الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فتركه ولم يقطع يده الأخرى" (1).
وجه الدلالة: اكتفاء علي رضي الله عنه بقطع الشمال عن اليمين، يدل على عدم وجوب اليمين، إذ لو وجب قطع اليمين لما أجزأ عن ذلك قطع الشمال (2).
النتيجة:
يظهر لي -واللَّه أعلم- أن المسألة محل خلاف بين أهل العلم، لثبوت خلاف قتادة، وابن حزم فيها، وقد نفى ابن حزم الإجماع فقال:"قال قائلون: تقطع اليمنى. . . وادعوا إجماعًا، وهو باطل؛ يرده قطع علي الشمال عن اليمين، واكتفاؤه بذلك"(3).
[92/ 1] المسألة الثانية والتسعون: محل القطع هو مفصل الكف
.
• المراد بالمسألة: أولًا: تعريف مفصل الكف: المفصل: قال ابن فارس: "الفاء والصاء واللام كلمةٌ صحيحةٌ تدلُّ على تمييز الشَّيء من الشَّيء وإبانته عنه"(4).
وقال ابن منظور: "الفَصْل: بَوْنُ ما بين الشيئين، والفَصْل من الجسد موضع المَفْصِل. . . والمَفْصِل واحد مَفاصِل الأَعضاء والانْفصال مطاوع فصَل والمَفْصِل كل ملتقى عظمين من الجسد"(5).
الكف: الكف: هي راحة يد الإنسان مع أصابعه، سميت بذلك لأنها تكُف الأذى عن البدن، وهو مؤنث، قال الفيومي:"وزعم من لا يوثق به أن الكَفَّ مذكر، ولا يعرف تذكيرها من يوثق بعلمه، وأما قولهم كَفَّ خضب: فعلى معنى ساعد مخضب، وجمعها: كُفُوفٌ، وأَكُفٌ"(6).
مفصل الكف: المراد بمفصل الكف: هو المفصل الفاصل بين الكف
(1) المحلى (12/ 355).
(2)
المحلى (12/ 355 - 356).
(3)
المحلى (12/ 355 - 356).
(4)
مقاييس اللغة (4/ 505).
(5)
لسان العرب، مادة:(فصل)، (11/ 521)، وانظر: مختار الصحاح، مادة:(فصل)، (517).
(6)
انظر: المصباح المنير مادة: (كفف)، (535 - 536)، وانظر: المعجم الوسيط (2/ 792)، القاموس الفقهي (321)، التوقيف على مهمات التعاريف (1/ 606).
والساعد، وهو ما يُسمى بالرِّسغ.
ويعبر عنه آخرون بالكوع، ولا منافاة، فإن الرسغ هو مفصل الكف، وله طرفان، هما عظمان، فالذي يلي الإبهام كوع، والذي يلي الخنصر كرسوع (1).
• ثانيًا: وصورة المسألة: إذا ثبتت السرقة على شخص بما يوجب القطع، فإن محل القطع هو مفصل الكف، وهو الرسغ.
وهذا الحكم عام سواء في الرجل والمرأة، وفي الحر والعبد.
• من نقل الإجماع: قال الجصاص (370 هـ): "ولا خلاف بين السلف من الصدر الأول وفقهاء الأمصار أن القطع من المفصل، وإنما خالف فيه الخوارج وقطعوا من المنكب لوقوع الاسم عليه وهم شذوذ لا يعدون خلافًا"(2).
وقال ابن هبيرة (560 هـ): "أجمعوا أن السارق إذا وجب عليه القطع، وكان ذلك أول سرقة وهو صحيح الأطراف فإنه يبدأ بقطع يده اليمنى من مفصل الكف"(3)، ونقله عنه ابن قاسم (4). وقال ابن قدامة (620 هـ): إلا خلاف بين أهل العلم في أن السارق أول ما يقطع منه، يده اليمنى، من مفصل الكف، وهو الكوع" (5)، وحكاه عنه الزركشي (6).
وقال شمس الدين ابن قدامة (682 هـ): "لا خلاف بين أهل العلم في أن السارق أول ما يقطع منه يده اليمنى، من مفصل الكف، وهو الكوع"(7).
(1) انظر: المغني (9/ 106)، المجموع (2/ 262).
(2)
أحكام القرآن (2/ 591).
(3)
الإفصاح (213).
(4)
انظر: حاشية الروض المربع (7/ 372).
(5)
المغني (9/ 105).
(6)
هو محمد بن عبد اللَّه بن محمد الزركشي، المصري، فقيه حنبلي، من أشهر كتبه:"شرح الخرقي"، أخذ الفقه عن الحجَّاوي، مات بمصر سنة (773 هـ). انظر: شذرات الذهب 6/ 224، السلوك لمعرفة دول الملوك للمقريزي 4/ 343.
(7)
الشرح الكبير (10/ 291).
وقال الزيلعي (743 هـ): "كل من قطع من الأئمة قطع من الرسغ، فصار إجماعًا فعلًا، فلا يجوز خلافه"(1). وقال ابن الهمام (861 هـ): "وأَخرج -أي ابن أبي شيبة- عن عمر وعلي أنهما قطعا من المفصل وانعقد عليه الإجماع"(2).
وقال ابن مفلح المقدسي (884 هـ): "وإذا وجب القطع قطعت يده اليمنى من مفصل الكف بلا خلاف"(3)، ونقله عنه البهوتي (4)، وابن قاسم (5).
وقال البهوتي (1051 هـ): "وإذا وجب القطع قطعت يده اليمنى من مفصل الكف، لقول أبي بكر وعمر: تقطع يمين السارق من الكوع، ولا مخالف لهما من الصحابة"(6). وقال الخرشي (1101 هـ): "السارق المكلف مسلمًا كان أو كافرًا، حرًا كان أو رقيقًا، ذكرًا كان أو أنثى، إذا سرق ويمينه صحيحة، فإنها تُقطع من كوعها إجماعًا"(7).
وقال الجزيري (1360 هـ): "اتفق الأئمة رحمهم اللَّه تعالى- على أن السارق إذا وجب عليه القطع وكان ذلك أول سرقة له، وأول حد يقام عليه بالسرقة وكان صحيح الأطراف فإنه يبدأ بقطع يده اليمنى من مفصل الكف"(8).
• مستند الإجماع: استدل القائلون بالقطع بما يلي:
1 -
قول اللَّه تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (9).
• وجه الدلالة: في الآية أمر بقطع اليد، واليد تطلق على ما بين المنكب وأطراف الأصابع، وتطلق على ما بين الرسغ إلى أطراف الأصابع، لكن بينت السنة أن المراد هو الثاني.
(1) تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق (3/ 224).
(2)
فتح القدير (5/ 394).
(3)
المبدع شرح المقنع (9/ 124).
(4)
كشاف القناع عن متن الإقناع (6/ 146).
(5)
انظر: حاشية الروض المربع (7/ 373).
(6)
حاشية الروض المربع (7/ 373).
(7)
شرح مختصر خليل (8/ 92).
(8)
الفقه على المذاهب الأربعة (5/ 159).
(9)
سورة المائدة، آية (38).
2 -
من الأثر: جاءت آثار بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقطع السارق من مفصل الكف لكنها لا تخلو من مقال، فمنها:
أ - عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "قال: كان صفوان بن أمية بن خلف نائمًا في المسجد، ثيابه تحت رأسه، فجاء سارق فأخذها، فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم، فأقر السارق، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع، فقال صفوان: يا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أيقطع رجل من العرب في ثوبي؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: (أفلا كان هذا قبل أن تجيء به) ثم قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: (اشفعوا ما لم يتصل إلى الوالي، فإذا أوصل إلى الوالي فعفا فلا عفا اللَّه عنه) ثم أمر بقطعه من المفصل"(1).
ب - أخرج البيهقي وابن عدي (2) عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: "قطع النبي صلى الله عليه وسلم سارقًا من المفصل"(3).
(1) سنن الدارقطني (3/ 204)، قال الزيلعي في "نصب الراية" (3/ 370):"ضعفه ابن القطان في كتابه، فقال: العرزمي متروك، وأبو نعيم عبد الرحمن بن هانئ النخعي لا يتابع على ما له من حديث".
(2)
هو أبو أحمد، عبد اللَّه بن عديّ بن عبد اللَّه بن محمد بن مبارك الجرجاني، ويعرف بابن القطّان، وصفه الذهبي بقوله:"الإمام، الحافظ، الناقد، الجوال"، قال ابن عساكر:"كان ثقة على لحن فيه"، وقال حمزة السَّهمي:"كان حافظًا متقنًا، لم يكن في زمانه مثله"، من مصنفاته:"الكامل في معرفة الضعفاء والمتروكين"، و"الانتصار على مختصر المزني"، ولد سنة (270) هـ، توفي في جمادي الآخرة، سنة (365) هـ. انظر: انظر: العبر في خبر من غبر 2/ 343، شذرات الذهب 3/ 51، سير أعلام النبلاء 16/ 154.
(3)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (8/ 271)، وابن عدي في الكامل في ضعفاء الرجال (3/ 469)، وقد ضعفه جماعة من العلماء منهم ابن الملقن في "البدر المنير"(8/ 460)(8/ 685)، ابن القطان كما نقله عنه الزيلعي في "نصب الراية"(3/ 370)، وضعفه أيضًا ابن حجر في "تلخيص الحبير"(4/ 56)؛ لأن في سنده عبد الرحمن بن سلمة وهو مجهول.
وللحديث شاهد أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (6/ 528) لكنه عن رجاء بن حيوة مرسلًا، ووصله البيهقي في "السنن الصغري"(3/ 313) من طريق رجاء بن حيوة عن عدي مرفوعًا.
ج - عن عمرو بن دينار قال: "كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقطع السارق من المفصل"(1).
د - وكذا روي عن علي رضي الله عنه نحوه (2).
هـ - روي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أنهما قالا: "إذا سرق السارق فاقطعوا يده من الكوع"(3).
قال ابن قدامة: "وقد روي عن أبي بكر الصديق وعمر رضي الله عنهما أنهما قالا: إذا سرق السارق، فاقطعوا يمينه من الكوع، ولا مخالف لهما في الصحابة"(4).
3 -
من النظر:
أ - أن البطش بالكف أقوى عند غالب الناس، فكانت البداية بها أردع (5).
ب - أن الكف هي آلة السرقة غالبًا، فناسب عقوبته بإعدامها (6).
• المخالفون للإجماع: خالف في المسألة ثلاث طوائف:
فذهبت طائفة إلى أن اليد تقطع من المرفق أو المنكب، وهو مروي عن الزهري، ومحكي عن الخوارج.
وذهبت طائفة إلى أن القطع من الأصابع فقط، وهو مروي عن علي رضي الله عنه.
وذهبت طائفة ثالثة إلى أن اليد تقطع من مفصل الكف في الحر، أما العبد
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (6/ 528)، والبيهقي في السنن الكبرى (8/ 271)، وأخرجه البيهقي أيضًا في السنن الصغرى (3/ 313) ثم قال:"في إسناد هذا الحديث مقال".
(2)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف (10/ 185)، والدارقطني في سننه (3/ 212)، والبيهقي في السنن الكبرى (8/ 271).
(3)
قال ابن الملقن في "البدر المنير"(8/ 685): "هذا غريب عنهما"، وقال ابن حجر في "تلخيص الحبير" (4/ 132):"لم أجده عنهما".
(4)
المغني (9/ 106).
(5)
الكافي في فقه ابن حنبل لابن قدامة (4/ 100).
(6)
انظر: المغني (9/ 106).
فلا تقطع يده إلا من أطراف أصابعه، وبه قال ابن حزم (1).
• دليل المخالف: استدل الفريق الأول القائلون بالقطع من المنكب أو المرفق بعموم قول اللَّه تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (2)، فإن اليد في لغة العرب تطلق على ما بين المنكب إلى أطراف الأصابع.
واستُدل للقول الثاني بكون القطع من الأصابع فقط بأن بطش السارق كان بالأصابع، فتقطع أصابعه ليزول تمكنه من البطش بها، ولأن في قطع يده من المفصل تعطل لمنفعة اليد بالكلية، فتقطع من الأصابع ليبقى شيء من منفعة اليد.
أما الفريق الثالث الذين فرقوا بين الحر والعبد فاستدلوا بعموم قول اللَّه تعالى في الإماء: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} (3)، والمراد بالمحصنات في الآية الحرائر (4).
النتيجة:
يظهر لي -واللَّه أعلم- أن المسألة ليست محل إجماع محقق بين أهل العلم.
ولعلَّ من نقل الإجماع في المسألة لم يعتبر قول المخالف وجعله من قبيل الشاذ كما صرح به أبو العباس القرطبي فقال: "قيل: تقطع اليد إلى المرفق، وقيل: إلى المنكب: وهما شاذان"(5).
وقال ابن الهمام: "ما نُقل عن شذوذ من الاكتفاء بقطع الأصبع؛ لأن بها البطش، وظن الخوارج من أن القطع من المنكب؛ لأن اليد اسم لذلك واللَّه أعلم بصحته، وبتقدير ثبوته هو خرق للإجماع، وهم لم يقدحوا في الإجماع قبل الفتنة"(6).
(1) انظر: المحلى (12/ 354 - 355)، المبسوط (9/ 133 - 134)، سبل السلام (2/ 441).
(2)
سورة المائدة، آية (38).
(3)
سورة النساء، الآية (25).
(4)
انظر: المحلى (12/ 354 - 355)، المبسوط (9/ 133 - 134).
(5)
المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (5/ 76).
(6)
فتح القدير (5/ 394).