الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أُعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورًا ومسجدًا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون) (1).
4 -
عن جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: (لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء؛ فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا، فإنكم إما أن تصدقوا بباطل، أو تكذبوا بحق، فإنه لو كان موسى حيًا بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني)(2).
• وجه الدلالة من الآيات والأحاديث السابقة: هذه جملة من الآيات والأحاديث تدل دلالة صريحة على وجوب الإيمان باللَّه تعالى، وبنبيه صلى الله عليه وسلم، وبكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما صح سنده نقلًا متواترًا.
النتيجة:
لم أجد من خالف في المسألة؛ لذا يظهر لي -واللَّه أعلم- أن المسألة محل إجماع بين أهل العلم في كل ما سبق.
لكن ينبه إلى أنه مع الجزم بأن تصديق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما تواتر عنه صلى الله عليه وسلم مما يجب على المسلم، وتكذيبه كفر، لكن ليس كل من أنكر حديثًا صحيحًا يحكم بكفره، بل لا بد من قيام الحجة على ذلك، كما أن تأويل الحديث الصحيح المتواتر عن ظاهره لا يلزم منه القول بتكذيب الحديث أو ردِّه؛ فإن الأفهام تختلف، وقد يكون للمجتهد شبهة تجعله يؤول الحديث عن ظاهره المراد، واللَّه تعالى أعلم.
[62/ 4] المسألة الثانية والستون: من شك في التوحيد كفر
.
• المراد بالمسألة: أولًا: تعريف الشك: قال الفيومي: "شَكَّ الأمر يَشُكُّ شَكًّا: إذا التبس وشَكَكْتُ فيه، قال أئمة اللغة: الشَّكُّ: خلاف اليقين، فقولهم: "خلاف اليقين": هو التردد بين شيئين، سواء استوى طرفاه، أو رجع أحدهما
(1) مسلم (رقم: 153).
(2)
أخرجه أحمد (22/ 468).
على الآخر" (1).
قال الجرجاني: "الشك هو التردد بين النقيضين بلا ترجيح لأحدهما على الآخر عند الشاك"(2).
• ثانيًا: صورة المسألة: المراد بالتوحيد في مسألة الباب هو توحيد الربوبية: وهو الإيمان بكل ما يتعلق بأفعال اللَّه تعالى، فيؤمن بأن اللَّه هو الخالق والرازق والمدبر، إلى غير ذلك.
وتوحيد الألوهية: وهو ما يتعلق بأفعال العباد، من الذبح، والنذر، وسائر أنواع العبادات، فلا تكون إلا للَّه تعالى.
إذا تبين هذا فمن شك في ألوهية اللَّه تعالى أو ربوبية فقد كفر (3).
• من نقل الإجماع: قال ابن حزم (456 هـ): "اتفقوا أن من شك في التوحيد فإنه كافر مشرك"(4).
• مستند الإجماع: يدل على مسألة الباب أن نصوص الكتاب والسنة متوافرة على توحيده عز وجل، والرسل إنما بعثت لتقرير التوحيد، حتى ذكر أهل العلم أن القرآن ثلثه إنما جاء في توحيد اللَّه تعالى، ولذا كانت سورة الإخلاص ثلث القرآن؛ لأنها خالصة في توحيده عز وجل، فمن شك في هذا الركن العظيم فقد شك في ثلث القرآن، ومقصود الرسالة.
واستقصاء الآيات والأحاديث في مثل هذه المسألة مما يطول ذكره.
النتيجة:
لم أجد من خالف في المسألة، لذا يظهر لي -واللَّه أعلم- أن
(1) المصباح المنير، مادة:(شكك)، (320).
(2)
التعريفات (168).
(3)
لم أذكر توحيد الأسماء والصفات في صورة المسألة لأن ابن حزم الذي حكى الإجماع على مسألة الباب لم يوافق أهل السنة والجماعة في باب الأسماء والصفات، بل قوله يُقارب قول الجهمية والمعتزلة، كما سيأتي بيانه في نتيجة المسألة.
(4)
مراتب الإجماع (273)، باختصار يسير.
المسألة محل إجماع بين أهل العلم، لكن ثمة تنبيهان:
الأول: أن ثمة مسائل مُفردة لا يمكن القول فيها بتكفير المقالة فضلًا عن تكفير القائل، كصفات اختلف في إثباتها للَّه تعالى أو نفيها، كما أن ثمة مسائل يقال فيها بكفر المقالة أما كفر القائل فيتوقف فيه لاحتمال شبهة أو تأويل، كإنكار بعض الصفات دون بعض، وهذا مقام يطول البحث فيه، وله فروع وقواعد محلها كتب العقيدة، وإنما المراد الإشارة والتنبيه.
الثاني: أن ابن حزم الذي حكى الإجماع في المسألة له تخبُّط جلي في باب الأسماء والصفات يُقارب مذهب الجهمية والمعتزلة، ولذا لم أذكر توحيد الأسماء والصفات في صورة المسألة.
ولتوضيح قول ابن حزم في الصفات على سبيل الاختصار فإنه ينفي الصفات عن اللَّه تعالى، وإنما يثبت أسماءً مجردة ذات معنى واحد، وقد صرح بذلك في غير موضع، ومن ذلك قوله:"وأما إطلاق لفظ الصفات للَّه عز وجل فمحال لا يجوز؛ لأن اللَّه تعالى لم ينص قط في كلامه المنزّل على لفظ الصفات، ولا على لفظ الصفة، ولا جاء قط عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن للَّه تعالى صفة أو صفات. . . ولو قلنا إن الإجماع قد تيقّن على ترك هذا اللفظة لصدقنا، فلا يجوز القول بلفظ الصفات ولا اعتقاده، بل ذلك كله بدعة منكرة"(1).
وقال أيضًا: "وصح أن أسماءه تعالى أسماء أعلام ليست أوصافًا ولا مشتقة أصلًا"(2).
وقال أيضًا: "إن اللَّه يسمع ويرى ويدرك كل ذلك بمعنى واحد وهو معنى يعلم ولا فرق"(3).
(1) الفصل في الملل والأهواء والنحل (2/ 283 - 285).
(2)
الدرة فيما يجب اعتقاده لابن حزم (279).
(3)
الفصل في الملل والأهواء والنحل (2/ 315).
وقال أيضًا: "اللَّه سميع بصير، ولا نقول بسمع ولا ببصر؛ لأن اللَّه تعالى لم يقله ولكن سميع بذاته، بصير بذاته"(1).
وهذا ظاهر في أن ابن حزم لا يفرق بين أسمائه سبحانه في المعنى، بل يجعلها أعلامًا محضة مترادفة (2)، والعجب أنه حكى القول بأن أسماء اللَّه لا يشتق منها الصفات عن الشافعي وداود (3)، -وهو غلط عليهما بلا شك-.
وقول ابن حزم بأن إنكار إطلاق الصفة للَّه تعالى يقارب الإجماع، خطأ ظاهر، فإن الكلام في إثبات الصفات بهذا المسمّى معروف في كلام أئمة السلف الكبار كما هو مذكور في الكتب المصنّفة في هذا كالسنة لعبد اللَّه بن أحمد (4)، والسنة للخلال، والسنة لابن أبي عاصم (5)، وخلق أفعال العباد للبخاري، وشرح أصول أهل السنة للالكائي، والإبانة لابن بطة (6)، والرد على
(1) الفصل في الملل والأهواء والنحل (2/ 310).
(2)
انظر: شرح الأصفهانية (77 - 78).
(3)
انظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل (2/ 309).
(4)
هو أبو عبد الرحمن، عبد اللَّه بن أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني، ابن الإمام أحمد بن حنبل، حافظ، محدث، من الثقات النبلاء، خبيرا بالحديث وعلله، وهو الذي رتب مسند والده، لد سنة (213 هـ)، ومات سنة (290 هـ). انظر: تهذيب التهذيب 5/ 124، العبر في خبر من غبر 2/ 920
(5)
هو أبو بكر، عمرو بن أبي عاصم، وأبو عاصم اسمه الضحاك بن مخلد الشيباني، البصري، الإمام، الحافظ، المحدث، الزاهد، كان حريصا على تتبع السنة، فقيها، ظاهري المذهب، ولي القضاء، ولد سنة (206 هـ)، وتوفي سنة (287 هـ). انظر: سير أعلام النبلاء 13/ 430، تهذيب التهذيب 8/ 49، تذكرة الحفاظ 2/ 656.
(6)
هو أبو عبد اللَّه، عبيد اللَّه بن محمد بن محمد بن حمدان، العكبري، المعروف بابن بطة، من كبار فقهاء الحنابلة، فقيه، محدث، من تصانيفه:"الإبانة على أصول السنة والديانة"، و"التفرد والعزلة"، ولد سنة (387 هـ)، ومات سنة (304 هـ). انظر: اللباب في تهذيب الأنساب 1/ 160، العبر في خبر من غبر 3/ 37، طبقات الحنابلة 2/ 143.
الجهمية للدارمي (1)، والنقض على بشر المريسي للدارمي كذلك، والرد على الزنادقة لأحمد بن حنبل، والشريعة للآجري (2)، وغيرها، ولم ينقل عن أحد من الأئمة أنه أنكر هذه اللفظة، أو قال إنها من كلام المعتزلة، بل إن ابن حزم نفسه المنكِر لإطلاق الصفة في حق اللَّه تعالى قد أطلقها في مواضع من كتبه فمن ذلك قوله:"كلام اللَّه تعالى صفة قديمة من صفاته، ولا توجد صفاته إلا به ولا تبين منه؛ لأنه لم يزل متكلمًا كما أن قدرته لا تبين منه؛ لأن الكلام لا يكون إلا من متكلّم ولا تكون القدرة إلا من قدير"(3)، وقال أيضًا:"وأما وصفنا الباري تعالى بأنّه أول حي خالق. . . "(4).
وهذا الفعل من ابن حزم يدل على اضطرابه في مسألة الصفات، وقد بيَّن شيخ الإسلام ابن تيمية خطأ ابن حزم في باب الأسماء والصفات فقال:"وكذلك أبو محمد بن حزم مع معرفته بالحديث، وانتصاره لطريقة داود وأمثاله من نفاة القياس أصحاب الظاهر، قد بالغ في نفي الصفات، وردها إلى العلم، مع أنه لا يثبت علمًا هو صفة"(5).
وقال أيضًا: "من قال من متكلمة الظاهرية -كابن حزم-: أن أسماءه
(1) هو أبو سعيد، عثمان بن سعيد بن خالد الدارمي، السجستاني، المحدث صاحب المسند، كان له اهتمام بالرد على أهل البدع، من تصانيفه:"النقض على بشر المريسي"، و"مسند"، ولد سنة (200 هـ)، وتوفي سنة (280 هـ). انظر سير أعلام النبلاء 13/ 319، البداية والنهاية 11/ 72، تذكرة الحفاظ 2/ 621.
(2)
هو أبو بكر، محمد بن الحسين بن عبد اللَّه الآجري، نسبة إلى آجر، من قرى بغداد، الشافعي، الثقة، العابد، الفقيه، المحدث، المصنف، من كتبه:"الشريعة"، و"أخلاق العلماء"، مات بمكة سنة (360 هـ). انظر: تاريخ الإسلام 26/ 217، تذكرة الحفاظ 3/ 936، طبقات الشافعية الكبرى 3/ 149.
(3)
الأصول والفروع (395).
(4)
الفصل (2/ 339).
(5)
درء التعارض (5/ 249 - 250).
الحسنى كالحي والعليم والقدير بمنزلة أسماء الأعلام التي لا تدل على حياة ولا علم ولا قدرة، وقال: لا فرق بين الحي وبين العليم وبين القدير في المعنى أصلًا، ومعلوم أن مثل هذه المقالات سفسطة في العقليات (1) وقرمطة في السمعيات (2)، فإنّا نعلم بالاضطرار الفرق بين الحي، والقدير، والعليم، والملك، والقدوس، والغفور. . . ومعلوم أن الأسماء إذا كانت أعلامًا وجامدات لا تدل على معنى لم يكن فرق فيها بين اسم واسم، فلا يلحد في اسم دون، اسم ولا ينكر عاقل اسمًا دون اسم، بل قد يمتنع عن تسميته مطلقًا. . . فهذا ونحوه قرمطة ظاهرة من هؤلاء الظاهرية الذين يدعون الوقوف مع الظاهر، وقد قالوا بنحو مقالة القرامطة الباطنية (3) في باب توحيد اللَّه وأسمائه
(1) السفسطة عرفها شيخ الإسلام ابن تيمية في "بيان تلبيس الجهمية"(1/ 150) بأنها: "جحود الحقائق الموجودة بالتلبس والتمويه"، وعرفها الجرجاني بأنها: قياس باطل مركَّب من الوهميات، المراد منه تغليط الخصم وإسكاته، كقولهم في الاستدلال بأن الجوهر عرض: الجوهر موجود في الذهن، وكل موجود في الذهن قائم بالذهن عرض، فينتج أن الجوهر عرض. انظر: التعريفات (158)، المعجم الوسيط (1/ 433).
(2)
القرمطة في اللغة تطلق على دقة الكتابة، ومقاربة السطور، ومقاربة الخُطى في المشي، والغضب. أما في الاصطلاح فهو نسبة إلى القرامطة، وقد بيَّن ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان تلبيس الجهمية (1/ 150) حيث قال:"القرمطة التي هي تحريف الكلم عن مواضعه وإفساد الشرع واللغة والعقل بالتمويه والتلبيس. . . وسمي قرمطة لأن القرامطة هم أشهر الناس بادعاء علم الباطن المخالف للظاهر ودعوى التأويلات الباطنة المخالفة للظاهر المعلوم المعقول من الكتاب والسنة".
(3)
هو لفظ يطلق على كل فرقة ادعت أن لنصوص الشريعة ظاهرًا وباطنًا، وزعموا أن العامة هم المرادون بظواهر النصوص، أما من ارتقى إلى علم الباطن فقد انحطت عنهم التكاليف وأطلقوا عليها: الأغلال وقالوا هم المرادون من قوله تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} ، وغرضهم إبطال الشرائع، وهم صنفان، أحدهما من يقول للكتاب والسنة باطن يخالف ظاهرها، وهؤلاء قسمان من يقر بالعمليات دون العلميات، وعليه طائفة من الشيعة، والقسم الآخر: من يرون أن الأعمال الظاهرة كالصلاة والصيام. . . إلخ ليس على ظاهرها وهؤلاء زنادقة باتفاق، وليست من فرق الإسلام، بل من المجوس. انظر: الفرق بين الفرق 256، الملل والنحل 1/ 190، التبصير في الدين 83.