الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني مسائل الإجماع في ضابط البغاة
[13/ 3] المسألة الثالثة عشرة: البغي فسوق
.
• المراد بالمسألة: أولًا: تعريف الفسق: الفسق لغةً: أصل الفسق في كلام العرب بمعنى الخروج، يقال: فسقت الرطبة: إذا خرجت من قشرها، وسميت الفأرة فويسقة لخروجها من جحرها (1).
قال الزبيدي: "الفِسْق بالكَسر: التّركُ لأمر اللَّه عز وجل، والعِصْيانُ والخُروجُ عن طريق الحق سبحانه. . . قال الأصبهانيُّ: الفِسْق أعمُّ من الكفر، والفسق يقع بالقَليل من الذنوب وبالكثير، ولكن تعورف فيما إذا كان بكَثيره. . . وإذا قيل للكافِر الأصل فاسِق فلأنّه أخَلّ بحُكمِ ما ألزمَه العَقل واقتَضَتْه الفطرة، ومنه قوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18)} (2) أفَمَنْ كانَ مؤمِنًا كمَنْ كان فاسِقًا لا يسْتَوون فقابل به الإيمان، فالفاسق أعمُّ من الكافر، والظالِمُ أعمُّ من الفاسِق"(3).
وقد حكى ابن فارس عن بعض أهل اللغة أنه لم يسمعْ قَطُّ في كلامِ الجاهليّة ولا في شِعرهم لفظ فاسِقٌ في وصف الإنسان، وإنّما قالوا إذا خَرَجت
(1) انظر: تهذيب اللغة (8/ 315)، مختار الصحاح، مادة:(ف س ق)، وذكر ابن عساكر أن الفسق مقيَّد بالخروج بأمر مكروه، حيث قال في "الفروق اللغوية" (405):"الفرق بين الفسق والخروج: أن الفسق في العربية خروج مكروه، ومنه يقال للفأرة: الفويسقة؛ لأنها تخرج من جحرها للإفساد، وقيل: فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها؛ لأن ذلك فساد لها، ومنه سمي الخروج من طاعة اللَّه بكبيرة فسقًا، ومن الخروج مذموم ومحمود والفرق بينهما بيِّن".
(2)
سورة السجدة، آية 18.
(3)
تاج العروس من جواهر القاموس (26/ 304).
الرُّطَبَة من قشرِها: فسَقَت الرُطَبَةُ عن قِشْرِها، وأنه من العجيب أن تكون كلمة عربية لم تأتِ في شِعْرِ جاهليٍّ (1).
ونقل الزبيدي أيضًا عن بعضِ فُقَهاء اللُّغَة أنّ الفسق من الألفاظ الإسلامية التي لا يعرف إطلاقُها على هذا المَعْنى قبلَ الإسلام، وإن كان أصلُ معْناها الخُروجَ فهي من الحقائق الشرعية التي صارت في معناها حقيقة عرفيَّة في الشّرْع (2).
• وفي الاصطلاح: قال القرطبي: "الفسق في عرف الاستعمال الشرعي: الخروج من طاعة اللَّه عز وجل، فقد يقع على من خرج بكفر وعلى من خرج بعصيان"(3)، ومنه قوله تعالى:{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} (4)، أي خرج عن أمر ربه وطاعته (5).
• ثانيًا: صورة المسألة: صورة المسألة لو أن جماعة خرجوا على إمامهم، فإن فعلهم ذلك يعتبر فسقًا، وخروجًا عن طاعة اللَّه تعالى.
• من نقل الإجماع: قال ابن المرتضى (840 هـ): "البغي فسق إجماعًا"(6) ونقله عنه الشوكاني (7).
• مستند الإجماع: يدل على مسألة الباب ما يلي:
1 -
قول اللَّه تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ
(1) انظر: مقاييس اللغة (4/ 502).
(2)
انظر: المصدر السابق.
(3)
تفسير القرطبي (1/ 226)، وانظر: التمهيد (12/ 174)، فتح الباري لابن رجب (1/ 133)، مجموع الفتاوى (7/ 328).
(4)
سورة الكهف، آية (50).
(5)
انظر: تأويل مختلف الحديث (141).
(6)
البحر الزخار (6/ 415).
(7)
نيل الأوطار (7/ 202).
وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)} (1).
• وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى أمر بطاعة أولي الأمر، والبغاة خرجوا على الإمام، فعصوا أمر اللَّه في ذلك، فتحقق في فعلهم وصف الفسق، لأن الفسق لغة بمعنى الخروج.
2 -
• وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى أمر بقتال الفئة الباغية حتى ترجع إلى أمر اللَّه، مما يدل على أن فعلها خروج عن أمره تعالى.
• المخالفون للإجماع: جمهور أهل العلم على خلاف الإجماع الذي ذكره ابن المرتضى ونقله عنه الشوكاني، بدليل أنهم نصوا على قبول شهادة أهل البغي، وممن نص على عدم فسق أهل البغي ابن قدامة حيث قال:"البغاة إذا لم يكونوا من أهل البدع، ليسوا بفاسقين، وإنما هم يخطئون في تأويلهم، والإمام وأهل العدل مصيبون في قتالهم، فهم جميعا كالمجتهدين من الفقهاء في الأحكام، من شهد منهم قبلت شهادته إذا كان عدلًا، وهذا قول الشافعي، ولا أعلم في قبول شهادتهم خلافًا"(3).
وقال القرطبي: "لا يجوز أن ينسب إلى أحد من الصحابة خطأ مقطوع به؛ إذ كانوا كلهم اجتهدوا فيما فعلوه وأرادوا اللَّه عز وجل، وهم كلهم لنا أئمة، وقد تعبدنا، بالكف عمَّا شجر بينهم، وألَّا نذكرهم إلا بأحسن الذكر، لحرمة الصحبة ولنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن سبهم، وأن اللَّه غفر لهم، وأخبر بالرضا عنهم.
(1) سورة النساء، آية (59).
(2)
سورة الحجرات، آية (9).
(3)
المغني (9/ 12).
هذا مع ما قد ورد من الاخبار من طرق مختلفة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن طلحة شهيد يمشي على وجه الأرض (1).
فلو كان ما خرج إليه من الحرب عصيانًا لم يكن بالقتل فيه شهيدًا.
وكذلك لو كان ما خرج إليه خطأ في التأويل وتقصيرًا في الواجب عليه؛ لأن الشهادة لا تكون إلا بقتل في طاعة، فوجب حمل أمرهم على ما بيناه.
ومما يدل على ذلك ما قد صح وانتشر من أخبار علي بأن قاتل الزبير في النار، وقوله سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:(بشِّر قاتل ابن صفية بالنار)(2).
وإذا كان كذلك فقد ثبت أن طلحة والزبير غير عاصيين ولا آثمين بالقتال؛ لأن ذلك لو كان كذلك لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم في طلحة: شهيد، ولم يخبر أن قاتل الزبير في النار.
وكذلك من قعد: غير مخطئ في التأويل، بل صواب أراهم اللَّه الاجتهاد.
(1) أخرجه الترمذي رضي الله عنه (رقم 3739)، وابن ماجه (رقم: 125)، والحديث تفرد به الصلت بن دينار فلم يروه غيره عن أبي نضرة، قال الترمذي:"هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث الصلت، وقد تكلم بعض أهل العلم في الصلت بن دينار وفي صالح بن موسى من قبل حفظهما"، وقال الحاكم في المستدرك المستدرك (3/ 424):"تفرد به الصلت بن دينار، وليس من شرط هذا الكتاب"، ووافقه الذهبي في التلخيص حيث قال:"الصلت واه".
وحسنه الضياء المقدسي في الأحاديث المختارة (1/ 432)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1/ 195) بمجموع شواهده وطرقه.
(2)
أخرجه أحمد (2/ 99)، موقوفًا على علي رضي الله عنه، ولم أجده موفوعًا. وسبب الحديث ما أخرجه الحاكم في المستدرك (4143) عن زر بن حبيش قال: كنت جالسًا عند علي رضي الله عنه فأتي برأس الزبير ومعه قاتله، فقال علي للآذن: بشر قاتل ابن صفية بالنار؛ سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "لكل نبي حواري وإن حواري الزبير".
قال الحاكم: "هذه الأحاديث صحيحة عن أمير المؤمنين علي وإن لم يخرجاه بهذه الأسانيد"، ووافقه الذهبي، وقال أبو نعيم في "حلية الأولياء" (4/ 186):"حديث صحيح".
وابن صفية: هو الزبير بن العوام، وأمه صفية بنت عبد المطلب عمة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
وإذا كان كذلك لم يوجب ذلك لعنهم، والبراءة منهم، وتفسيقهم" (1).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وكل من كان باغيًا، أو ظالمًا، أو معتديًا، أو مرتكبًا ما هو ذنب، فهو قسمان: متأول، وغير متأول.
فالمتأول المجتهد كأهل العلم والدين الذين اجتهدوا واعتقد بعضهم حل أمور، واعتقد الآخر تحريمها، كما استحل بعضهم بعض أنواع الأشربة، وبعضهم بعض المعاملات الربوية، وبعضهم بعض عقود التحليل، والمتعة، وأمثال ذلك، فقد جرى ذلك وأمثاله من خيار السلف، فهؤلاء المتأولون المجتهدون غايتهم أنهم مخطئون، وقد قال اللَّه تعالى:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (2).
وقد أخبر سبحانه عن داود وسليمان عليهما السلام أنهما حكما في الحرث، وخص أحدهما بالعلم والحكم مع ثنائه على كل منهما بالعلم والحكم، والعلماء ورثة الأنبياء، فإذا فهم أحدهم من المسألة ما لم يفهمه الآخر، لم يكن بذلك ملومًا ولا مانعًا لما عرف من علمه ودينه، وإن كان ذلك مع العلم بالحكم يكون إثما وظلمًا والإصرار عليه فسقًا، بل متى علم تحريمه ضرورة كان تحليله كفرا، فالبغي هو من هذا الباب.
أما إذا كان الباغي مجتهدًا ومتأولًا ولم يتبين له أنه باغ، بل اعتقد أنه على الحق، وإن كان مخطئًا في اعتقاده، لم تكن تسميته باغيًا موجبة لإثمه فضلًا عن أن توجب فسقه.
والذين يقولون بقتال البغاة المتأولين يقولون مع الأمر بقتالهم: قتالنا لهم لدفع ضرر بغيهم، لا عقوبة لهم، ويقولون: إنهم باقون على العدالة لا يفسقون" (3).
(1) تفسير القرطبي (16/ 321 - 322).
(2)
سورة البقرة، آية (286).
(3)
مجموع الفتاوى (35/ 75 - 76).
النتيجة:
يظهر لي -واللَّه أعلم- أن المسألة ليست محل إجماع بين أهل العلم (1).
(1) تنبيه: هذه المسألة هي في الأصل مسألة عقدية حاصلها تسمية البغي فسوق، وبناء عليها فيسمى فاعل البغي فاسقًا، وإنما جرى التنبيه على هذه المسألة لأن ثمة جماعة من أهل القبلة قدحوا في عدالة الصحابة رضوان اللَّه تعالى عليهم، لا سيما معاوية ومن كان معه في قتال علي بن أبي طالب رضي الله عنه، بأنهم بغاة خرجوا على إمامهم، والبغي فسوق، فيلزم منه فسق معاوية ومن كان معه، ونص على هذا ابن المرتضى في "البحر الزخار" (1/ 35) فقال:"الأكثر أن معاوية فاسق؛ لبغيه، ولم تثبت توبته، فيجب التبرؤ منه"، وزاد الأمر على ذلك إلى أن البعض كفر جملة الصحابة، وآخرون استحلوا لعنهم، إلى غير ذلك من المزالق التي وقعوا فيها في صحابة النبي صلى الله عليه وسلم. ولا ريب أن ما ادعوه من التلازم بين كون البغي فسق، وفسق فاعله، أو كفره، أو إباحة لعنه، باطل ومردود؛ فإن أهل العلم قد نصوا على أن الباغي لا يطلق عليه اسم الفسق لمجرد بغيه، لأن بغيه كان بتأويل، فهو كالمجتهد المخطئ، بدليل قبول شهادة أهل البغي، ولو كانوا فساقًا لم تقبل، وقد بين ابن تيمية هذه المسألة وزادها إيضاحًا فقال في مجموع الفتاوى (35/ 69 - 79): "سائر أهل السنة والجماعة وأئمة الدين لا يعتقدون عصمة أحد من الصحابة، ولا القرابة، ولا السابقين، ولا غيرهم، بل يجوز عندهم وقوع الذنوب منهم، واللَّه تعالى يغفر لهم بالتوبة ويرفع بها درجاتهم، ويغفر لهم بحسنات ماحية، أو بغير ذلك من الأسباب، قال تعالى:{وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35)} [الزمر: 33 - 35]، وهذا في الذنوب المحققة، وأما ما اجتهدوا فيه: فتارة يصيبون، وتارة يخطئون، فإذا اجتهدوا فأصابوا فلهم أجران، وإذا اجتهدوا وأخطاوا فلهم أجر على اجتهادهم، وخطؤهم مغفور لهم. وأهل الضلال يجعلون الخطأ والإثم متلازمين: فتارة يغلون فيهم ويقولون: إنهم معصومون، وتارة يجفون عنهم ويقولون: إنهم باغون بالخطأ، وأهل العلم والإيمان لا يعصمون ولا يؤثمون. ومن هذا الباب تولد كثير من فرق أهل البدع والضلال، فطائفة صبت السلف ولعنتهم؛ لاعتقادهم أنهم فعلوا ذنوبا، وإن من فعلها يستحق اللعنة، بل قد يفسقونهم أو يكفرونهم، كما فعلت الخوارج الذين كفروا علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان ومن تولاهما، ولعنوهم وسبوهم واستحلوا قتالهم، وهؤلاء هم المارقة الذين مرقوا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وكفروا كل من تولاه.
وكان المؤمنون قد افترقوا فرقتين: فرقة مع علي، وفرقة مع معاوية، فقاتل هؤلاء عليا =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وأصحابه، فوقع الأمر كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وكما ثبت عنه أيضا في الصحيح أنه قال عن الحسن ابنه:(إن ابني هذا سيد، وسيصلح اللَّه به بين طائفتين عظيمتين من المسلمين)، فأصلح اللَّه به بين شيعة علي وشيعة معاوية.
وأثنى النبي صلى الله عليه وسلم على الحسن بهذا الصلح الذي كان على يديه، وسماه سيدا بذلك؛ لأجل أن ما فعله الحسن يحبه اللَّه ورسوله ويرضاه اللَّه ورسوله، ولو كان الاقتتال الذي حصل بين المسلمين هو الذي أمر اللَّه به ورسوله لم يكن الأمر كذلك، بل يكون الحسن قد ترك الواجب أو الأحب إلى اللَّه، وهذا النص الصحيح الصريح يبين أن ما فعله الحسن محمود مرضي للَّه ورسوله.
وهذا مما يبين أن القتلى من أهل صفين لم يكونوا عند النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة الخوارج المارقين الذين أمر بقتالهم، وهؤلاء مدح الصلح بينهم، ولم يأمر بقتالهم، ولهذا كانت الصحابة والأئمة متفقين على قتال الخوارج المارقين، وظهر من علي رضي الله عنه السرور بقتالهم، ومن روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بقتالهم ما قد ظهر عنه، وأما قتال الصحابة فلم يروا عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه أثر، ولم يظهر فيه سرور، بل ظهر منه الكآبة، وتمني أن لا يقع، وشَكرَ بعض الصحابة، وبرَّأ الفريقين من الكفر والنفاق، وأجاز الترحم على قتلى الطائفتين، وأمثال ذلك من الأمور التي يعرف بها اتفاق علي وغيره من الصحابة على أن كل واحدة من الطائفتين مؤمنة.
وقد شهد القرآن بأن اقتتال المؤمنين لا يخرجهم عن الإيمان بقوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)} [الحجرات: 9]، فسماهم مؤمنين وجعلهم إخوة مع وجود الاقتتال والبغي.
ومعاوية لم يدع الخلافة، ولم يبايع له بها حين قاتل عليًا، ولم يقاتل على أنه خليفة، ولا أنه يستحق الخلافة، ويقرون له بذلك، وقد كان معاوية يقر بذلك لمن سأله عنه، ولا كان معاوية وأصحابه يرون أن يبتدوا عليًا وأصحابه بالقتال.
بل لما رأى علي رضي الله عنه وأصحابه أنه يجب عليهم طاعته ومبايعته إذ لا يكون للمسلمين إلا خليفة واحد، وأنهم خارجون عن طاعته، يمتنعون عن هذا الواجب، وهم أهل شوكة، رأى أن يقاتلهم حتى يؤدوا هذا الواجب فتحصل الطاعة والجماعة.
وهم قالوا: إن ذلك لا يجب عليهم، وأنهم إذا قوتلوا على ذلك كانوا مظلومين، قالوا: لأن عثمان قتل مظلوما باتفاق المسلمين، وقتله في عسكر علي، وهم غالبون لهم شوكة، فإذا =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= امتنعنا ظلمونا، واعتدوا علينا، وعلي لا يمكنه دفعهم، كما لم يمكنه الدفع عن عثمان، وإنما علينا أن نبايع خليفة يقدر على أن ينصفنا ويبذل لنا الإنصاف.
وأما الحديث الذي فيه: "أن عمارًا تقتله الفئة الباغية" فهذا الحديث قد طعن فيه طائفة من أهل العلم، لكن رواه مسلم في صحيحه، وهو في بعض نسخ البخاري، قد تأوله بعضهم على أن المراد بالباغية الطالبة بدم عثمان، وليس بشيء، بل يقال ما قاله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فهو حق كما قاله، وليس في كون عمارا تقتله الفئة الباغية ما ينافي ما ذكرناه، فإنه كما قال اللَّه تعالى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)} [الحجرات: 9]، فقد جعلهم مع وجود الاقتتال والبغي مؤمنين إخوة بل مع أمره بقتال الفئة الباغية جعلهم مؤمنين، وليس كل ما كان بغيًا وظلمًا أو عدوانًا يخرج عموم الناس عن الإيمان، ولا يوجب لعنتهم، فكيف يخرج ذلك من كان من خير القرون؟ ! .
وكل من كان باغيًا أو ظالمًا أو معتديًا أو مرتكبًا ما هو ذنب فهو قسمان:
متأول، وغير متأول، فالمتأول المجتهد كأهل العلم والدين الذين اجتهدوا واعتقد بعضهم حل أمور واعتقد الآخر تحريمها، كما استحل بعضهم بعض أنواع الأشربة، وبعضهم بعض المعاملات الربوية، وبعضهم بعض عقود التحليل، والمتعة، وأمثال ذلك، نقد جرى ذلك وأمثاله من خيار السلف، فهؤلاء المتأولون المجتهدون غايتهم أنهم مخطئون، وقد قال اللَّه تعالى:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286].
وقد أخبر سبحانه عن داود وسليمان عليهما السلام أنهما حكما في الحرث وخص أحدهما بالعلم والحكم مع ثنائه على كل منهما بالعلم والحكم، والعلماء ورثة الأنبياء، فإذا فهم أحدهم من المسألة ما لم يفهمه الآخر، لم يكن بذلك ملوما ولا مانعا لما عرف من علمه ودينه، وإن كان ذلك مع العلم بالحكم يكون إثما وظلما، والإصرار عليه فسقا، بل متى علم تحريمه ضرورة كان تحليله كفرا، فالبغي هو من هذا الباب.
أما إذا كان الباغي مجتهدا ومتأولا ولم يتبين له أنه باغ، بل اعتقد أنه على الحق، وإن كان مخطئا في اعتقاده، لم تكن تسميته باغيا موجبة لإثمه فضلًا عن أن توجب فسقه، والذين يقولون بقتال البغاة المتأولين يقولون مع الأمر بقتالهم: قتالنا لهم لدفع ضرر بغيهم، لا عقوبة لهم، ويقولون: إنهم باقون على العدالة لا يفسقون.