الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ورجح ابن تيمية أن الصواب في حديث عمران هو لفظ "كان اللَّه ولم يكن شيء قبله"؛ لأنه الموافق لما رواه مسلم: (أنت الأول فليس قبلك شيء)(1)، أما لفظ:"كان اللَّه ولم يكن شيء غيره" فروي بالمعنى (2).
ولم يرد شيخ الإسلام بهذا الكلام مخالفة ابن حزم في أصل المسألة، فإن ابن تيمية يقر بأن اللَّه تعالى خالق، وكل ما سواه فهو مخلوق خلقه اللَّه تعالى، وأنه لا شيء أزلي قديم سوى اللَّه تعالى (3)، وإنما أراد ابن تيمية أن ينبه إلى أن نقل الإجماع في مثل هذه المسألة، وتكفير المخالف، ليس بصواب، واللَّه تعالى أعلم.
[54/ 4] المسألة الرابعة والخمسون: اللَّه سبحانه وتعالى لا يخفى عليه شيء، ولا يضل، ولا ينسى، ولا يجهل، ومن أنكر ذلك فقد كفر
.
• المراد بالمسألة: اللَّه عز وجل لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، فيعلم كل صغيرة، وكبيرة، وهو وتعالى لا يضل فيفوته شيء لا يعلمه، بل علمه محيط بكل شيء، ولا يضل فيهلك كما تهلك المخلوقات وتفنى، ولا يضل فيخطئ في تدبير أمر أو تقديره، وقد اختلفت عبارات أهل التأويل في المراد بنفي الضلال عن اللَّه تعالى في قوله عز وجل:{لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} فقيل: أي لا يهلك، وقيل: لا يفوته علم شيء، وقيل: لا يُخطئ (4)، كما أنه تعالى لا ينسى شيئًا علمه، ومن زعم غير ذلك فقد كفر.
• من نقل الإجماع: قال ابن حزم (456 هـ) في جملة من الاعتقادات التي يكفر من خالفها: "اتفقوا أن اللَّه تعالى لا يخفى عليه شيء، ولا يضل، ولا ينسى، ولا يجهل"(5).
(1) مسلم (رقم: 2713)، وقد سبق تخريجه في الحاشية السابقة.
(2)
مراتب الإجماع (303 - 304).
(3)
انظر: الصفدية (1/ 14).
(4)
انظر: تفسير القرطبي (11/ 208).
(5)
مراتب الإجماع (271).
وقال المازري (536)(1): "المعتزلي إذا نفى العلم نفى أن يكون اللَّه تعالى عالمًا، وذلك كفر بالإجماع"(2)، نقله عنه النووي (3)، والشوكاني (4).
قال القاضي عياض (544 هـ) في معرض كلامه على صفة العلم للَّه تعالى: "نص أئمتنا على الإجماع على كفر من نفى عنه تعالى الوصف بها وأعراه عنها"(5). وقال أيضًا فى القدرية (6) الأُول الذين نفوا تقدم علم اللَّه تعالى بالكائنات: "القائل بهذا كافر بلا خلاف"(7)، ونقله عنه النووي (8).
وقال ابن تيمية (728 هـ): "والمأثور عن السلف والأئمة إطلاق أقوال بتكفير الجهمية (9) المحضة الذين ينكرون الصفات. . . وأما القدرية الذين ينفون
(1) هو أبو عبد اللَّه، محمد بن علي بن عمر التميمي المازري، نسبة إلى "مازر" من جزر صقلية، المالكي، فقيه، محدث، من تصانيفه:"المعلم بفوائد مسلم، و"الكشف والأنباء" في الرد على الإحياء للغزالي، ولد سنة (453) هـ، ومات سنة (536) هـ. انظر: وفيات الاعيان 4/ 285؛ معجم المؤلفين 11/ 32؛ الاعلام 7/ 164.
(2)
المعلم بفوائد مسلم (2/ 37).
(3)
انظر: شرح النووي (7/ 160).
(4)
انظر: نيل الأوطار (1/ 359).
(5)
الشفا بتعريف حقوق المصطفى (2/ 292).
(6)
القدرية هم الذي ينفون القدر ويقولون بأن العبد يحدث فعل نفسه، وأن أفعال العباد مخلوقة منهم على جهة الاستقلال، وكان غلاتهم ينكرون علم اللَّه بالأشياء قبل وجودها، وهم الذين كفَّرهم السلف ومن دونهم يثبتون العلم، وينازعون في الخلق والمشيئة، ومن أشهر فرقهم المعتزلة، ومن أشهر دعاتها معبد الجهني، وغيلان الدمشقي. انظر: الملل والنحل 1/ 45، الفرق بين الفرق 18، لوامع الأنوار 1/ 299.
(7)
إكمال المعلم شرح صحيح مسلم (1/ 156).
(8)
انظر: شرح النووي (1/ 156).
(9)
هي فرقة أتباع جهم بن صفوان، وقد صار لقبًا على معطلة الصفات عمومًا، ولهم أقوال ضالة كثير من أبواب العقيدة منها: القول بأن العبد مجبور على فعله، ولا قدرة له ولا اختيار، ومنها أن الجنة والنار تبيدان، ومنها أن الإيمان هو المعرفة باللَّه فقط، والكفر هو الجهل به فقط، ومنها إنكار الصفات جملة، وأن اللَّه لا يراه أحد في الجنة. انظر: الملل والنحل (1/ 58)، الفرق بين الفرق (199)، مقالات الإسلاميين (279).
الكتابة والعلم فَكفَّروهم" (1). وقال ابن جزي (741) (2): "لا خلاف في تكفير من نفى الربوبية أو الوحدانية. . . أو اعتقد أن اللَّه غير حي أو غير عليم" (3).
وقال ابن القيم (751 هـ) في معرض كلامه على مراتب القدر: "المرتبة الأولى: وهي العلم السابق، فقد اتفق عليه الرسل من أولهم إلى خاتمهم، واتفق عليه جميع الصحابة ومن تبعهم من الأمة"(4). وقال في موضع آخر: "فقوله: "اللَّه أعلم بما كانوا عاملين" دليل على أن اللَّه يعلم ما يصيرون إليه بعد ولادتهم على الفطرة، هل يبقون عليها فيكونون مؤمنين، أو يغيَّرون فيصيرون كفارًا، فهو دليل على تقدم العلم الذي ينكره غلاة القدرية، واتفق السلف على تكفيرهم بإنكاره"(5). وقال ابن قاسم (1392 هـ): "من جحد صفة من صفاته كالحياة والعلم كفر إجماعًا"(6).
• مستند الإجماع: النصوص الدالة على عموم علمه تعالى متوافرة فمنها:
1 -
قول اللَّه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5)} (7).
2 -
قال تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19)} (8).
3 -
قال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ
(1) مجموع الفتاوى (3/ 352).
(2)
هو أبو القاسم، محمد بن أحمد بن محمد بن عبد اللَّه ابن جزي، الكلبي، المالكي، فقيه، أصولي، لغوي، من كتبه:"القوانين الفقهية في تلخيص مذهب المالكية"، و"تقريب الوصول إلى علم الأصول"، ولد سنة (693 هـ)، ومات سنة (741 هـ). انظر: الدرر الكامنة 5/ 88، شذرات الذهب 6/ 286، الإحاطة في أخبار غرناطة 1/ 52.
(3)
القوانين الفقهية لابن جزي (396).
(4)
شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل لابن القيم (29).
(5)
شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتحليل (287).
(6)
حاشية الروض المربع (7/ 400).
(7)
سورة آل عمران، آية (5).
(8)
سورة غافر، آية (19).
وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)} (1).
4 -
5 -
6 -
قال تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78)} (4).
7 -
قال سبحانه في قصة فرعون وموسى: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52)} (5)، وهذا على أن تفسير قوله:{لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} راجع إلى اللَّه تعالى، لا إلى الكتاب، وأنه كلام مستأنف، لبيان صفتين من صفاته تعالى جيء بها للإخبار بأن اللَّه تعالى قد كتب ذلك لا لحاجة للكتاب، فإنه تعالى من صفاته أنه لا يضل ولا ينسى.
إلى غير ذلك من النصوص الدالة على إحاطة عمله تعالى بكل شيء.
النتيجة:
لم أجد من خالف في المسألة، لذا يظهر لي -واللَّه أعلم- أن المسألة محل إجماع بين أهل العلم.
(1) سورة الأنعام، آية (59).
(2)
سورة يونس، آية (61).
(3)
سورة المجادلة، آية (7).
(4)
سورة التوبة، آية (78).
(5)
سورة طه، آية (51 - 52).