الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
6 -
من النظر: أن المرتد قد أتلف مالًا ليس له، فوجب عليه ضمانه، قياسًا على المسلم والذمي، وردته لا تبيح له إتلاف أموال الآخرين، قال ابن العربي:"لا إشكال في أن من أتلف شيئًا فعليه الضمان"(1).
النتيجة:
لم أجد من خالف في المسألة، لذا يظهر لي -واللَّه أعلم- أن المسألة محل إجماع بين أهل العلم.
[7/ 4] المسألة السابعة: الزنديق إذا تاب، وقُتل، لم يكن قتْله ظلمًا
.
• المراد بالمسألة: أولًا: تعريف الزنديق لغةً واصطلاحًا:
الزنديق لغةً: قال ابن منظور: "الزِّنْدِيقُ: القائل ببقاء الدهر، فارسي معرب، وهو بالفارسية زَنْدِ كِرَايْ، يقول بدوام بقاء الدهر، والزَّنْدَقةُ: الضِّيقُ، وقيل: الزِّنْدِيقُ منه؛ لأنه ضيّق على نفسه"(2).
وقال الفيروزآبادي: "الزِّنديق -بالكسر-: من الثنوية، أو القائل بالنور والظلمة، أو من لا يؤمن بالآخرة وبالربوبية، أو من يبطن الكفر ويظهر الإيمان، أو هو معرب: زن دين، أي: دين المرأة، جمعه: زنادقة، أو زناديق"(3).
الزنديق في اصطلاح الفقهاء: اختلف أهل العلم في المراد بالزنديق على أقوال، أشهرها قولان:
أحدها: أنه من أظهر الإسلام وأبطن الكفر، وهو المعروف في عصر النبوة بالمنافق، وهذا ما عليه جمهور الفقهاء.
قال ابن قدامة: "والزنديق هو الذي يظهر الإسلام ويستسر بالكفر، وهو المنافق كان يسمى في عصر النبي صلى الله عليه وسلم منافقًا ويسمى اليوم زنديقًا"(4).
(1) أحكام القرآن لابن العربي (3/ 267).
(2)
لسان العرب، مادة:(زندق)، (10/ 147).
(3)
القاموس المحيط، فصل:(الزاي)، (1151).
(4)
المغني (6/ 248).
وقال ابن تيمية: "المنافق: هو الزنديق في اصطلاح الفقهاء الذين تكلموا في توبة الزنديق"(1).
فيكون بين الردة والزندقة عموم وخصوص وجهي يجتمعان في المرتد إذا أخفى كفره وأظهر الإسلام، وينفرد المرتد فيمن ارتد علانية، وينفرد الزنديق فيمن لم يسبق له إسلام صحيح.
والثاني: هو من لا دين له، وبه قال بعض الحنفية، كابن الهمام، وبعض الشافعية (2).
• ثانيًا: صورة المسألة: إذا وُجد مسلم تزندق، على معنى من يظهر الإسلام ويبطن الكفر، ثم ظهر أمره، فلمَّا استتيب أعلن توبته، فقتله الإمام مع توبته، فإن قتله ليس ظلمًا.
• من نقل الإجماع: المسألة ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية (728 هـ) في معرض على كلامه على الحلاج (3)، الذي كان يقول بمقالات كفرية كالحلول والاتحاد، فكان زنديقًا يظهر الإسلام ويبطن الكفر، فلما ظهر أمره حُبِس، فتاب، فقتل مع إعلانه للتوبة، فبيَّن شيخ الإسلام أن قتله مع توبته ليس بظلم فقال: "قول القائل إنه -أي الحلاج- قُتل ظلمًا قول باطل؛ فإن وجوب قتله
(1) الفتاوى الكبرى (3/ 519).
(2)
انظر: فتح القدير (6/ 98)، مغني المحتاج (5/ 437)، فتح الباري (12/ 271).
(3)
هو الحسين بن منصور بن محمي، أبو عبد اللَّه، ويقال: أبو مغيث، الفارسي، الصوفي، وإن جده مجوسيًا، نشأ بتستر، ثم سافر البلدان وكان كثير العبادة والمجاهدة، حتى فُتن بنفسه، وسافر إلى الهند وتعلم السحر، واستغل سحره في إيهام الناس، والدجل عليهم، بمسمى الكرامات، حتى كان طائفة أهل الهند والترك يستغيثون به، حتى تبرأ منه الصوفية لسوء سيرته، وزندقته، ولما ظهر منه من أمور كفرية أباحت دمه، فنسبته طائفة إلى الحلول، وآخرون إلى الاتحادية، مات سنة (309 هـ) بأمر من الإمام أن يُقتل ويصلب. انظر: سير أعلام النبلاء 14/ 314، شذرات الذهب 2/ 253، ميزان الاعتدال 1/ 548.
على ما أظهره من الإلحاد أمر واجب باتفاق المسلمين، لكن لما كان يظهر الإسلام ويبطن الإلحاد إلى أصحابه صار زنديقًا، فلما أخذ وحبس أظهر التوبة، والفقهاء متنازعون في قبول توبة الزنديق، فأكثرهم لا يقبلها، وهو مذهب مالك وأهل المدينة، ومذهب أحمد في أشهر الروايتين عنه وهو أحد القولين في مذهب أبي حنيفة ووجه في مذهب الشافعي، والقول الآخر تقبل توبته، وقد اتفقوا على أنه إذا قتل مثل هذا لا يقال قتل ظلمًا" (1).
• مستند الإجماع: يدل على مسألة الباب ما يفي:
1 -
قول اللَّه تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)} (2).
• وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى شرط مع الإصلاح بيان التوبة، والزنديق لا يمكن تحقق بيان توبته على وجه التمام؛ لأنه في الأصل مظهر للإسلام ومبطن للكفر.
2 -
أن ابن مسعود رضي الله عنه أُتي بناس يزعمون أن مسيلمة نبي، فأرسل إليهم، فجيء بهم، فتابوا، فخلى سبيلهم، إلا رجلًا منهم يقال له ابن النواحة (3).
• وجه الدلالة: أن ابن مسعود رضي الله عنه لم قتل ابن النواحة، ولم يقبل توبتة بناء
(1) مجموع الفتاوى (2/ 483 - 484)، وسبب هذا الكلام من شيخ الإسلام ابن تيمية كان جوابًا لسؤال ورد عليه نصه:"ما تقول أئمة الإسلام في الحلاج، وفيمن قال أنا أعتقد ما يعتقده الحلاج، ماذا يجب عليه؟ ويقول: إنه قتل ظلمًا كما قتل بعض الأنبياء".
(2)
سورة البقرة، آية (160).
(3)
أخرجه أبو داود (رقم: 2762)، قال ابن حجر في "تغليق التعليق"(3/ 291)"هذا إسناد صحيح"، وحسن إسناده الهيتمي في "مجمع الزوائد"(5/ 566)، وصححه ابن حزم أيضًا في المحلى (6/ 409). وأصله عند البخاري ولفظه: عن محمد بن حمزة بن عمرو الأسلمي عن أبيه أن عمر رضي الله عنه بعثه مصدقًا، فوقع رجل على جارية امرأته، فأخذ حمزة من الرجل كفيلًا حتى قدم على عمر، وكان عمر قد جلده مائة جلدة، فصدقهم، وعذره بالجهالة. وقال جرير والأشعث لعبد اللَّه بن مسعود في المرتدين استتبهم، وكفلهم. فتابوا وكفلهم عشائرهم.
على شدة عدائه للإسلام، وأن ظاهر توبته أنها تقية للفلات من العقوبة (1).
3 -
أن حال الزنديق هو إظهار الإسلام وإبطان الكفر، فاستتابته لا فائدة منها؛ لأنه سيظهر الإسلام مرة أخرى، كما هو حاله في الأصل (2).
4 -
إن اللَّه تعالى سن في المحاربين أنهم إن تابوا من قبل القدرة عليهم قُبلت توبتهم، ولا تنفعهم التوبة بعد القدرة عليهم، ومحاربة الزنديق للإسلام بلسانه أعظم من محاربة قاطع الطريق بيده وسنانه؛ فإن فتنة هذا في الأموال والأبدان، وفتنة الزنديق في القلوب والإيمان، فهو أولى ألَّا تقبل توبته بعد القدرة عليه (3).
5 -
أن الزنديق دأبه إبطان الكفر وإظهار الإسلام، وفي تركه بلا قتل تسليطًا له على بقاء نفسه بالزندقة والإلحاد، وكلما قُدر عليه أظهر الإسلام وعاد إلى ما كان عليه (4).
• المخالفون للإجماع: خالف في المسألة جماعة من الفقهاء على أقوال:
القول الأول: أن الزنديق إن قبضه الإمام ثم أعلن التوبة بعد القبض عليه فيباح قتله، أما إن جاء الزنديق قبل القبض عليه وأعلن التوبة فتقبل توبته ولا يباح قتله، وهو قول عند المالكية (5)، والشافعية (6).
القول الثاني: قبول توبة الزنديق ومنع قتله، وهو مروي عن علي بن أبي
(1) انظر: شرح معاني الآثار (3/ 212).
(2)
انظر: تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام (2/ 279)، كشاف القناع (6/ 177)، إعلام الموقعين (3/ 105).
(3)
انظر: إعلام الموقعين (3/ 105).
(4)
انظر: إعلام الموقعين (3/ 105).
(5)
انظر: المنتقى شرح الموطأ (5/ 281 - 282)، التاج والإكليل لمختصر خليل (8/ 375)، تفسير القرطبي (8/ 208).
(6)
انظر: شرح النووي (1/ 106).
طالب، وابن مسعود رضي الله عنهما (1)، وهو الصحيح من مذهب الشافعية (2)، ورواية عند الحنابلة (3)، اختارها أبو بكر الخلال (4)، وهو ظاهر اختيار الخرقي، وابن قدامة (5).
وذكر المرداوي أنه آخر قولي الإمام أحمد (6)، وحكاه الخطابيُّ عن أكثر العلماء (7)، ونسبه العراقي للجمهور (8).
القول الثالث: نقل ابن حزم عن بعض أهل العلم القول بأنه لا قتل على المنافقين، حتى من اشتهر نفاقه منهم (9).
• دليل المخالف: يظهر مما سبق أن المخالفين على قسمين:
الأول: من يرى عدم قتل الزنديق فيما إذا أظهر التوبة، وهو الذي حكاه الخطابي عن أكثر العلماء.
الثاني: من لا يرى قتل المنافقين أصلًا، وهو ما نقله ابن حزم عن بعض أهل العلم.
(1) المغني (9/ 18).
(2)
انظر: أسنى المطالب (4/ 122)، مغني المحتاج (5/ 438)، شرح النووي (1/ 106).
(3)
انظر: الإنصاف (10/ 332)، كشاف القناع (6/ 177)، دقائق أولي النهى (3/ 398).
(4)
هو أبو بكر، أحمد بن محمد بن هارون بن يزيد البغدادي الخلال، فقيه محدث، شيخ الحنابلة، رحل إلى أقاصي البلاد في جمع مسائل أحمد، وسماعها ممن سمعها من أحمد، وممن سمعها ممن سمعها من أحمد، فنال منها، وسبق إلى ما لم يسبقه إليه سابق، ولم يلحقه بعده لاحق، وكان شيوخ المذهب يشهدون له بالفضل والتقدم، من تصانيفه:"الجامع"، و"العلل"، و"السنة"، وغيرها، ولد سنة (234 هـ)، وتوفي سنة (312 هـ). انظر: تاريخ بغداد 5/ 112، سير أعلام النبلاء 14/ 297، تذكرة الحفاظ 3/ 785.
(5)
انظر: المغني (9/ 18 - 19).
(6)
انظر: الإنصاف (10/ 332).
(7)
انظر: معالم السنن (2/ 11)، جامع العلوم والحكم (88).
(8)
انظر: طرح التثريب (7/ 181).
(9)
المحلى (12/ 127).
أما القسم الأول فيستدلون بأدلة منها:
1 -
قال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38)} (1).
• وجه الدلالة: الآية صريحة بأن توبة الكافر توجب مغفرة ما سلف من الذنوب، والمنافق كافر، فيدخل في عموم الآية.
2 -
• وجه الدلالة: الآية صريحة بأن المنافق إن تاب وأصلح فإنه يدخل في زمرة المؤمنين، مما ينتج عنه تحريم دمه.
3 -
قال تعالى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56)} (3).
• وجه الدلالة: الآية صريحة بأن هؤلاء منافقون يحلفون للنبي صلى الله عليه وسلم من باب التقية، ومع ذلك كف النبي صلى الله عليه وسلم عنهم بما أظهروه من الشهادة، ولم يقاتلهم.
4 -
أن ابن مسعود رضي الله عنه أُتي بناس يزعمون أن مسيلمة نبي، فأرسل إليهم، فجيء بهم، فتابوا، فخلى سبيلهم، إلا رجلًا منهم يقال له ابن النواحة (4).
أما القسم الثاني فاستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم أن ثمة منافقين في عهده، وعدَّ بعضهم لحذيفة بن اليمان، ومع ذلك فلم يقتل واحدًا منهم، ولم يأمر بقتلهم (5).
النتيجة:
يظهر لي -واللَّه أعلم- أن المسألة ليست محل إجماع محقق بين
(1) سورة الأنفال، آية (38).
(2)
سورة النساء، آية (145 - 146).
(3)
سورة التوبة، آية (56).
(4)
أخرجه أبو داود (رقم: 2762).
(5)
انظر: المحلى (12/ 127 - 165).