الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التمهيد
المبحث الأول: تعريف البغي لغةً واصطلاحًا:
• أولًا: تعريف البغي لغةً: يطلق البغي في اللغة على معان عدة منها:
1 -
الطلب: ومنه: بَغَيْتُ الشيء أبْغِيه إذا طلبتَه، وأكثر ما يستعمل في معنى الطلب لفظ:"ابتغى"، لا بغى (1).
2 -
الظلم والاعتداء، ويُقال: بَغَى على الناس بَغْيًا: أي ظلم واعتدى، ومنه قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)} (2).
3 -
الفساد والمعصية: يُقال: برئ الجرح على بغي إذا التأم على فساد (3)، ويمكن أن يدخل هذا المعنى في الآية السابقة، ومنه قوله تعالى:{فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} (4).
4 -
المرأة الفاجرة بالزنا: ومنه قوله تعالى {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20)} (5).
5 -
الكِبْر، وتفخيم الكلام، والتشادق فيه (6).
6 -
الحسد، ومنه قوله تعالى:{وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} (7).
(1) انظر: مقاييس اللغة (1/ 271)، القاموس الفقهي (1/ 139).
(2)
سورة النحل، آية (90).
(3)
انظر: المعجم الوسيط (1/ 65).
(4)
سورة يونس، آية (23).
(5)
سورة مريم، آية (20).
(6)
انظر: تاج العروس، مادة:(بغي)، (37/ 158)، القاموس الفقهي (1/ 40).
(7)
سورة آل عمران، آية (19).
7 -
الخروج على الإمام، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمار رضي الله عنه:(تقتلك الفئة الباغية)(1).
وحاصل هذه المعاني -غير المعنى الأول- ترجع إلى معنى الفساد كما ذكره ابن فارس، أو مجاوزة الحد.
وجميع هذه المعان السابقة ترجع إلى معنيين أحدهما: طلب الشيء، والثاني: مجاوزة الحد.
وقد بيَّن ذلك أهل اللغة فقال ابن فارس: "الباء والغين والياء أصلان: أحدهما: طَلَب الشيء، والثاني: جنسٌ من الفَساد"(2)، وقال ابن الأثر:"أصل البغي مجاوزة الحد"(3).
• ثانيًا: تعريف البغي اصطلاحًا: اختلفت عبارات أهل العلم في ضابط البغاة على أقوال:
فعند الحنفية: قال ابن عابدين (4): "هم الخارجون عن الإمام بغير حق"(5).
وعند المالكية: قال ابن عرفة: "البغي: الامتناع من طاعة من ثبتت إمامته في غير معصية بمغالبة، ولو تأول"(6).
وعند الشافعية: قال النووي: "هم مخالفوا الإمام بخروج عليه، وترك الانقياد، أو منع حق توجه عليهم، بشرط شوكة لهم، وتأويل، ومطاع فيهم"(7).
(1) صحيح مسلم (رقم: 2916)، وأخرجه البخاري بنحوه (رقم: 436).
(2)
مقاييس اللغة (1/ 271).
(3)
النهاية في غريب الأثر، مادة:(بغي)، (1/ 376).
(4)
هو محمد أمين بن عمر بن عبد العزيز الدمشقي، المفتي، الحنفي، الشهير بابن عابدين، فقيه الديار الشامية وإمام الحنفية في عصره، مولده ووفاته في دمشق من كتبه:"رد المحتار على الدر المختار"، و"العقود الدرية في تنقيح الفتاوي الحامدية"، ولد بدمشق سنة (1198) هـ، وتوفي بها سنة (1252) هـ. انظر: الأعلام 6/ 267، معجم المطبوعات 1/ 150، هدية العارفين 3/ 428.
(5)
درر المختار على الدر المختار (4/ 261).
(6)
شرح حدود ابن عرفة (489).
(7)
مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج (5/ 401)، أسنى المطالب شرح رضة الطالب (4/ 111).
وعند الحنابلة: قال البهوتي: "هم الخارجون على الإمام، ولو غير عدل، بتأويل سائغ، ولهم شوكة، ولو لم يكن فيهم مطاع"(1).
ويتحصل مما سبق أن ثمة أمورًا تتفق عليها الأقوال السابقة في ضابط البغاة، وهي أنهم قوم لهم شوكة، خرجوا عن الإمام بتأويل سائغ، ولذا قال القرافي:"البغاة هم الذين يخرجون على الإمام، يبغون خلعه، أو منع الدخول في طاعته، أو تبغي منع حق واجب، بتأويل في ذلك كله، وقاله الشافعي وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل رضي الله عنهم، وما علمتُ في ذلك خلافًا"(2).
ويمكن أن نَخلُص إلى تعريف جامع للبغاة في الاصطلاح بأن يقال: "هم قوم لهم شوكة خرجوا على الإمام بتأويل سائغ".
ومن خلال هذا التعريف يمكن أن نخرج بفوائد منها:
أولًا: أن من لم يكن لهم تأويل سائغ، أو كانوا جمعًا يسيرًا لا شوكة لهم، فهم محاربون لا بغاة.
ثانيًا: أن البغاة يتفقون مع المحاربين في أنهم يخرجون على الإمام، إلا أنهم يختلفون عنهم في أمرين:
1 -
أن البغاة لهم تأويل سائغ، أي شبهة قوية، وأما المحاربون فهم يخرجون بقصد الإفساد، وليس لهم شبهة، أو لهم شبهة ولكنها واهية.
2 -
أن البغاة لهم شوكة، أي قوة ومنعة كالجيش، وأما المحاربون فلا شوكة لهم، ولهذا يتخفُّون في أوساط الناس وليس لهم مكان معروف يتحصنون به.
• تنبيه: عرَّف بعض الفقهاء البغاة بأنهم الخوارج، منهم الكاساني حيث قال: "البغاة: هم الخوارج، وهم قوم من رأيهم أن كل ذنب كفر، كبيرة كانت
(1) دقائق أولي النهى (3/ 387).
(2)
أنوار البروق في أنواع الفروق (4/ 171).
أو صغيرة، يخرجون على إمام أهل العدل، ويستحلون القتال والدماء والأموال بهذا التأويل، ولهم منعة وقوة" (1).
وهذا القول تعقَّبه شيخ الإسلام ابن تيمية فقال: "أما قول القائل: إن الأئمة اجتمعت على أن لا فرق بينهما -أي البغاة والخوارج- إلا في الاسم، فدعوى باطلة، ومدعيها مجازف، فإن نفي الفرق إنما هو قول طائفة من أهل العلم من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم، مثل كثير من المصنفين في قتال أهل البغي فإنهم قد يجعلون قتال أبي بكر لمانعي الزكاة، وقتال علي الخوارج، وقتاله لأهل الجمل وصفين، إلى غير ذلك من قتال المنتسبين إلى الإسلام من باب قتال أهل البغي، ثم مع ذلك فهم متفقون على أن مثل طلحة والزبير ونحوهما من الصحابة من أهل العدالة؛ لا يجوز أن يحكم عليهم بكفر ولا فسق؛ بل مجتهدون: إما مصيبون، وإما مخطئون، وذنوبهم مغفورة لهم، ويطلقون القول بأن البغاة ليسوا فساقًا، فإذا جعل هؤلاء وأولئك سواء لزم أن تكون الخوارج وسائر من يقاتلهم من أهل الاجتهاد الباقين على العدالة سواء؛ ولهذا قال طائفة بفسق البغاة، ولكن أهل السنة متفقون على عدالة الصحابة، وأما جمهور أهل العلم فيفرقون بين "الخوارج المارقين" وبين "أهل الجمل وصفين" وغير أهل الجمل وصفين، ممن يعد من البغاة المتأولين، وهذا هو المعروف عن الصحابة، وعليه عامة أهل الحديث، والفقهاء، والمتكلمين وعليه نصوص أكثر الأئمة وأتباعهم: من أصحاب مالك، وأحمد، والشافعي، وغيرهم"(2).
(1) بدائع الصنائع (7/ 140).
(2)
الفتاوى الكبرى (3/ 343).