). وضعفه ابن حزم كما في المحلى (12/ 56 - 57) لأنه من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وقد سبق الكلام على حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
3 -
عن ابن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: (من حالت شفاعته دون حد من حدود اللَّه فقد ضاد اللَّه في أمره)(1).
4 -
من النظر: أن حد السرقة حق اللَّه تعالى، والإمام مكلف بأخذ حقه تعالى بإقامة الحدود، ولو كان الإمام مخيرًا بإقامة الحد أو تركه بعد بلوغه إليه لكان ذلك سبيل إلى إبطال الحدود جملة.
• المخالفون للإجماع: أشار العراقي إلى خلاف الأوزاعي (2) في مسألة الباب فقال: "وحكي عن الأوزاعي جواز الشفاعة، والحديث حجة عليه، كذا قال والدي رحمه الله في شرح الترمذي، والذي حكاه غيره عن الأوزاعي جواز الشفاعة قبل بلوغ الإمام، كذا حكاه عنه الخطابي"(3).
النتيجة:
يظهر لي -واللَّه أعلم- أن المسألة محل إجماع بين أهل العلم، وما حكي عن الأوزاعي من الخلاف ليس بمتحقق؛ حيث حكي عنه موافقة
(1) أخرجه أحمد (9/ 283)، أبو داود (رقم: 3597)، وسكت عنه المنذري، قال الحاكم في المستدرك (2/ 32):"حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" وصححه الذهبي في تعليقه على المستدرك، وصححه كذلك الألباني كما في "صحيح الترغيب والترهيب"(2/ 168). وأخرجه ابن أبي شيبة موقوفًا على ابن عمر (6/ 462)، وصححه أبو حاتم موقوفًا كما في العلل لابن أبي حاتم (5/ 360)، وكذا صحح ابن حجر الموقوف فقال في الفتح (19/ 202) بعد ذكره لرواية أبي داود المرفوعة:"وأخرجه ابن أبي شيبة من وجه آخر أصح منه عن ابن عمر موقوفًا".
(2)
هو أبو عمرو، عبد الرحمن بن عمرو بن محمد بن عمرو الأوزاعي، الشامي، أحد أئمة الدنيا في عصره، الفقيه، المحدث، من تابعي التابعين، كان ثقة كثير الحديث، وأجمع العلماء على إمامته وجلالته وعلو مرتبته وكمال فضله، توفي في بيروت سنة (157) هـ انظر: البداية والنهاية 10/ 115، تهذيب التهذيب 6/ 238.
(3)
طرح التثريب (8/ 34)، وحكى ابن قدامة في "المغني"(9/ 51) عن الحسن البصري "أن السيد له العفو عن مملوكه".
إلا أنه لم يبين هل هذا خاص بما إذا كان قبل بلوغ الإمام، أم هو عام ولو بعد بلوغ الإمام، ولذا لم أجعل هذا القول من الخلاف في المسألة، وإنما أثرت إليه هنا حتى يُتَيقَّن من قول الحسن.