الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واستتابة المرتد عند المالكية، والشافعية، والحنابلة، على الوجوب، وعند الحنفية، والظاهرية، على الاستحباب (1).
[45/ 4] المسألة الخامسة والأربعون: الزنديق إذا أظهر الزندقة يستتاب كغير الزنديق
.
• المراد بالمسألة: سبق خلاف الفقهاء في المراد بالزنديق على أقوال، أشهرها قولان:
أحدها: أنه من أظهر الإسلام وأبطن الكفر، وهو المعروف في عصر النبوة بالمنافق، وهذا ما عليه جمهور الفقهاء.
قال ابن قدامة: "والزنديق هو الذي يظهر الإسلام ويستسر بالكفر، وهو المنافق كان يسمى في عصر النبي صلى الله عليه وسلم منافقًا ويسمى اليوم زنديقًا"(2).
وقال ابن تيمية: "المنافق هو الزنديق في اصطلاح الفقهاء الذين تكلموا في توبة الزنديق"(3).
فيكون بين الردة والزندقة عموم وخصوص وجهي يجتمعان في المرتد إذا أخفى كفره وأظهر الإسلام، وينفرد المرتد فيمن ارتد علانية، وينفرد الزنديق فيمن لم يسبق له إسلام صحيح.
والثاني: هو من لا دين له، وبه قال بعض الحنفية، كابن الهمام، وبعض الشافعية (4).
• أما صورة المسألة: فلو أن شخصًا تزندق، وظهر للإمام أمره، فإنه يُشرع
(1) انظر: بدائع الصنائع (7/ 134)، شرح مختصر خليل (8/ 65)، تحفة المحتاج (9/ 97)، المغني (9/ 17).
(2)
المغني (6/ 448)، وانظر: تبصرة الحكام بأصول الأقضية ومناهج الأحكام (2/ 279)، حيث قال:"قال مالك رحمه الله: النفاق في عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هو الزندقة فينا اليوم".
(3)
الفتاوى الكبرى (3/ 519).
(4)
انظر: فتح القدير (6/ 98)، مغني المحتاج (5/ 437)، فتح الباري (12/ 271).
للإمام أن يستنيبه حينئذ، فيعرض عليه العودة للإسلام، فإن تاب وإلا طبق فيه حكم الشرع في الزنديق (1).
هذا على الخلاف الذي سبق بيانه في المراد بالزنديق عند الفقهاء (2):
فالجمهور على أنه من أظهر الإسلام وأبطن الكفر، وعليه فمتى ظهر للإمام أن هذا الشخص يبطن الكفر، شرع له استتابته، قبل تطبيق حكم اللَّه تعالى فيه.
ومن قال بأن الزنديق هو من لا دين له، فكذا يشرع للإمام قبل تطبيق حكم اللَّه تعالى فيه أن يستتيبه.
• من نقل الإجماع: قال ابن عبد البر (463 هـ): "أجمعوا أن الزنديق إذا أظهر الزندقة يستتاب كغير الزنديق"(3).
• مستند الإجماع: استدل القائلون بقبول توبة الزنديق بما يلي:
1 -
• وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى ذكر صريحًا قبول توبة المنافقين إذا تابوا وأصلحوا واعتصموا وأخلصوا دينهم للَّه.
2 -
قال اللَّه تعالى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} (5).
3 -
قال اللَّه تعالى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (6).
(1) إنما أُجمل حكم الشرع فيه لما سبق من أن طائفة من أهل العلم لا يرون قتل الزنديق، كما سبق في المسألة الرابعة والثلاثون تحت عنوان:"قتل الزنادقة مشروع".
(2)
انظر: المسألة السابعة: "الزنديق إذا تاب وقتل، لم يكن قتله ظلمًا".
(3)
الاستذكار (2/ 395).
(4)
سورة النساء، آية (145 - 147).
(5)
سورة المجادلة، آية (16).
(6)
سورة المنافقون، آية (2).
• وجه الدلالة من الآيتين: في الآيتين دليل على أن إظهار الإيمان من المنافق يحصن من القتل، يستتاب لكونه إن أظهر الإسلام عصم ماله بنص الآيتين (1).
4 -
استدلوا بالأدلة السابقة في استتابة المرتد، فجعلوا الزنديق كالمرتد.
• المخالفون للإجماع: المخالف في مسألة على أقوال يجمعهما القول بأن الزنديق لا يستتاب:
القول الأول: من لا يرى قتل الزنديق أصلًا، ولا معاقبته بحبس أو غيره، ولذا لا فائدة من الاستتابة، وهذا القول حكاه ابن حزم عن طائفة من أهل العلم (2).
القول الثاني: من يرى وجوب معاقبة الزنديق بالقتل، لكنه لا يستتاب، وهو الأظهر عند الحنفية (3)، وهو مذهب المالكية (4)، والحنابلة (5)، وقول عند الشافعية (6)، ونسبه شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أكثر أهل العلم (7).
القول الثالث: أن توبة الزنديق إن كانت أول مرة فتقبل، وإن تكررت فلا تقبل.
القول الرابع: إن كان الزنديق داعيًا لضلاله فلا تقبل توبته، وإلا فتقبل.
وهذان الأخيران هما وجهان في مذهب الشافعي (8).
• دليل المخالف: أما أصحاب القول الأول الذين لا يرون قتل الزنديق ولا معاقبته فاستدلوا بأن هذا هو فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يعلم أن ثمة منافقين في عهده، وعدَّ بعضهم لحذيفة بن اليمان رضي الله عنه، ومع ذلك فلم يقتل واحدًا منهم، ولم يأمر بقتلهم (9).
(1) انظر: فتح الباري (12/ 273).
(2)
المحلى (12/ 127).
(3)
انظر: فتح القدير (6/ 98).
(4)
انظر: حاشية الدسوقي (4/ 306).
(5)
انظر: نهاية المحتاج (7/ 417).
(6)
انظر: الإنصاف (15/ 332).
(7)
انظر: الفتاوى الكبرى (3/ 481).
(8)
انظر: شرح النووي (1/ 270).
(9)
انظر: المحلى (12/ 127 - 165).
واستدل أصحاب القول الثاني الذين يرون قتل الزنديق بدون استتابة بأدلة منها:
1 -
بقول اللَّه تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)} (1).
• وجه الدلالة: أن الزنديق لا يظهر منه ما يبين التوبة؛ لأن حال الزنديق في الأصل إظهار الإسلام وإبطان الكفر، وإذا استتابه الإمام فإنه ولا بد سيُظهر الإسلام، ويلزم من هذا ألَّا يُقتل الزنديق أبدًا (2).
2 -
أن اللَّه تعالى سن في المحاربين أنهم إن تابوا من قبل القدرة عليهم قبلت توبتهم، ولا تنفعهم التوبة بعد القدرة عليهم، ومحاربة الزنديق للإسلام بلسانه أعظم من محاربة قاطع الطريق بيده وسنانه؛ فإن فتنة هذا في الأموال والأبدان وفتنة الزنديق في القلوب والإيمان، فهو أولى ألا تقبل توبته بعد القدرة عليه.
3 -
أن الزنديق هذا دأبه هو إظهار الإسلام وإبطان الكفر، فلو قبلت توبته كان ذلك إعانة له على بقاء نفسه بالزندقة والإلحاد، وكلما قدر عليه أظهر الإسلام وعاد إلى ما كان عليه، ولا سيما وقد علم أنه أمن بإظهار الإسلام من القتل، فلا يخوفه من المجاهرة بالزندقة والطعن في الدين ومسبة اللَّه ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولا ينكف عدوانه عن الإسلام، إلا بقتله (3).
أما أصحاب القول الثالث والرابع فلم أجد لهم نصًا في الأدلة لكن يمكن أن يقال في الاستدلال للقول الثالث بأن الزنديق إن كانت توبته لأول مرة فاحتمال صدق توبته كبير، ويدخل في عموم أدلة قبول توبة المرتد، أما إن تكررت ردته فإنه فاحتمال كذبه هو الأغلب ويكون استتابته سبيل لترك قتله لأنه سيظهر الإسلام حتمًا.
(1) سورة البقرة، آية (165).
(2)
انظر: المغني (9/ 18).
(3)
انظر: إعلام الموقعين (3/ 105).