الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث مسائل الإجماع فيما يوجب حد البغاة
[19/ 3] المسألة التاسعة عشرة: الدم المصاب بتأويل القرآن هدر
.
• المراد بالمسألة: لو خرج البغاة على إمام بتأويل سائغ، ولهم منعه، فإن من قُتل من أهل العدل حال القتال فدمه هدر لا ضمان فيه.
ويتبين مما سبق أن البغاة إن لم تكن لهم منعه، أو لم يكن لهم تأويل سائغ، أو كان الدم الذي أراقوه في غير الحرب، فكل ذلك غير مراد في مسألة الباب.
• من نقل الإجماع: المسألة حكاها جمع من أهل العلم على أنها إجماع من الصحابة رضوان اللَّه تعالى عليهم:
قال الكاساني (587 هـ): "الباغي إذا أصاب شيئًا من ذلك -أي الدماء-، أو الجروح، أو الأموال من أهل العدل فقد اختلفوا فيه، قال أصحابنا: إن ذلك موضوع، وقال الشافعي رحمه الله: إنه مضمون. . . ولنا: ما روي عن الزهري أنه قال: "وقعت الفتنة وأصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم متوافرون، فاتفقوا أن كل دم استحل بتأويل القرآن فهو موضوع، وكل مال استحل بتأويل القرآن فهو موضوع، وكل فرج استحل بتأويل القرآن فهو موضوع" ومثله لا يكذب، فانعقد الإجماع من الصحابة رضي الله عنهم على ما قلنا"(1). وقال الموفق ابن قدامة (620 هـ): "وليس على أهل البغي أيضًا ضمان ما أتلفوه حال الحرب، من نفس ولا مال، وبه قال أبو حنيفة، والشافعي في أحد قوليه. وفي الآخر: يضمنون ذلك؛ لقول أبي بكر لأهل الردة: تدون قتلانا، ولا ندي قتلاكم. . . فأما قول أبي بكر رضي الله عنه فقد رجع عنه، ولم يمضه، فإن عمر قال له: أما أن يدوا
(1) بدائع الصنائع (7/ 141).
قتلانا فلا، فإن قتلانا قتلوا في سبيل اللَّه تعالى، على ما أمر اللَّه. فوافقه أبو بكر، ورجع إلى قوله، فصار أيضًا إجماعًا حجةً لنا" (1).
وكذا قال شمس الدين ابن قدامة (682 هـ) نفس أحرف ابن قدامة (2).
• مستند الإجماع: استدل لمسألة الباب بأدلة منها:
1 -
• وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى أمر بقتال الفئة الباغية حتى ترجع عن بغيه، ولم يذكر سبحانه ضمان ما أتلف من مال أو نفس.
2 -
أن هذا إجماع الصحابة رضوان اللَّه تعالى عليهم، فإنهم في قتال الجمل وصفين لم يضمن أحد للآخر ما قتل، وقد أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه عن ابن شهاب الزهري أنه قال:"هاجت الفتنة وأصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم متوافرون، فاجتمع رأيهم على أنه لا يقاد، ولا يودى ما أصيب على تأويل القرآن، إلا مال يوجد بعينه"(4).
وأخرجه البيهقي عن الزهري بلفظ: "كتب إليه سليمان بن هشام يسأله عن امرأة فارقت زوجها وشهدت على قومها بالشرك ولحقت بالحرورية، فتزوجت فيهم ثم جاءت تائبة.
قال فكتب إليه الزهري وأنا شاهد: أما بعد، فإن الفتنة الأولى ثارت وفي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ممن شهد بدرًا، فرأوا أن يهدم أمر الفتنة، لا يقام فيها حد على أحد في فرج استحله بتأويل القرآن، ولا قصاص في دم استحله بتأويل
(1) المغني (9/ 9).
(2)
انظر: الشرح الكبير (10/ 62).
(3)
سورة الحجرات، آية (9).
(4)
مصنف ابن أبي شيبة (6/ 439)
القرآن، ولا مال استحله بتأويل القرآن، إلا أن يوجد شيء بعينه، وإني أرى أن تردها إلى زوجها وتحد من قذفها" (1).
3 -
من النظر: أن ترك تضمينهم لما أراقوه أدعى لتوبتهم؛ فإن القول بتضمينهم قد يؤدي إلى تنفيرهم عن التوبة والعود إلى الطاعة، ويكون ذلك حاملًا لهم على التمادي فيما هم فيه (2).
• المخالفون للإجماع: خالف جماعة من أهل العلم لمسألة الباب فذهبوا إلى أن الباغي يضمن ما أراقه من دماء أهل العدل، وهو قول للشافعي (3)، ورواية عن الإمام أحمد (4)، وبه قال بعض الظاهرية منهم ابن حزم (5).
• دليل المخالف: يدل على مسألة الباب الأثر والنظر:
1 -
أما الأثر: فما ذكره ابن حزم بأن هذا هو حكم علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" عن حميد بن هلال (6) عن أبيه (7) قال: "لقد أتيت الخوارج وإنهم لأحب قوم على وجه الأرض إلي، فلم أزل فيهم حتى اختلفوا، فقيل لعلي بن أبي طالب: قاتلهم، فقال: لا، حتى يَقْتُلوا،
(1) سنن البيهقي الكبرى (8/ 175).
(2)
انظر: المغني (9/ 9)، كشاف القناع (6/ 165).
(3)
انظر: مغني المحتاج (5/ 403).
(4)
انظر: الإنصاف (10/ 317).
(5)
انظر: المحلى (11/ 346 - 347).
(6)
هو أبو نصر، حميد بن هلال بن سويد بن هبيرة، العدوي، البصري، ثقة، عالم، من صالحي أهل البصرة، روى عن أبي برزة وأنس وعبد اللَّه بن مغفل رضي الله عنهم، وثقه النسائي وابن معين والقطان، مات في ولاية خالد بن عبد اللَّه على العراق. انظر: الطبقات الكبرى 7/ 231، سير أعلام النبلاء 9/ 373، تهذيب التهذيب 3/ 45.
(7)
هو أبو المعلى -ويقال أبو ظلال-، هلال بن سويد بن هبيرة، ويقال: هلال بن سويد الأحمري، ضعفه جماعة من أهل العلم، وقال عنه ابن كثير أنه واه وذكره بن حبان في الثقات. انظر: الثقات لأن حبان 5/ 505، سير أعلام النبلاء 17/ 47، لسان الميزان 6/ 201.
فمر بهم رجل استنكروا هيئته، فثاروا إليه، فإذا هو عبد اللَّه بن خباب، فقالوا: حدثنا ما سمعت أباك يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال: سمعته يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (تكون فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي، والساعي في النار) قال: فأخذوه وأم ولده فذبحوهما جميعًا على شط النهر، فلقد رأيت دماهما في النهر كأنهما شراكان، فأخبر بذلك علي بن أبي طالب، فقال: أقيدوني من ابن خباب؟ قالوا: كلنا قتلناه، فحينئذ استحل قتالهم، فقتلهم" (1).
قال ابن حزم بعد نقله لهذا الأثر: "فهذا أثر أصح من أثر الزهري، أو مثله، بأن علي بن أبي طالب رأى القود على الخوارج فيمن قتلوه بتأويل القرآن"(2).
2 -
ما أخرجه البيهقي وابن أبي شيبة ولفظه: "عن طارق بن شهاب قال: جاء وفد بُزاخة أسد وغطفان إلى أبي بكر رضي الله عنه يسألونه الصلح، فخيرهم أبو بكر رضى اللَّه عنه بين الحرب المُجْلِية أو السلم المُخْزِية، فقالوا: هذا الحرب المجلية قد عرفنا، فما السلم المخزية، قال أبو بكر رضي الله عنه: تؤدون الحلقة والكراع، وتتركون أقوامًا تتبعون أذناب الإبل، حتى يري اللَّه خليفة نبيه والمسلمين أمرًا يعذرونكم به، وتدون قتلانا ولا ندي قتلاكم، وقتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، وتردون ما أصبتم منا، ونغنم ما أصبنا منكم"(3).
• وجه الدلالة: قول أبي بكر رضي الله عنه في الأثر: "وتدون قتلانا ولا ندي قتلاكم"، حيث قضى أبو بكر رضي الله عنه بأن على البغاة دية قتلاهم.
(1) مصنف عبد الرزاق (10/ 118).
(2)
المحلى (11/ 346).
(3)
مصنف ابن أبي شيبة (7/ 595)، سنن البيهقي (8/ 183).