الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول مسائل الإجماع العامة في حد السرقة
[1/ 1] المسألة الأولى: السارق يقال له فاسق، فاجر، ما لم يظهر منه خشوع التوبة مما ركب من المعصية
.
• المراد بالمسألة: لو ثبتت السرقة على شخص، فإنه يطلق عليه اسم الفسق، غير المخرج من الملة، إلا إن ظهر منه توبة من السرقة.
وينبه إلى أن المراد بالمسألة هو إطلاق اسم الفسق عليه، لا أن ينادى بـ (يا فاسق)، أو (يا فاجر).
• من نقل الإجماع: قال ابن جرير الطبري (310 هـ): "الصواب من القول في ذلك عندنا في معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن)(1).
قول من قال: يزول عنه الاسم الذي هو معنى المدح إلى الاسم الذي هو بمعنى الذم، فيقال له: فاسق، فاجر، زان، سارق، وذلك أنه لا خلاف بين جميع علماء الأمة أن ذلك من أسمائه، ما لم يظهر منه خشوع التوبة مما ركب من المعصية" (2) ونقله عنه ابن بطال (3)(4) وابن حجر (5).
(1) صحيح البخاري (رقم: 2343)، وصحيح مسلم (رقم: 57).
(2)
تهذيب الآثار للطبري (2/ 176 - 177).
(3)
هو أبو الحسن، علي بن خلف بن عبد الملك بن بطّال، القرطبي، المالكي، يُعرف بابن اللجام، أصله من قرطبة، وأخرجته الفتنة فخرج إلى بلنسية، فقيه، محدث، كان نبيلًا، جليلًا، متصرفًا، قال ابن بشكوال:"كان من أهل العلم والمعرفة، عني بالحديث العناية التامة"، له شرح نفيس لصحيح البخاري، توفي ببلنسية سنة (449) هـ.
انظر: شذرات الذهب 3/ 283، الأعلام 5/ 96، ومعجم المؤلفين 7/ 87.
(4)
انظر: شرح صحيح البخاري لابن بطال (8/ 392).
(5)
انظر: فتح الباري (12/ 62).
وقال ابن كثير (774 هـ): "أجمع أهل السنة على أن من أكل مالًا حرامًا ولو ما يصدق عليه اسم المال أنه يفسق"(1).
• مستند الإجماع: يستند الإجماع إلى أدلة منها:
1 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن)(2).
• وجه الدلالة: دل الحديث على أن السارق منفي عنه كمال الإيمان، فهو فاسق بكبيرته مؤمن بإيمانه، قال ابن عبد البر في تعليقه على الحديث:"يريد مستكمل الإيمان، ولم يرد به نفي جميع الإيمان عن فاعل ذلك، بدليل الإجماع على توريث الزاني والسارق وشارب الخمر إذا صلوا للقبلة"(3).
2 -
أن نصوص الشارع متوافرة في تحريم السرقة، وأنها من كبائر الذنوب، وعليه أجمع أهل العلم.
وقد تقرر إجماع أهل السنة والجماعة على أن فاعل الكبيرة فاسق بكبيرته، وإن كان معه أصل الإيمان، ولا يكفر بكبيرته، وممن نقل الإجماع عليه:
قال الترمذي: "لا نعلم أحدًا كفر أحدًا بالزنا أو السرقة وشرب الخمر"(4).
وقال ابن عبد البر: "وأجمع المسلمون على أنه لا يجوز ترك الصلاة على المسلمين المذنبين من أجل ذنوبهم وإن كانوا أصحاب كبائر"(5).
وقال النووي: "إجماع أهل الحق على أن الزاني، والسارق، والقاتل، وغيرهم من أصحاب الكبائر غير الشرك لا يكفرون بذلك بل هم المؤمنون
(1) تفسير ابن كثير (5/ 521).
(2)
البخاري (رقم: 2343)، مسلم (رقم: 57).
(3)
التمهيد (9/ 243).
(4)
سنن الترمذي (2550).
(5)
الاستذكار (3/ 29).
ناقصو الإيمان، إن تابوا سقطت عقوبتهم، وإن ماتوا مصرين على الكبائر كانوا في المشيئة، فإن شاء اللَّه تعالى عفا عنهم وأدخلهم الجنة أولًا، وإن شاء عذبهم ثم أدخلهم الجنة" (1).
• تنبيه: أصل هذه المسألة مسألة عقدية مشهورة يعبر عنها باسم "مرتكب الكبيرة"، مِن سرقةٍ أو زنا، أو غير ذلك.
فأجمع أهل السنة على أن مرتكب الكبيرة فاسق بما ارتكب، وهذا الإجماع من أهل السنة عليه تنبيهات ثلاث:
الأول: نقل ابن حزم وغيره ممن تكلم في اسم مرتكب الكبيرة قولًا نسبوه للحسن البصري (2) وقتادة (3)، محصله أن مرتكب الكبيرة منافق، وظنوا أن هذا القول يخالف مذهب أهل السنة في تسمية المنافق بالفاسق، حيث أن مراد
(1) شرح النووي (2/ 41)، وانظر: تفسير القرطبي (5/ 386)(8/ 221)، طرح التثريب (7/ 260)، تحفة الأحوذي للمباركفوري (7/ 313 - 314). وثمة نصوص في نقل الإجماع على عدم كفر المسلم بالكبيرة ستأتي في مسألة مستقلة في آخر كتاب الردة في المسألة الحادية والعشرون بعد المائة، تحت عنوان:"مرتكب الكبيرة والحدود لا يكفر إلا بالشرك".
(2)
هو أبو سعيد، الحسن بن أبي الحسن البصري، إمامُ أهل البصرة في زمانه، قال ابن سعد:"كان جامعًا، عالمًا، رفيعًا، فقيهًا، حجةً، مأمونًا، عابدًا، ناسكًا، كثير العلم، فصيحًا، جميلًا وسيمًا"، وقال العجلي:"تابعي ثقة، رجل صالح، صاحب سنة"، وقال ابن حجر:"ثقة فقيه فاضل مشهور، وكان يرسل كثيرًا ويدلس". ولد بالمدينة سنة (21 هـ)، ورأى عشرين ومائة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وتوفي سنة (112 هـ). انظر: معرفة الثقات للعجلي 1/ 292، العبر في خبر من غبر 1/ 136، تهذيب التهذيب 2/ 231.
(3)
هو أبو الخطاب، قتادة بن دعامة بن قتادة بن عزيز بن عمرو بن ربيعة بن الحارث بن سدوس ابن وائل السدوسي، تابعي بصري، ولد أعمى، سمع من أنس بن مالك، وعبد اللَّه بن سرجس، وأبي الطفيل، وابن المسيب، وجماعة، قال النووي:"أجمعوا على جلالته، وتوثيقه، وحفظه، وإتقانه، وفضله"، مات سنة (117 هـ). انظر: سير أعلام النبلاء 5/ 296، التاريخ الكبير للبخاري 7/ 185، جامع التحصيل في أحكام المراسيل لأبي سعيد العلائي 255.
الحسن بكونه منافقًا أنه خارج من الملة (1).
وقد اعتذر له شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع من كتبه، فمن ذلك لما تكلم ابن تيمية على مسألة أن الإنسان قد يجتمع فيه إيمان ونفاق قال:"ولهذا لم يكن المتهمون بالنفاق نوعًا واحدًا، بل فيهم المنافق المحض، وفيهم من فيه إيمان ونفاق، وفيهم من إيمانه غالب وفيه شعبة من النفاق. . . . ومن هذا الباب ما يروى عن الحسن البصري ونحوه من السلف أنهم سموا الفساق منافقين، فجعل أهل المقالات هذا قولًا مخالفًا للجمهور، إذا حكوا تنازع الناس في الفاسق الملي، هل هو كافر؟ أو فاسق ليس معه إيمان؟ أو مؤمن كامل الإيمان؟ أو مؤمن بما معه من الإيمان فاسق بما معه من الفسق؟ أو منافق؟ والحسن رحمه الله لم يقل ما خرج به عن الجماعة"(2).
وفي مناظرة ابن تيمية لابن المرحل (3)، قال ابن المرحل:"الحسن البصري يسمي الفاسق منافقًا، وأصحابك لا يسمونه منافقًا"، فقال ابن تيمية:"بل يسمي منافقًا النفاق الأصغر، لا النفاق الأكبر"(4).
ويتحصل من هذا أن قول الحسن البصري لا يعد مخالفًا لمذهب أهل السنة، فإنه أراد النفاق الأصغر غير المخرج من الملة، وهو نوع من الفسق.
(1) انظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم (1/ 128)(3/ 273 - 275).
(2)
مجموع الفتاوى (7/ 523 - 524).
(3)
هو أبو عبد اللَّه، محمد بن عمر بن مكي بن عبد الصمد، صدر الدين، الشيخ، الإمام، العلامة، ذو الفنون، البارع، ابن المرحل، ويعرف في الشام بابن وكيل بيت المال، مصري الأصل، شافعي المذهب، أحد الأعلام، كانت له ذاكرة عجيبة وفريدة، ولي مشيخة دار الحديث الاشرفية بدمشق سبع سنين، توفي بالقاهرة سنة (716 هـ)، ولما بلغت وفاته شيخ الإسلام ابن تيمية قال:"أحسن اللَّه عزاء المسلمين فيك يا صدر الدين". انظر: شذرات الذهب 6/ 40، الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة 5/ 373، طبقات الشافعية الكبرى 9/ 254.
(4)
مجموع الفتاوى (11/ 140).
الثاني: ذكر أبو الحسن الأشعري في كتابه "مقالات الإسلاميين" خلافًا عن المعتزلة في هل يطلق على السارق فاسق أم لا (1)، وفائدة الخلاف عند المعتزلة أنه إذا أطلق عليه اسم "فاسق" فإنه يكون مخلدًا في النار، خلافًا لمذهب أهل السنة، وبهذا تعلم أن إطلاق لفظ الفسق على السارق لا يعني كفره عند أهل السنة والجماعة، كما هو معتقد الخوارج (2)، ولا أنه بمنزلة بين الكفر والإيمان كما هو معتقد المعتزلة، وإنما هو مؤمن ناقص الإيمان بما ارتكب من الكبيرة، وعلى هذا إجماع أهل السنة والجماعة.
الثالث: ذكر الأشعرية (3) في كتبهم أن فاعل المعصية يسمى فاسقًا، بل نقل التفتازاني (4) الإجماع عليه، لكن لا يعنى هذا أنهم موافقون لمذهب أهل السنة
(1) مقالات إسلاميين (1/ 273).
(2)
نسبة هذا القول إلى الخوارج هو تعبير جماعة من المحققين كشيخ الإسلام ابن تيمية وشارح الطحاوية وغيرهم، ولا يشكل عليه ما ذكره الأشعري في كتابه "مقالات الإسلاميين" عن طوائف من الخوارج كالنجدات وطائفة من الصفرية من القول بعدم كفر مرتكب الكبيرة، فإن النجدات لم ينفوا التكفير بالكبيرة مطلقًا، بل شرطوا له شرطًا وهو الإصرار، ومآل هذا الشرط هو قول جمهور الخوارج، أما الطائفة من الصفرية فإنما قال به نزر منهم، ولذا قولهم شاذ بالنسبة إلى الخوارج ولم يعتد به في نقل الخلاف عنهم، وكذا نُقل خلاف عن الإباضية، وقد بين ابن عبد البر في "التمهيد" (9/ 251) أن مآل الصفرية والإباضية هو قول جمهور الخوارج فقال:"إلَّا أن الصفرية تجعله كالمشرك، وتجعل دار المذنب المخالف لهم دار حرب، وأما الأباضية فتجعله كافر نعمة، ولكنهم يخلدونه في النار إن لم يتب من الكبيرة، ولا يستحلون ماله كما يستحله الصفرية".
(3)
هي فِرقة تنتسب إلى أبي الحسن الأشعري في مذهبه الثاني بعد رجوعه عن الاعتزال وجمهورهم يثبتون سبع صفات فقط، وينفون عن اللَّه علو الذات، ويقولون إن الإيمان هو التصديق، ويقولون بالجبر في القدر. انظر: الملل والنحل للشهرستاني 1/ 93، مذاهب الإسلاميين لعبد الرحمن بدوي 1/ 487.
(4)
هو مسعود بن عمر بن عبد اللَّه، الملقب بسعد الدين، التفتازاني، الفقيه الشافعي، الأشعري معتقدًا، الأصولي، المفسر، ومن أئمة العربية والبيان والمنطق، له مصفات منها: تهذيب =
والجماعة في هذا الباب، فإنهم يرون أن فاعل المعصية يطلق عليه اسم "فاسق" لكنه مع ذلك هو كامل الإيمان، فهم مرجئة في هذا الباب، وإنما يجيزون تسميته بالفاسق لما نقصه عندهم من شرائع الإسلام، لا أن الإيمان ينقص بما ارتكبه من الفسق كما هو مذهب أهل السنة والجماعة.
والتحقيق في هذا المقام أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية كما أجمع عليه أهل السنة والجماعة، ونصوص الكتاب والسنة مستقرة في تحصيل ذلك، كما قال تعالى:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4)} (1).
وقال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124)} (2)، وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(الإيمان بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا اللَّه، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)(3)، وليس الكتاب موضع بحث في هذه المسألة وإنما أردت الإشارة والتنبيه، واللَّه ولي التوفيق.
النتيجة:
لم أجد من خالف في المسألة من أهل السنة، لذا يظهر لي -واللَّه أعلم- أن المسألة محل إجماع عند أهل السنة والجماعة.
= المنطق، وشرح العقائد النسفية، ولد بتفتازان من بلاد خراسان سنة 712 هـ، ثم رحل إلى سرخس، وأقام بها حتى أبعده تيمورلنك إلى سمرقند، فجلس فيها للتدريس والتأليف، وانتهت إليه علوم البلاغة والكلام والمنطق بالمشرق، وبقي في سمرقند حتى توفي بها سنة (793 هـ)، ثم نقل إلى سرخس فدفن بها. انظر: شذرات الذهب 6/ 319، الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة 6/ 112، الأعلام 7/ 219.
(1)
سورة الفتح، آية (4).
(2)
سورة التوبة، آية (124).
(3)
صحيح البخاري (رقم: 9)، صحيح مسلم (رقم: 35).