الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[25/ 4] المسألة الخامسة والعشرون: تعلم السحر وتعليمه وعمله حرام
.
• المراد بالمسألة: أولا: تعريف السحر لغةً واصطلاحًا:
السِّحر لغةً: قال ابن فارس: "السين والحاء والراء أصولٌ ثلاثة متباينة:
أحدها: عضْوٌ من الأعضاء، والآخر: خَدْعٌ وشِبههُ، والثالث: وقتٌ من الأوقات.
فالعُضْو السَّحْر، وهو ما لَصِقَ بالحُلقوم والمَرِيء من أعلى البطن. . . وأمّا الثّاني فالسِّحْر، قال قوم: هو إخراج الباطل في صورة الحقِّ، ويقال هو الخديعة. . . وأما الوقت فالسَّحَر، والسُّحْرة، وهو قَبْل الصُّبْح" (1). ويتحصل مما سبق أن هذه المادة على ثلاثة أضرب:
الأول: السِّحر -بتشديد السين المكسورة-.
والثاني: السَّحْر -بتشديد السين المفتوحة، وسكون الحاء-.
والثالث: السَّحَر -بتشديد السين المفتوحة، وفتح الحاء-.
والذي يخصُّنا في البحث هو الضرب الأول، قال الخليل بن أحمد:"السِّحر: كل ما كان من الشيطان فيه معونة، والسِّحر: الأخذة التي تأخذ العين، والسِّحر: البيان في الفطنة"(2).
وقال الجوهري (3): "السحر: الأخذة، وكل ما لطف مأخذه ودق فهو
(1) مقاييس اللغة (3/ 138).
(2)
العين، مادة (سحر)، (3/ 135).
(3)
هو أبو نصر، إسماعيل بن حماد الجوهري، إمام في اللغة، سافر إلى الحجاز فطاف البادية، وتعلم اللغة، مات بسبب تعلمه الطيران، حيث صنع جناحين من خشب وربطهما بحبل، وصعد سطح داره، ونادى في الناس: لقد صنعت ما لم أسبق إليه وسأطير الساعة، فتأبط الجناحين ونهض بهما، فخانه اختراعه، فسقط إلى الأرض قتيلًا، من تصانيفه:"الصحاح"، و"العروض"، و"مقدمة في النحو"، توفي سنة (393 هـ). انظر: سير أعلام النبلاء 17/ 81، شذرات الذهب 3/ 142، البلغة في تراجم أئمة النحو (10).
سحر" (1). وقال الأزهري: "أصل السحر صرف الشيء عن حقيقته إلى غيره" (2).
ويتحصل مما سبق أن السِّحر في اللغة يطلق على كل ما لطف مأخذه ودق، أي ما كان سببه خفيًا، كما يُطلق على العمل الذي فيه معونة من الشيطان، وعلى صرف الشيء عن حقيقته إلى غيره -ومنه: الخديعة-، وعلى الفطنة، والبيان، وفصاحة اللسان.
• السحر اصطلاحًا: اختلف أهل العلم في حد السحر اصطلاحًا، وذلك لكثرة أنواعه، وعدم تحقق قدر مشترك بين هذه الأنواع يكون جامعًا لها مانعًا عن دخول غيرها، ولذا قال الشافعي:"السحر: اسم جامع لمعان مختلفة"(3).
وقال ابن جرير الطبري: "تخييل الشيء إلى المرء بخلاف ما هو به في عينه وحقيقته"(4).
وعرفه ابن العربي بقوله: "كلام مؤلف يعظم به غير اللَّه تعالى، وتنسب إليه فيه المقادير والكائنات"(5).
وعرفه ابن قدامة بقوله: "هو عقد ورقى وكلام يتكلم به، أو يكتبه، أو يعمل شيئًا في بدن المسحور أو قلبه، أو عقله، من غير مباشرة له، وله حقيقة، فمنه ما يقتل، وما يمرض، ويأخذ الرجل عن امرأته فيمنعه وطأها، ومنه ما يفرق بين المرء وزوجه، وما يبغض أحدهما إلى الآخر، أو يحبب بين اثنين"(6).
• ثانيًا: صورة المسألة: من استعمل السِّحر عن طريق تعظيم غير اللَّه تعالى، أو استعمال الجن بالصرف والعطف، أو ضرر الناس، أو خديعتهم، أو نحو ذلك، فقد ارتكب أمرًا محرمًا شرعًا.
(1) الصحاح (3/ 242)، وانظر: تاج العروس، مادة:(سحر)، (11/ 514).
(2)
تهذيب اللغة (4/ 170).
(3)
الأم (1/ 293).
(4)
تفسير ابن جرير (2/ 466)، وبهذا المعنى عرفه الجصاص في كتابه "أحكام القرآن" (1/ 60) بقوله:"كل أمر خفي سببه، وتخيل على غير حقيقته، ويجري مجرى التمويه والخداع".
(5)
أحكام القرآن (1/ 93).
(6)
المغني (9/ 34).
ويُبيَّن أن السحر الذي يعتمد على خفة اليد، أو ما سمي في نصوص الشرع سحرًا من البيان في الكلام، أو النميمة فكل ذلك غير مراد في مسألة الباب.
• من نقل الإجماع: قال أبو عثمان الصابوني (449 هـ)(1): "وإن قال: السحر ليس بحرام، وأنا أعتقد إباحته، وجب قتله؛ لأنه استباح ما أجمع المسلمون على تحريمه"(2). قال ابن قدامة (620 هـ): "تعلّم السحر وتعليمه حرام، لا نعلم فيه خلافًا بين أهل العلم"(3). وقال أيضًا: "القرآن نطق بتحريمه -أي السحر- وثبت بالنقل المتواتر والإجماع"(4).
وقال النووي (676 هـ): "عمل السحر حرام، وهو من الكبائر، بالإجماع"(5)، ونقله عنه ابن حجر (6). وقال شمس الدين ابن قدامة (682 هـ):"تعليم السحر وتعلمه حرام، لا نعلم فيه خلافًا بين أهل العلم"(7). وقال أيضا: "القرآن نطق بتحريمه -أي السحر- وثبت بالنقل المتواتر والإجماع"(8). وقال ابن تيمية (728 هـ): "قد علم أنه -أي السحر- محرم بكتاب اللَّه، وسنة رسوله، وإجماع الأمة"(9). وقال ابن الهمام (861 هـ): "تعليم السحر حرام بلا خلاف بين أهل العلم"(10).
(1) هو إسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد بن إسماعيل، أبو عثمان الصابوني، مقدم أهل الحديث في بلاد خراسان. لقبه أهل السنة فيها بشيخ الإسلام، كان فصيح اللهجة، واسع العلم، عارفا بالحديث والتفسير، يجيد الفارسية إجادته العربية، من تصانيفه:"عقيدة السلف"، و"الفصول في الأصول"، ولد سنة (373) هـ، وتوفي سنة (449) هـ. انظر: تاريخ دمشق 9/ 3، سير أعلام النبلاء 18/ 40، طبقات الشافعية الكبرى 4/ 271.
(2)
عقيدة السلف وأصحاب الحديث (297).
(3)
المغني (9/ 34).
(4)
المغني (9/ 35).
(5)
شرح النووي (14/ 176).
(6)
انظر: فتح الباري (10/ 224).
(7)
الشرح الكبير (10/ 113).
(8)
الشرح الكبير (10/ 114).
(9)
مجموع الفتاوى (29/ 384).
(10)
فتح القدير (6/ 99).
وقال زكريا الأنصاري (926 هـ): "ويحرم فعله -أي السحر- بالإجماع"(1). وقال ابن قاسم (1392 هـ): "وتعلمه -أي السحر-، وتعليمه، وفعله حرام، بلا نزاع"(2).
• مستند الإجماع: يدل على مسألة الباب ما يلي:
1 -
• وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى سمى تعليم السحر كفرًا، وجعل من اشتراه ليس له خلاق -أي نصيب- في الآخرة، وجعل تعلم السحر منافيًا للإيمان والتقوى.
2 -
قال تعالى: {قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ} (4).
3 -
قال تعالى: {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69)} (5).
4 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنيوا السبع الموبقات) قيل: يا رسول اللَّه وما هن؟ قال: (الشرك باللَّه، والسحر، وقتل النفس التي حرم اللَّه إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)(6).
(1) أسنى المطالب (4/ 82).
(2)
حاشية الروض المربع (7/ 413).
(3)
سورة البقرة، آية (102).
(4)
سورة يونس، آية (77).
(5)
سورة طه، آية (69).
(6)
البخاري (رقم: 2615)، مسلم (رقم: 89).
5 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: (من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئًا وكل إليه)(1).
6 -
عن عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه قال سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الرقى، والتمائم، والتولة، شرك)(2).
والتولة ضرب من السحر يزعمون به أنه يقرب الرجل إلى امرأته (3).
• المخالفون للإجماع: خالف بعض أهل العلم في بعض صور المسألة فنقل ابن عابدين عن بعض الحنفية استثناء تعلم السحر لرد ساحر أهل الحرب فيجب في هذه الحال، وإنْ تعلمه ليوفق بين زوجين فجائز (4).
وذهب بعض الشافعية إلى تحريم تعليم السحر، إلا إن كان لتحصيل نفع، أو لدفع ضرر، أو للوقوف على حقيقته (5).
وأشار إلى هذا القول ابن حجر فقال: "قد أجاز بعض العلماء تعلم السحر لأحد أمرين:
إما لتمييز ما فيه كفر من غيره، وإما لأزالته عمن وقع فيه.
(1) أخرجه النسائي، كتاب: تحريم الدم، باب: الحكم في السحرة، (رقم: 4079)، وضعفه الذهبي في ميزان الاعتدال (2/ 378)؛ لأمرين:
الأول: أن في سنده عباد المنقري، ضعفه الإمام أحمد وابن معين.
الثاني: للانقطاع بين الحسن وأبي هريرة.
ولذا قال الذهبي: "هذا الحديث لا يصح للين عبَّاد، وانقطاعه"، كما ضعفه الألباني أيضًا في "ضغيف الترغيب والترهيب"(2/ 146)،
(2)
أخرج أحمد (6/ 110)، وأبو داود، كتاب: الطب، باب: في تعليق التمائم، (رقم: 3883)، وابن ماجه، كتاب: الطب، باب: تعليق التمائم، (رقم: 3530)، قال الحاكم في المستدرك (4/ 463):"هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني كما في صحيح الترغيب والترهيب (3/ 192).
(3)
انظر: لسان العرب، مادة:(تول)، المستدرك على الصحيحين (4/ 463).
(4)
رد المحتار على الدر المختار (1/ 44).
(5)
حاشيتا قليوبي وعميرة (4/ 170).
فأما الأول فلا محذور فيه إلا من جهة الاعتقاد، فإذا سلم الاعتقاد فمعرفة الشيء بمجرده لا تستلزم منعًا، كمن يعرف كيفية عبادة أهل الأوثان للأوثان؛ لأن كيفية ما يعمله الساحر إنما هي حكاية قول أو فعل بخلاف تعاطيه والعمل به" (1).
وأشد من خالف في المسألة الفخر الرازي حيث نقل اتفاق المحققين على أن تعلم السحر ليس بمحظور، فقال في تفسيره:"العلم بالسحر غير قبيح ولا محظور، اتفق المحققون على ذلك؛ لأن العلم لذاته شريف، وأيضًا لعموم قوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)} (2)، ولأن السحر لو لم يكن يعلم لما أمكن الفرق بينه وبين المعجز، والعلم بكون المعجز معجزًا واجب وما يتوقف الواجب عليه فهو واجب، فهذا يقتضي أن يكون تحصيل العلم بالسحر واجبًا، وما يكون واجبًا كيف يكون حرامًا وقبيحًا"(3).
(1) فتح الباري (10/ 224 - 225).
(2)
سورة الزمر، آية (9).
(3)
مفاتيح الغيب (3/ 194)، وهذا الكلام من الرازي غير صواب قطعًا، وقد تعقبه ابن كثير في تفسيره (1/ 102) فقال بعد نقله لكلام الرازي:"هذا الكلام فيه نظر من وجوه: أحدها: قولُهُ: "العلم بالسحر ليس بقبيح": إن عنى به ليس بقبيح عقلًا فمخالفوه من المعتزلة يمنعون هذا، وإن عنى أنه ليس بقبيح شرعًا، ففي هذه الآية الكريمة تبشيع لتعلم السحر، وفي الصحيح: "من أتى عرافًا أو كاهنًا، فقد كفر بما أنزل على محمد"، وفي السنن: "من عقد عقدة ونفث فيها فقد سحر".
وقوله: "ولا محظور، اتفق المحققون على ذلك": كيف لا يكون محظورًا مع ما ذكرناه من الآية والحديث؟ !
واتفاق المحققين يقتضي أن يكون قد نص على هذه المسألة أئمة العلماء أو أكثرهم، وأين نصوصهم على ذلك؟
ثم إدخاله علم السحر في عموم قوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} فيه نظر؛ لأن هذه الآية إنما دلت على مدح العالمين بالعلم الشرعي، ولم قلتَ إن هذا منه؟ .
ثم تَرَقيه إلى وجوب تعلمه بأنه لا يحصل العلم بالمعجز إلا به، ضعيف بل فاسد؛ لأن أعظم معجزات رسولنا، عليه الصلاة والسلام هي القرآن العظيم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه =