الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
• ثانيًا: من النظر: يمكن أن يعلل بأن تبديل الشرع بالزيادة أو النقص سبيل لإبطال الشرع بأكمله.
النتيجة:
لم أجد من خالف في المسألة، لذا يظهر لي -واللَّه أعلم- أن المسألة محل إجماع بين أهل العلم.
[71/ 4] المسألة الحادية والسبعون: من قال: أنا لا آخذ عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقال: آخذ عن قلبي عن ربي، كفر
.
• المراد بالمسألة: من أنكر أخذ الشرائع عن أنبياء اللَّه تعالى، وزعم أنه يتلقى الوحي عن ربه مباشرة، بأن يلقي اللَّه في قبله الأحكام فيعلم ذلك الشخص بأن هذا الذي وقع في قلبه هي من الأحكام التي أنزلها اللَّه له، فيعمل بمقتضاها، ثم يسند ذلك قائلا: حدثني قلبي عن ربي بكذا، ويستغني بذلك عن الكتاب والسنة، أو عن جملة منها، فكل ذلك كفر مخرج من الملة.
• من نقل الإجماع: قال ابن حجر (852 هـ): "وقد بلغنا عن بعضهم أنه قال: أنا لا آخذ عن الموتى، وإنما آخذ عن الحي الذي لا يموت، وكذا قال آخر: أنا آخذ عن قلبي عن ربي، وكل ذلك كفر باتفاق أهل الشرائع"(1).
• مستند الإجماع: يدل على مسألة الباب ما يلي:
1 -
• وجه الدلالة: أن اللَّه عز وجل أخبر بأن النبي صلى الله عليه وسلم مبلغ عن ربه، وقد سبق تقرير أن الشرع قد تم وكمُل بوفاة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فمن لم يأخذ عن الأنبياء فقد قدح فيهم، وقدح في نبينا صلى الله عليه وسلم من جهة أن فيه تهمة للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه لم يبلغ جميع الشرع.
(1) فتح الباري (1/ 222).
(2)
سورة المائدة، آية (67).
2 -
قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92)} (1).
• وجه الدلالة من الآية والتي قبلها: أن اللَّه عز وجل أمر بطاعته وطاعة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يأمر بطاعة غيره.
4 -
• وجه الدلالة: أن اللَّه عز وجل جعل طاعة أولى الأمر -وهم الأمراء والعلماء كما اختاره الإمام أحمد، وابن تيمية، وابن كثير، وغيرهم (3) - تابعة لطاعة اللَّه تعالى وطاعة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولذا لم يفرد لها لفظ:"أطيعوا" لكونها تابعة غير مستقلة.
فمن زعم أن له أن يشرع بما يلقى في قلبه وتجب طاعته في ذلك فقد كذب الآية.
5 -
قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (4).
• وجه الدلالة: أن اللَّه عز وجل أخبر أن الدين قد كمل بالنبي صلى الله عليه وسلم، فالشرع كله مقرر في الكتاب والسنة.
6 -
عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (قد كان يكون في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي منهم أحد فإن عمر بن الخطاب منهم)(5).
• وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه أخبر عن عمر أنه إن كان ثمة محدث فإن عمر رضي الله عنه منهم، إلا أنه رضي الله عنه لم يكن يحدث عن قلبه في شرائع الإسلام بدون الرجوع لحكم الكتاب والسنة -بخلاف الاجتهاد في مسألة لم يرد بها نص شرعي فهذا باب آخر-.
ولم يكن عمر رضي الله عنه مصيبًا في كل ما يقوله، ويجتهد فيه، ولذا تجد أن ثمة
(1) سورة المائدة، آية (92).
(2)
سورة النساء، آية (59).
(3)
انظر: الفتاوى الكبرى (1/ 89)، تفسير ابن كثير (2/ 345).
(4)
سورة المائدة، آية (3).
(5)
صحيح مسلم (رقم: 2398).
مسائل فيها خلاف بين عمر وأبي بكر، أو عمر وابن عباس -رضي اللَّه عن الجميع-، ولا يلزم أن يكون الحق مع عمر في كل خلاف، بل تارة يصيب فيحصِّل أجرين، وتارة يخطئ فيحصل أجرًا واحدًا.
ويتضح في هذا الحديث جزْم بأنه كان في الأمم قبلنا ملهمون، بينما علق النبي صلى الله عليه وسلم وجودهم في هذه الأمة بـ (إن) الشرطية مع أنها أفضل الأمم؛ وذلك لاحتياج الأمم قبلنا إليهم، واستغناء هذه الأمة عنهم بكمال شرع نبيها ورسالته، فلم يحوج اللَّه الأمة بعده إلى محدث ولا ملهم ولا صاحب كشف ولا منام، فكان هذا التعليق لكمال الأمة واستغنائها لا لنقصها.
7 -
أن في ادعاء تلقي الشرع مما يلقى في القلب استغناءٌ عن الكتاب والسنة؛ اكتفاء بما يزعم أنه ألقي في قلبه، وهذا مما لا شك في كفره، قال ابن القيم:"ومن ظن أنه يستغني عما جاء به الرسول بما يلقى في قلبه من الخواطر والهواجس، فهو من أعظم الناس كفرًا، وكذلك إن ظن أنه يكتفي بهذا تارة وبهذا تارة، فما يلقي في القلوب لا عبرة به ولا التفات إليه إن لم يعرض على ما جاء به الرسول ويشهد له بالموافقة، وإلا فهو من إلقاء النفس والشيطان"(1).
8 -
أن ادّعاء تلقي الشرع عن طريق القلب سبيل لإنكار شرائع الأنبياء، وتشريع أحكام لم ينزلها اللَّه تعالى، ونفي شرائع أمر اللَّه تعالى بها، وهو سبيل إلى إثبات نبوة بعد نبينا صلى الله عليه وسلم، وكل ذلك كفر لا ريب فيه، كما سبق بيانه في المسائل السابقة.
النتيجة:
لم أجد من خالف في المسألة، لذا يظهر لي -واللَّه أعلم- أن المسألة محل إجماع بين أهل العلم.
(1) إغاثة اللهفان (1/ 123).