الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[55/ 4] المسألة الخامسة والخمسون: اللَّه تعالى خالق كل شيء كما شاء، فمن خالف ذلك فهو كافر
.
• المراد بالمسألة: من مراتب الإيمان بالقدر الإيمان بأن اللَّه تعالى خالق كل شيء، بمشيئته، ومن جملة ذلك أنه تعالى خالق لجميع العباد، ولأفعالهم، فأفعال العباد مخلوقة، وهي تحت مشيئة اللَّه تعالى.
وليس المراد هنا تقرير أن أفعال العباد مخلوقة للَّه تعالى، ولا أن أفعال العباد لا تكون إلا بمشيئته سبحانه، فإن هاتين المسألتين محل إجماع عند أهل السنة والجماعة، وإنما المراد كفر من خالف ذلك.
وقد نقل جماعة من أهل العلم الإجماع على ذلك منهم اللالكائي حيث حكى إجماع الصحابة ومن بعدهم على أن أفعال العباد مخلوقة فقال: "سياق ما فُسر من الآيات في كتاب اللَّه عز وجل، وما روي من سنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في إثبات القدر، وما نقل من إجماع الصحابة والتابعين والخالفين لهم من علماء الأمة: أن أفعال العباد كلها مخلوقة للَّه عز وجل، طاعاتها، ومعاصيها"(1).
ومما نقله ابن القيم على أن كل شيء لا يكون إلا بمشيئته تعالى قوله: "وهذه المرتبة قد دل عليها إجماع الرسل من أولهم إلى آخرهم، وجميع الكتب المنزلة من عند اللَّه، والفطرة التي فطر اللَّه عليها خلقه، وأدلة العقول والعيان، وليس في الوجود موجب ومقتض إلا مشيئة اللَّه وحده، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، هذا عموم التوحيد الذي لا يقوم إلا به"(2).
• من نقل الإجماع: قال ابن حزم (456 هـ): "باب من الإجماع في الاعتقادات يكفر من خالفه بإجماع: اتفقوا أن اللَّه عز وجل وحده لا شريك له،
(1) شرح اعتقاد أصول أهل السنة والجماعة (3/ 534).
(2)
شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل (43).
خالق كل شيء غيره، واتفقوا أن اللَّه عز وجل واحد لا شريك له، خالق كل شيء، وأنه تعالى لم يزل وحده ولا شيء معه غيره، وأن من خالفه ممن بلغه كافر مخلد في النار أبدًا" (1).
• مستند الإجماع: من الأدلة الدالة على عموم خلق اللَّه لجميع الأشياء ما يلي:
1 -
قال اللَّه تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)} (2).
2 -
قال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)} (3).
3 -
قال اللَّه تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)} (4).
4 -
• وجه الدلالة من الآيات: في الآيات دلالة صريحة على أن اللَّه تعالى خالق كل شيء سبحانه، ومن جملة ذلك خلقه لأفعال العباد.
5 -
قال اللَّه تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)} (6).
قال ابن الجوزي: "في "ما" وجهان: أحدهما: أن تكون بمعنى المصدر، فيكون المعنى: واللَّه خلقكم وعملكم.
والثاني: أن تكون بمعنى الذي، فيكون المعنى: واللَّه خلقكم وخلق الذي تعملونه بأيديكم من الأصنام.
(1) مراتب الإجماع (267)، بتصرف يسير.
(2)
سورة الزمر، آية (62).
(3)
سورة الأنعام، آية (152).
(4)
سورة فاطر، آية (3).
(5)
سورة الرعد، آية (16).
(6)
سورة الصافات، آية (96).
وفي هذه الآية دليل على أن أفعال العباد مخلوقة للَّه" (1).
أما كون كل شيء بمشيئته تعالى فيدل عليه ما يلي:
1 -
قال اللَّه تعالى: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30)} (2).
2 -
3 -
قال اللَّه تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} (4).
4 -
قال تعالى حكاية عن شعيب: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} (5)، وهذا نص في أن المعصية تكون بمشيئته تعالى، فهي تحت إرادته تعالى الكونية لا الشرعية.
5 -
6 -
قال تعالى: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} (7).
7 -
والآيات في تقرير ذلك كثيرة جدًا.
(1) زاد المسير (7/ 75)، وانظر: تفسير ابن جرير (21/ 70).
(2)
سورة الإنسان، آية (29 - 30).
(3)
سورة المدثر، آية (54 - 56).
(4)
سورة التكوير، آية (27 - 29).
(5)
سورة الأعراف، آية (89).
(6)
سورة فاطر، آية (8).
(7)
سورة الرعد، آية (31).
(8)
سورة الكهف، آية (23 - 24).
• المخالفون للإجماع: هذه المسألة مما تعقبها شيخ الإسلام ابن تيمية على ابن حزم من جهة أن تكفير منكري المشيئة والخلق محل خلاف مشهور بين السلف، وأن المنصوص عن الأئمة كمالك وأحمد والشافعي عدم تكفير منكري الخلق أو المشيئة.
ثم قال ابن تيمية معقبًا على ابن حزم: "ومعلوم أن مثل هذا النقل للإجماع لم ينقله عن معرفته بأقوال الأئمة، لكن لما علم أن القرآن أخبر بأن اللَّه خالق كل شيء، وأن هذا من أظهر الأمور عند الأمة حكى الإجماع على مثل هذا، ثم اعتقد أن من خالف الإجماع كفر بإجماع، فصارت حكايته لهذا الإجماع مبنية على هاتين المقدمتين اللتين ثبت النزاع في كل منهما"(1).
ونقل شيخ الإسلام ابن تيمية عن الإمام أحمد روايتان في كفر القدرية المقرين بالعلم والمنكرين للخلق والمشيئة، ثم قال:"مع أن الغالب عليه التوقف عن تكفير القدرية المقرين بالعلم"(2).
وأما ما جاء عن الإمام مالك في القدرية أنه لا يُصلَّى عليهم ويستتابون، كما جاء في المدونة:"قال مالك: في القدرية والإباضية (3) لا يصلى على موتاهم، ولا يتبع جنائزهم، ولا تعاد مرضاهم، فإذا قتلوا فذلك أحرى عندي أن لا يصلى عليهم"(4)، فإن جماعة من المالكية منهم سحنون (5) وابن عبد البر حملوا ذلك على أنه من باب الأدب لا التكفير، وترك الصلاة عليهم هو من
(1) نقد مراتب الإجماع (303).
(2)
مجموع الفتاوى (12/ 486).
(3)
هي فرقة من فرق الخوارج، تُنسب إلى عبد اللَّه بن أباض، كان مذهبه مضطرب في مخالفيه حيث يرى أن مخالفيه من أهل القبلة كفار غير مشركين، ومنكاحتهم جائزة، وموارثتهم حلال، والغنيمة منهم حلال. انظر: الفرق بين الفرق 82، الملل والنحل 1/ 133.
(4)
المدونة (1/ 258).
(5)
الاستذكار (8/ 267)، وانظر: التاج والإكليل لمختصر خليل (8/ 368).
الإمام وأهل الفضل، لا من عموم الناس.
قال ابن عبد البر: "وأما أن تترك الصلاة عليهم جملة إذا ماتوا فلا، بل السنة المجتمع عليها أن يصلى على كل من قال لا إله إلا اللَّه محمد رسول اللَّه، مبتدعًا كان أو مرتكبًا للكبائر.
ولا أعلم أحدًا من فقهاء الأمصار أئمة الفتوى يقول في ذلك بقول مالك" (1).
بل ذكر ابن حزم في كتابه "الفصل في الملل والأهواء والنحل" أنه لا يكفر من خالف أهل السنة في اعتقاداتهم إذا كانوا مجتهدين في تحصيل الحق، ثم أخذ يرد على من كفر القدرية، ويضعف الأحاديث الواردة في كونهم مجوس هذ الأمة (2).
النتيجة:
يظهر لي -واللَّه أعلم- أن المسألة ليست محل إجماع بين أهل العلم في مسألة التكفير، للخلاف الذي حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية.
ولذا قال ابن رجب: "وقد قال كثير من أئمة السلف: ناظروا القدرية بالعلم، فإن أقروا به خُصموا، وإن جحدوه فقد كفروا، يريدون: أن من أنكر العلم القديم السابق بأفعال العباد، وأن اللَّه قسمهم قبل خلقهم إلى شقي وسعيد، وكتب ذلك عنده في كتاب حفيظ، فقد كذب بالقرآن، فيكفر بذلك، وإن أقروا بذلك، وأنكروا أن اللَّه خلق أفعال عباده، وشاءها، وأرادها منهم إرادة كونية قدرية، فقد خصموا؛ لأن ما أقروا به حجة عليهم فيما أنكروه، وفي تكفير هؤلاء نزاع مشهور بين العلماء"(3).
(1) الاستذكار (8/ 267)، وانظر: التاج والإكليل (8/ 368).
(2)
انظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل (3/ 138)، ونصه:"ذهبت طائفة إلى أنه لا يكفر ولا يفسق مسلم بقول قاله في اعتقاد أو فتيا" ثم أيد هذا القول.
(3)
جامع العلوم والحكم (27).