الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يدخل قلوبهم من شيء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(قولوا سمعنا وأطعنا وسلَّمنا) قال: فألقى اللَّه الإيمان في قلوبهم، فأنزل اللَّه تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (1)، قال:"قد فعلت"، (2){رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} ، قال:"قد فعلت"، {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (3)، قال:"قد فعلت"(4).
2 -
عموم حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: (إن اللَّه تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)(5).
النتيجة:
لم أجد من خالف في المسألة، لذا يظهر لي -واللَّه أعلم- أن المسألة محل إجماع بين أهل العلم.
[128/ 4] المسألة الثامنة والعشرون بعد المائة: إجراء الأحكام الظاهرة على من أظهر الإسلام ولو أسر الكفر
.
• المراد بالمسألة: وأن شخصًا يدَّعي أنه مسلم، وكان ملتزمًا بأحكام الإسلام الظاهرة، وكان في ظاهره مبطنًا للكفر، وهو ما يسمى بالمنافق، فإنه تجرى عليه الأحكام الظاهرة للمسلم، من عصمة ماله ودمه، وكونه يرث من المسلم، ويرث منه المسلم، ويُغسَّل إذا مات، ويكفَّن، ويصلى عليه، وما إلى ذلك من أحكام المسلم، ما لم يظهر منه ما يدل على كفره.
ويتبين مما سبق أنه لو كان مظهرًا ما هو كفر في مسألة ما، وكان ملتزمًا ببقية شرائع الإسلام الظاهرة فذلك غير مراد في مسألة الباب، وكذا لو كُشف
(1) سورة البقرة، آية (286).
(2)
سورة البقرة، آية (286).
(3)
سورة البقرة، آية (286).
(4)
صحيح مسلم (رقم: 126).
(5)
ابن ماجه (رقم: 2045).
أمره وظهر منه ما هو كفر، ثم أراد التوبة فأظهر الإسلام وأبطن الكفر فمسألة أخرى يذكرها الفقهاء في استتابة الزنديق وتوبته.
كما يتبين مما سبق أن الكلام هو في إجراء الأحكام الظاهرة في الدنيا، أما في الآخرة فأمره إلى اللَّه.
• من نقل الإجماع: قال ابن عبد البر (463 هـ): "أجمعوا أن أحكام الدنيا على الظاهر وإلى اللَّه عز وجل السرائر"(1). وقال القرطبي (671 هـ): "أجمع العلماء أن أحكام الدنيا على الظاهر، وأن السرائر إلى اللَّه عز وجل"(2).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (728 هـ): "وقد اتفق العلماء على أن اسم المسلمين في الظاهر يجري على المنافقين؛ لأنهم استسلموا ظاهرًا، وأتوا بما أتوا به من الأعمال الظاهرة، بالصلاة الظاهرة، والزكاة الظاهرة، والحج الظاهر، والجهاد الظاهر، كما كان النبي يجري عليهم أحكام الإسلام الظاهر"(3). وقال ابن حجر (852 هـ): "من أظهر الإسلام أجريت عليه أحكامه الظاهرة، ولو أسر الكفر في نفس الأمر، ومحل الخلاف إنما هو فيمن اطلع على معتقده الفاسد فأظهر الرجوع هل يقبل منه أو لا، وأما من جهل أمره فلا خلاف في إجراء الأحكام الظاهرة عليه"(4). وقال أيضًا: "أجمعوا على أن أحكام الدنيا على الظاهر واللَّه يتولى السرائر"(5).
• مستند الإجماع: يدل على مسألة الباب ما يلي:
1 -
ما أخرجه الشيخان عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: "بعثنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى الحُرَقَة، فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم، فلما غشيناه قال: لا إله إلا اللَّه، فكف الأنصاري،
(1) الاستذكار (2/ 359).
(2)
تفسير القرطبي (12/ 203).
(3)
مجموع الفتاوى (7/ 351).
(4)
فتح الباري (12/ 280).
(5)
فتح الباري (12/ 273).
فطعنته برمحي حتى قتلته، فلما قدمنا بلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال:(يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا اللَّه) قلت: كان متعوذًا، فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم" (1).
وفي لفظ لمسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأسامة: (اقتلته)؟ قال: نعم، قال:(فكيف تصنع بلا إله إلا اللَّه إذا جاءت يوم القيامة) قال: يا رسول اللَّه استغفر لي، قال:(وكيف تصنع بلا إله إلا اللَّه إذا جاءت يوم القيامة) قال: فجعل لا يزيده على أن يقول: (كيف تصنع بلا إله إلا اللَّه إذا جاءت يوم القيامة)(2).
• وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم عاتب أسامة على قتله لمن تلفظ بالشهادة، وجعله ذنبًا، مما يدل على حرمة دمه، مع أن ذاك قاله إلا حين رُفع عليه السلاح لقتله، وهو موضع فيه احتمال شديد على أنه ما قاله إلا خوفًا من السلاح.
2 -
عن المقداد بن عمرو الكندي رضي الله عنه (3) أنه قال لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أرأيت إن لقيت رجلًا من الكفار، فاقتتلنا، فضرب إحدى يدي بالسيف، فقطعها، ثم لاذ مني بشجرة، فقال: أسلمت للَّه، أقتله يا رسول اللَّه بعد أن قالها؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:(لا تقتله)، فقال: يا رسول اللَّه إنه قطع إحدى يدي ثم قال ذلك بعد ما قطعها؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: (لا تقتله، فإن قتلته: فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال)(4).
(1) البخاري، (رقم: 4021)، مسلم، (رقم: 96).
(2)
مسلم (رقم: 96).
(3)
هو المقداد بن عمرو بن ثعلبة بن مالك بن ربيعة القضاعي الكندي البهراني، ويقال له: المقداد بن الأسود؛ لأنه رُبِّي في حجر الأسود بن عبد يغوث الزهري فتبناه، وقيل: بل كان عبدًا له أسود اللون فتبناه، ويقال: بل أصاب دما في كندة، فهرب إلى مكة، وحالف الأسود، شهد بدرًا والمشاهد كله، وثبت أنه كان يوم بدر فارسًا، مات سنة (33 هـ)، وصلى عليه عثمان بن عفان، وقبره بالبقيع. انظر: سير أعلام النبلاء 1/ 385، تهذيب التهذيب 10/ 254، صفة الصفوة 1/ 423.
(4)
صحيح البخاري (رقم: 3794)، وصحيح مسلم (رقم: 95).
• وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى المقداد عن قتل الكافر الذي أعلن إسلامه، مع أن ظاهر حاله أنه ما أسلم على خوفًا من القتل، لكن النبي صلى الله عليه وسلم أجرى عليه حكم الظاهر.
3 -
ما جاء في قصة قسم النبي صلى الله عليه وسلم للذهب الذي أتى به علي رضي الله عنه من اليمن: فقام رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناشز الجبهة، كث اللحية، محلوق الرأس، مشمر الإزار، فقال: يا محمد اتق اللَّه! قال صلى الله عليه وسلم: (ويلك أولست أحق أهل الأرض أن يتقي اللَّه)، ثم ولَّى الرجل، فقام خالد بن الوليد رضي الله عنه، وفي بعض الرويات: عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال: دعني أضرب عنقه يا رسول اللَّه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام:(لعله أن يكون يصلي) قال: وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس بقلبه، قال عليه الصلاة والسلام:(إني لم أُومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم)، ثم نظر إليه وهو مقف فقال:(إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وقراءتكم مع قراءتهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنَّهم قتل عاد)(1).
• وجه الدلالة: في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم امتنع عن قتل ذي الخويصرة؛ لأنه لا يوجد منه ما يدل على كفره صراحةً، بل ظاهره الإسلام، أما أمر الباطن فما دام غير مجزوم بكفره فالأصل أنه مسلم.
4 -
ما أخرجه البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "إن أناسًا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرًا أمِنُّاه وقرَّبناه، وليس إلينا من سريرته شيء، اللَّه يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءًا لم
(1) البخاري، (رقم: 6995)، مسلم، (رقم 1064).