الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[96/ 1] المسألة السادسة والتسعون: من سرق مرة ثانية بعد قطع يده فحده قطع رجله اليسرى
.
• المراد بالمسألة: لو ثبتت السرقة على شخص بما يوجب الحد، وقطعت يده اليمنى، ثم سرق عينًا أخرى توجب الحد فحده قطع رجله اليسرى.
يتبين مما سبق أنه لو سرق نفس العين مرة أخرى فذلك غير مراد من مسألة الباب.
• من نقل الإجماع: قال ابن أبي شيبة (235 هـ): "كان علي يقول في السارق: "إذا سرق قطعت يده فإن عاد قطعت رجله، فإن عاد استودعته السجن". وعن حجاج عن سماك عن بعض أصحابه أن عمر استشارهم في سارق، فأجمعوا على مثل قول علي"(1). وقال القاضي أبو محمد عبد الوهاب البغدادي (430 هـ): "لا خلاف أنه أول ما يقطع يمنى يديه، ثم يسرى رجليه"، نقله عنه أبو الوليد الباجي (2).
وقال الماوردي (450 هـ): "تقطع في السرقة الثانية رجله اليسرى، وهو قول الجمهور من الفقهاء. . . ولأنه فعل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وليس لهما في الصحابة مخالف، فكان إجماعًا"(3). وقال البغوي (510 هـ): "اتفق أهل العلم على أن السارق إذا سرق أول مرة تقطع يده اليمنى، ثم إذا سرق ثانيًا تقطع رجله اليسرى"(4)، ونقله القاري (5).
وقال ابن هبيرة (560 هـ): "أجمعوا على أنه إذا عاد فسرق ثانيًا، ووجب عليه القطع أن تقطع رجله اليسرى"(6)، ونقله ابن قاسم (7). وقال الزيلعي (743 هـ):
(1) مصنف ابن أبي شيبة (6/ 485)، باختصار يسير.
(2)
المنتقى شرح الموطأ (7/ 167).
(3)
الحاوي الكبير (13/ 321).
(4)
شرح السنة (10/ 326).
(5)
مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (2/ 251).
(6)
الإفصاح عن معاني الصحاح (2/ 213).
(7)
انظر: حاشية الروض المربع (7/ 374).
"ورجله اليسري إن عاد. . . وعليه إجماع المسلمين"(1).
وقال ابن المرتضى (840 هـ): "إن ثنَّى فالرجل اليسرى. . . وقال به علي عليه السلام، وأبو بكر، وعمر، ولم يخالفوا"(2). وقال ابن الهمام (861 هـ): "وإن سرق ثانيًا قطعت رجله اليسرى بالإجماع"(3).
وقال إبراهيم (970 هـ): "ورجله اليسرى إن عاد. . . وعليه إجماع المسلمين"(4). وقال ابن قاسم (1392 هـ): "الأصل في قطع الرِّجل في المرة الثانية ما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في السارق: "إن سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله"، وهو قول أبي بكر وعمر، ولا مخالف لهما من الصحابة فكار، إجماعًا، ولا نزاع في ذلك يعتد به"(5).
• مستند الإجماع: يدل على مسألة الباب أنه المروي عن جماعة من الصحابة كأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، ويعلى بن أمية (6) رضي اللَّه عن الجميع. بل حكي عليه إجماع الصحابة رضوان اللَّه عليهم، كما سبق (7).
• المخالفون للإجماع: سبق في المسألة الثالثة فيمن سرق فقطعت يده ثم
(1) تبيين الحقائق (3/ 225).
(2)
البحر الزخار (6/ 187 - 188).
(3)
فتح القدير (5/ 395).
(4)
البحر الرائق (5/ 66).
(5)
حاشية الروض المربع (7/ 374).
(6)
هو أبو خالد -وقيل: أبو صفوان-، يعلى بن أمية بن أبي عبيدة بن همام بن الحارث بن بكر بن زيد بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم التميمي الحنظلي، ويقال يعلى ابن منية نسبة إلى أمه، أسلم يوم الفتح، وشهد حنينا والطائف وتبوك، استعمله أبو بكر الصديق على بلاد حلوان في الردة، ثم عمل لعمر على بعض اليمن، فحمى لنفسه حمى فبلغ ذلك عمر فأمره أن يمشي على رجليه إلى المدينة فمشى خمسة أيام أو ستة إلى صعدة، وبلغه موت عمر فركب فقدم المدينة على عثمان فاستعمله على صنعاء، قتل سنة (38) هـ بصفين. انظر: سير أعلام النبلاء، 3/ 101، الإصابة 6/ 685، تهذيب التهذيب 11/ 399.
(7)
انظر: المحلى (12/)، مصنف ابن أبي شيبة (6/ 485).
سرق مرة أخرى فهل يقطع أم لا؟ ، أن ابن حزم أشار إلى أن ثمة خلافًا في المسألة فقال:"واختلفوا فيمن سرق ثانية أيجب عليه القطع أم لا"(1).
وأشار ابن حزم في الخلاف إلى قول عطاء بن أبي رباح فإنه يرى أن الواجب على السارق قطع يده في السرقة الأولى فقط، ثم لا يقطع منه شيء، كما أخرجه ابن حزم فقال:"عن ابن جريج قلت لعطاء: سرَق الأولى؟ قال: تقطع كفه، قلت: فما قولهم: أصابعه، قال: لم أدرك إلا قطع الكف كلها، قلت لعطاء: سرق الثانية؟ قال: ما أرى أن تقطع إلا في السرقة الأولى اليد فقط، قال اللَّه تعالى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} (2)، ولو شاء أمر بالرجل، ولم يكن اللَّه تعالى نسيًا"(3).
وأخرج ابن أبي شيبة عن عطاء ما يخالف ذلك، فقال في مصنفه:"عن عبد الملك عن عطاء سئل: أيقطع السارق أكثر من يده ورجله؟ قال: لا ولكنه يحبس"(4)، وظاهر هذا الأثر أن عطاء يرى الحبس فيما إذا سرق ثالثة، بعد قطع اليد والرجل.
وذهب ربيعة (5)، وابن حزم، وبعض أصحاب داود إلى أن من سرق ثانية فالواجب قطع يده الثانية، ولا تقطع الأرجل (6).
(1) مراتب الإجماع (221)، وانظر: المسألة الثالثة تحت عنوان: "لو أُقيم الحد على السارق، ثم سرق ثانيةً ما يجب فيه القطع، قُطع أيضًا".
(2)
سورة المائدة، آية (38).
(3)
المحلى (12/ 350).
(4)
المصنف (6/ 485).
(5)
هو أبو عثمان، ربيعة بن أبي عبد الرحمن، فروخ التميمي، بالولاء، المدني، شيخ الإمام مالك، ثقة، ثبت، حافظ، فقيه، أدرك من الصحابة أنس بن مالك والسائب بن يزيد، لقب بربيعة الرأي؛ لأنه كان بصيرا بالرأي والقياس، قال ابن الماجشون:"ما رأيت أحدًا حفظ للسنة من ربيعة"، توفي سنة (136) هـ. انظر: تذكرة الحفاظ 1/ 148، تاريخ بغداد 8/ 420، الأعلام 3/ 42.
(6)
انظر: المحلى (12/ 351 - 352)، البحر الزخار (6/ 187).
وهذا الرأي نقله ابن عبد البر عن عطاء بن أبي رباح (1).
وقرر ابن حزم أنه قول ابن عباس فقال في "المحلى": "عن عمرو بن دينار قال: كتب نجدة بن عامر (2) إلى ابن عباس: السارق يسرق فتقطع يده، ثم يعود فتقطع يده الأخرى، قال اللَّه تعالى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (3)، قال ابن عباس: بلى، ولكن يده ورجله من خلاف، قال عمرو بن دينار: سمعته من عطاء منذ أربعين سنة".
قال أبو محمد رحمه الله: هذا إسناد في غاية الصحة، ويحتمل قول ابن عباس هذا وجهين:
أحدهما: بلى، إن اللَّه تعالى قال هذا، ولكن الواجب قطع يده ورجله.
ويحتمل أيضًا: بلى، إن اللَّه تعالى قال هذا -وهو الحق- ولكن السلطان يقطع اليد والرجل.
وهذا الوجه الثاني- هو الذي لا يجوز أن يحمل قول ابن عباس على غيره البتة؛ لأنه لا يجوز أن يكون ابن عباس يحقق أن هذا قول اللَّه تعالى ثم يخالفه ويعارضه، إذ لا يحل ترك أمر اللَّه تعالى إلا لسنة عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم ناسخة لما في القرآن، واردة من عند اللَّه تعالى بالوحي إلى نبيه عليه السلام، فمن الباطل الممتنع أن يخالف قول ابن عباس قول اللَّه تعالى برأيه، أو بتقليده لرأي أحد دون رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم وهو أبعد الناس من ذلك، وقد دعاهم إلى المباهلة في العول وغيره، وقال في أمر متعة الحج
(1) الاستذكار (7/ 546).
(2)
هو نجدة بن عامر الحروري، من بني حنيفة، من قبيلة بكر بن وائل، إليه تنسب فرقة "النجدية" إحدى فرق الخوارج، كان عبد اللَّه بن عمر وغيره من الصحابة يصلون خلفه، ولد سنة (36) هـ، وتوفي سنة (69) هـ. انظر: الأنساب للسمعاني 4/ 274، العبر في خبر من غبر 1/ 77.
(3)
سورة المائدة، آية (38).
وفسخ بعمرة: "ما أراكم إلا سيخسف اللَّه بكم الأرض أقول لكم قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وتقولون: قال أبو بكر وعمر"؟
ومن المحال أن يكون عنده عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سنة في ذلك ولا يذكرها، وقد أعاذه اللَّه تعالى من ذلك؛ ومن المحال أن يسمعه عطاء ويفهم عنه أن عنده في قطع الرجل سنة ينبغي لها ترك القرآن، ثم يأبى عطاء من قطع الرجل في السرقة ويتمسك بالقرآن في ذلك، ويقول:{وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (1) لو شاء اللَّه تعالى أمر بالرِّجل".
فصح يقينًا أن ابن عباس لم يرد بقوله "بلى، ولكن اليد والرجل" إلا لتصحيح قطع اليدين فقط، على حكم اللَّه تعالى في القرآن، وأن قوله "ولكن اليد والرجل" إنما أخبر عن فعل أهل زمانه فقط" (2).
• دليل المخالف: بقول اللَّه تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)} (3).
• وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى أمر بقطع اليد، ولم يأمر بقطع الرجل، وكذا جميع نصوص السنة إنما دلت على قطع اليد، ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء في قطع الأرجل.
النتيجة:
يظهر لي -واللَّه أعلم- أن المسألة ليست محل إجماع محقق بين أهل الحلم، لوجود خلاف عن أبي ثور، وربيعة، وابن حزم، ويعض أصحاب داود.
ومن نقل الإجماع لعله لم يعتبر قول المخالف، وجعله من قبيل الشاذ، كما وصفه ابن عبد البر فقال: "وشذ قوم عن الجمهور فلم يروا قطع رجل السارق، ولم نعده خلافًا، فتركناهم، روي ذلك عن ربيعة وبه قال أصحاب
(1) سورة مريم، الآية (64).
(2)
المحلى (12/ 351 - 352).
(3)
سورة المائدة، آية (38).