الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} (1).
• وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى حكى عن اليهود والنصارى قول الكفر، واستعمال هذا في القرآن كثير، مما يدل على جواز مثل ذلك.
2 -
ما في الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: (للَّه أشد فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه، وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها، قد أيس من راحلته، فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح)(2).
• وجه الدلالة: بين القاضي عياض وجه الدلالة من ذلك فقال: "في قوله: "قال من شدة الفرح. . . إلى آخره" فيه أن ما قاله الإنسان من قبيل هذا من دهش وذهول غير مؤاخذ به وكذلك حكايته عنه على طريق علمي، وفائدة شرعية، لا على الهزء والمحاكاة والعيب لحكاية النبي صلى الله عليه وسلم إياه، ولو كان منكرًا ما حكاه"(3).
3 -
أن حاكي القول لا ينسب القول إليه، بل القول منسوب إلى القائل الأصلي، لا إلى الحاكي.
النتيجة:
لم أجد من خالف في المسألة، لذا يظهر لي -واللَّه أعلم- أن المسألة محل إجماع بين أهل العلم.
[123/ 4] المسألة الثالثة والعشرون بعد المائة: التكفير المطلق لا يلزم منه تكفير المعين إي إذا توفرت الشروط وانتفت الموانع
.
• المراد بالمسألة: تقرر في الشريعة الإسلامية أن ثمة أمورًا ينتقض بها
(1) سورة التوبة، آية (30 - 31).
(2)
صحيح البخاري (رقم: 5949)، وصحيح مسلم (رقم: 2747).
(3)
إكمال المعلم بفوائد مسلم (8/ 245).
الإسلام، ويُحكم على صاحبها بالكفر، إلا أن الحكم بالتكفير المطلق لا يلزم منه تكفير المعين الذي فعل ما يوجب الكفر إلا إذا توفرت فيه شروط التكفير وانتفت موانعه.
فمثلًا: القول بالحلول كفر (1)، لكن من قال بالحلول فإنه لا يُحكم بكفره إلا إذا توفرت فيه الشروط وانتفت الموانع.
أما شروط التكفير وموانعه فهو مما يطول الكلام فيه، لكن أذكره على سبيل الإجمال فيما يلي:
• أولًا: توفر الشروط: لا يتحقق في الشخص المعيَّن أنه كافر بعينه على إذا توفرت فيه شرط التكفير، بلوغ الحجة إليه بأن ذلك الفعل كفر مخرج من الملة.
فيشترط لتكفير المعين قيام الحجة عليه بأن تكون قد بلغته الرسالة، والأدلة على شرطية بلوغ الرسالة كثيرة منها:
1 -
قول اللَّه تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (2).
2 -
قول اللَّه تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)} (3).
3 -
قول اللَّه تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} (4).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "الكتاب والسنة قد دلا على أن اللَّه لا يعذب أحدًا إلا بعد إبلاغ الرسالة، فمن لم تبلغه جملة لم يعذبه رأسًا، ومن بلغته جملة دون بعض التفصيل لم يعذبه إلا على إنكار ما قامت عليه الحجة الرسالية. . . فمن قد آمن باللَّه ورسوله، ولم يعلم بعض ما جاء به الرسول، فلم يؤمن به تفصيلًا، أما
(1) وقد جاء حكاية الإجماع على ذلك في المسألة الحادية والتسعون تحت عنوان: "القائل بالحلول كافر".
(2)
سورة الإسراء، آية (15).
(3)
سورة النساء، آية (165).
(4)
سورة القصص، آية (59).
أنه لم يسمعه، أو سمعه من طريق لا يجب التصديق بها، أو اعتقد معنى آخر لنوع من التأويل الذي يعذر به، فهذا قد جعل فيه من الإيمان باللَّه ورسوله ما يوجب أن اللَّه عليه، وما لم يؤمن به لم تقم عليه به الحجة التي يكفر مخالفها" (1).
• ثانيًا: انتفاء الموانع: لا يُحكم على شخص بالكفر المعيَّن إلا إذا انتفت منه موانع التكفير وهي:
• أولًا: الجهل، فمن كان حديث عهد بإسلام، أو نشأ ببادية، وفعل فعلًا كفريًا مما معلوم من الدين بالضرورة كأن استحل الزنى، فهذا يُعذر الجهل، ولا يُحكم بكفره لقيام المانع فيه، قد حكى ابن تيمية اتفاق الأئمة على ذلك حيث قال:"وكثير من الناس قد ينشأ في الأمكنة والأزمنة الذي يندرس فيها كثير من علوم النبوات، حتى لا يبقى من يبلغ ما بعث اللَّه به رسوله من الكتاب والحكمة، فلا يعلم كثيرًا مما بعث اللَّه به رسوله ولا يكون هناك من يبلغه ذلك، ومثل هذا لا يكفر، ولهذا اتفق الأئمة على أن من نشأ ببادية بعيدة عن أهل العلم والإيمان، وكان حديث العهد بالإسلام فأنكر هذه الأحكام الظاهرة المتواترة فإنه لا يحكم بكفره حتى يعرف ما جاء به الرسول، ولهذا جاء في الحديث: (يأتي على الناس زمان لا يعرفون فيه صلاة ولا زكاة) (2) "(3).
(1) مجموع الفتاوى (12/ 493 - 494).
(2)
أخرحه ابن ماجه (رقم: 4049)، وأخرجه الحاكم في المستدرك (4/ 550) ثم قال:"حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، وقال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (2/ 291):"هذا إسناد صحيح رجاله ثقات"، ونص الحديث: عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: (يُدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب، حتى لا يدري ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة، وليسرى على كتاب اللَّه عز وجل في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس والشيخ الكبير والعجوز يقولون أدركنا آباءنا على هذه الكلمة لا إله إلا اللَّه فنحن نقولها).
فقال له صلة: ما تغني عنهم لا إله إلا اللَّه وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة؟ فأعرض عنه حذيفة، ثم ردها عليه ثلاثًا، كل ذلك يعرض عنه حذيفة، ثم أقبل عليه في الثالثة، فقال: يا صلة تنجيهم من النار -ثلاثًا-.
(3)
مجموع الفتاوى (11/ 407).
ولذا كان شيخ الإسلام ابن تيمية في مناظراته يقول: "كنت أقول للجهمية من الحلولية والنفاه الذين نفوا أن اللَّه تعالى فوق العرش لما وقعت محنتهم: أنا لو وافقتكم كنت كافرًا، لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون لأنكم جهال"(1).
وحكى ابن حزم أنه لا خلاف أن المرء يعذر بالجهل حيث قال: "ولا خلاف في أن امرءًا لو أسلم، ولم يعلم شرائع الإسلام، فاعتقد أن الخمر حلال، وأن ليس على الإنسان صلاة، وهو لم يبلغه حكم اللَّه تعالى لم يكن كافرًا بلا خلاف يعتد به، حتى إذا قامت عليه الحجة، فتمادى، حينئذ بإجماع الأمة فهو كافر"(2).
ومن أدلة العذر بالجهل:
1 -
ما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أسرف رجل على نفسه، فلما حضره الموت أوصى بنيه فقال: إذا أنا مت فأحرقوني، ثم اسحقوني، ثم اذروني في الريح في البحر؛ فواللَّه لئن قدر علي ربي ليعذِّبني عذابًا ما عذبه به أحد، قال: ففعلوا ذلك به، فقال للأرض: أدِّي ما أخذت، فإذا هو قائم، فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: خشيتك يا رب -أو قال: مخافتك- فغفر له بذلك)(3).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فهذا الرجل ظن أن اللَّه لا يقدر عليه إذا تفرق هذا التفرق، فظن أنه لا يعيده إذا صار كذلك، وكل واحد من إنكار قدرة اللَّه تعالى، وإنكار معاد الأبدان وإن تفرقت كفر، لكنه كان مع إيمانه باللَّه وإيمانه بأمره وخشيته منه جاهلًا بذلك، ضالًا في هذا الظن مخطئًا، فغفر اللَّه له ذلك، والحديث صريح في أن الرجل طمع أن لا يعيده إذا فعل ذلك، وأدنى هذا أن يكون شاكًا في
(1) الرد على البكري (2/ 494).
(2)
المحلى (11/ 206).
(3)
صحيح البخاري (رقم: 3294)، وصحيح مسلم (رقم: 2756).
المعاد، وذلك كفر إذا قامت حجة النبوة على منكره حكم بكفره. . . " (1).
وقال في موضع آخر: "فهذا الرجل كان قد وقع له الشك، والجهل في قدرة اللَّه تعالى على إعادة ابن آدم بعدما أحرق وذري، وعلى أنه يعيد الميت ويحشره إذا فعل به ذلك، وهذان أصلان عظيمان:
"أحدهما" متعلق باللَّه تعالى، وهو الإيمان بأنه على كل شيء قدير.
"والثاني": متعلق باليوم الآخر، وهو الإيمان بأن اللَّه يعيد هذا الميت، ويجزيه على أعماله، ومع هذا فلما كان مؤمنًا باللَّه في الجملة، ومؤمنًا باليوم الآخر في الجملة، وهو أن اللَّه يثيب ويعاقب بعد الموت، وقد عمل عملًا صالحًا -وهو خوفه من اللَّه أن يعاقبه على ذنوبه- غفر اللَّه له بما كان فيه من الإيمان باللَّه واليوم الآخر والعمل الصالح" (2).
وقال الخطابي: "قد يستشكل هذا فيقال: كيف يغفر له وهو منكر للبعث والقدرة على إحياء الموتى؟ والجواب أنه لم ينكر البعث دائما جهل فظن أنه إذا فعل به ذلك لا يعاد فلا يعذب، وقد ظهر إيمانه باعترافه بأنه إنما فعل ذلك من خشية اللَّه"(3).
وقال ابن عبد البر: "وأما جهل هذا الرجل المذكور في هذا الحديث بصفة من صفات اللَّه في علمه وقدرته، فليس ذلك بمخرجه من الإيمان. . . " ثم استدل على ذلك بسؤال الصحابة رضي الله عنهم عن القدر ثم قال: "ومعلوم أنهم إنما سألوه عن ذلك وهم جاهلون به، وغير جائز عند أحد من المسلمين أن يكونوا بسؤالهم عن ذلك كافرين، . . . ولم يضرهم جهلهم به قبل أن يعلموه"(4).
وقال ابن حزم بعدما ذكر الحديث: "فهذا إنسان جهل إلى أن مات أن اللَّه
(1) مجموع الفتاوى (11/ 409).
(2)
مجموع الفتاوى (12/ 491).
(3)
نقله عنه ابن حجر في فتح الباري (6/ 522).
(4)
التمهيد (18/ 46).
عز وجل يقدر على جمع رماده وإحيائه، وقد غفر له لإقراره وخوفه وجهله" (1).
وقال ابن القيم في معرض حديثه عن حكم من جحد فرضًا من فرائض الإسلام: "وأما من جحد ذلك جهلًا، أو تأويلًا يعذر فيه صاحبه: فلا يكفر صاحبه به، كحديث الذي جحد قدرة اللَّه عليه، وأمر أهله أن يحرقوه ويذروه في الريح، ومع هذا فقد غفر اللَّه له، ورحمه لجهله، إذ كان ذلك الذي فعله مبلغ علمه ولم يجحد قدرة اللَّه على إعادته عنادًا أو تكذيبًا"(2).
وقال ابن الوزير: "وإنما أدركته الرحمة لجهله وإيمانه باللَّه والمعاد ولذلك خاف العقاب، وأما جهله بقدرة اللَّه تعالى على ما ظنه محالًا فلا يكون كفرًا إلا لو علم أن الأنبياء جاءوا بذلك وأنه ممكن مقدور ثم كذبهم أو أحدًا منهم لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (3)، وهذا أرجى حديث لأهل الخطأ في التأويل"(4).
2 -
ومن الأدلة أيضًا على العذر بالجهل عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه (5) قال: خرجنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حديثو عهد بكفر -وكانوا أسلموا يوم الفتح- قال: فمررنا بشجرة قلنا: يا رسول اللَّه اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط (6)، وكان للكفار سدرة يعفكون حولها ويعلقون بها أسلحتهم يدعونها ذات أنواط فلما قلنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قال: "اللَّه أكبر قلتم
(1) الفصل في الملل والأهواء والنحل (3/ 140).
(2)
مدارج السالكين (1/ 338 - 139).
(3)
سورة الإسراء، آية (15).
(4)
إيثار الحق على الخلق (349).
(5)
هو أبو واقد الليثي، اختلف في اسمه، فقيل: الحارث بن مالك، وقيل: ابن عوف، وقيل: عوف ابن الحارث، أسلم قديمًا وكان يحمل لواء بني ليث وضمرة وسعد بن بكير يوم فتح مكة وحنين، مات سنة (68 هـ)، وهو ابن 85 سنة. انظر: معجم الصحابة 2/ 42، الإصابة 7/ 455، تهذيب التهذيب 12/ 295.
(6)
ذات أنواط: اسم شجرة بعينها كانت للمشركين، ينوطون بها سلاحهم: أي يعلقونه بها، ويعكفون حولها، وأنواط: جمع نوط، وهو مصدر سمي به المنوط. انظر: غريب الحديث لابن الجوزي (2/ 442).
والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} (1) لتركبن سنن من كان قبلكم) (2).
قال الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب: "لا خلاف في أن الذين نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم لو لم يطيعوه واتخذوا ذات أنواط بعد نهيه لكفروا، وهذا هو المطلوب، ولكن القصة تفيد أن المسلم بل العالم قد يقع في أنواع من الشرك وهو لا يدري عنها فتفيد لزوم التعلم والتحرز. . . وتفيد أيضًا أن المسلم المجتهد إذا تكلم بكلام كفر وهو لا يدري فنبه على ذلك فتاب من ساعته أنه لا يكفر كما فعل بنو إسرائيل والذين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم"(3).
• ثانيًا: الخطأ والنسيان، فمن فعل فعلًا كفريًا خطأ أو نسيانًا فإنه لا يُحكم بكفره لقيام المانع، ويدل على ذلك أدلة منها:
1 -
قول اللَّه تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (4).
وثبت في صحيح مسلم أن اللَّه سبحانه استجاب لهذا الدعاء فقال سبحانه: فقد فعلت (5).
2 -
عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: (إن اللَّه تجاوز عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه)(6).
3 -
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: (للَّه أشد فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه،
(1) سورة الأعراف، آية (138).
(2)
أخرجه أحمد (36/ 226)، والترمذي (رقم: 2180)، والنسائي في السنن الكبرى (رقم: 11185)، وصححه الألباني في تحقيقه على "مشكاة المصابيح"(2/ 282).
(3)
كشف الشبهات (117)
(4)
سورة البقرة، آية (286).
(5)
صحيح مسلم (رقم: 126).
(6)
أخرجه ابن ماجه (رقم: 2045).
وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها، قد أيس من راحلته، فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح) (1).
• ثالثًا: الإكراه، فمن أُكره على الكفر فإنه لا يُحكم بكفره لقيام المانع، ويدل على ذلك قول اللَّه تعالى:{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)} (2)(3).
• رابعًا: التأويل، المراد بالتأويل هنا التأويل السائغ الذي له وجه في لسان العرب، كما قال ابن حجر:"قال العلماء: كل متأول معذور بتأويله ليس بآثم، إذا كان تأويله سائغًا في لسان العرب، وكان له وجه في العلم"(4).
فمن اعتقد ما هو كفر بتأويل سائغ، فإنه لا يحكم بكفره، لقيام المانع، وهذا كمن ينكر الصفات ويتأول نصوص الشرع بتأويلات لها احتمالها في اللغة مثلًا، كمن يؤول صفة اليد بالنعمة، وصفة الغضب بإرادة الانتقام، ونحو ذلك.
قال ابن حزم: "ومن بلغه الأمر عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من طريق ثابتة، وهو مسلم، فتأول في خلافه إياه، أو ردّ ما بلغه بنص آخر، فما لم تقم عليه الحجة في خطئه في ترك ما ترك، وفي الأخذ بما أخذ، فهو مأجور معذور، لقصده إلى الحق، وجهله به، وإن قامت عليه الحجة في ذلك، فعاند، فلا تأويل بعد قيام الحجة"(5).
(1) صحيح البخاري (رقم: 5949)، وصحيح مسلم (رقم: 2747).
(2)
سورة النحل، آية (106).
(3)
وسيأتي تفصيل ذلك في مسألة مستقلة في المسألة السابعة والعشرون بعد المائة تحت عنوان: "لا يكفر من تكلم بالكفر مُكرهًا"
(4)
فتح الباري (12/ 304).
(5)
الفصل في الملل والأهواء والنحل (1/ 92).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والتكفير هو من الوعيد، فإنه وإن كان القول تكذيبًا لما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن قد يكون الرجل حديث عهد بإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة، وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص، أو سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها، وإن كان مخطئًا"(1).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والتكفير هو من الوعيد، فإنه وإن كان القول تكذيبًا لما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن قد يكون الرجل حديث عهد بإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة، وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص، أو سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها، وإن كان مخطئًا"(2).
وقال ابن الوزير: "قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} (3) ويؤيد أن المتأولين غير كفار؛ لأن صدورهم لم تنشرح بالكفر قطعًا، أو ظنًا، أو تجويزًا، أو احتمالًا"(4).
أما التأويل غير السائغ كتأويلات الباطنية لنصوص الشرع فهذا لا يُعذر صاحبه لأنه تكذيب بالشرع جملة، وهي تأويلات ليس لها مسوِّغ من جهة الشرع أو اللغة، كمن يتأوَّل قوله تعالى:{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} (5) بأن المراد بالبقرة هي عائشة رضي الله عنها.
• من نقل الإجماع: قال شيخ الإسلام ابن تيمية (728 هـ): "ثُم إن الإمام أحمد دعا للخليفة وغيره ممن ضربه وحبسه، واستغفر لهم، وحللهم مما فعلوه به من الظلم والدعاء إلى القول الذي هو كفر، ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لم
(1) مجموع الفتاوى (3/ 230 - 231).
(2)
مجموع الفتاوى (3/ 230 - 231).
(3)
سورة النحل، آية (106).
(4)
إيثار الحق على الخلق (395).
(5)
سورة البقرة، آية (67).
يجز الاستغفار لهم؛ فإن الاستغفار للكفار لا يجوز بالكتاب والسنة والإجماع، وهذه الأقوال والأعمال منه ومن غيره من الأئمة صريحة في أنهم لم يكفروا المعينين من الجهمية الذين كانوا يقولون: القرآن مخلوق، وإن اللَّه لا يرى في الآخرة، وقد نُقل عن أحمد ما يدل على أنه كفر به قومًا معينين، فأما أن يذكر عنه في المسألة روايتان ففيه نظر، أو يحمل الأمر على التفصيل فيقال:
من كفره بعينه؛ فلقيام الدليل على أنه وجدت فيه شروط التكفير وانتفت موانعه.
ومن لم يكفره بعينه؛ فلانتفاء ذلك في حقه، هذا مع إطلاق قوله بالتكفير على سبيل العموم.
والدليل على هذا الأصل: الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار" (1).
• مستند الإجماع: يدل على عدم تكفير المعين إلا بتوفر الشروط وانتفاء الموانع ما سبق ذكره من الأدلة في شرط تكفير المعين، والموانع التي بموجبها لا يكفر المعين.
ويضاف إليها أن هذا هو فعل السلف رضي الله عنهم كما بيَّنه شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: "وأيضًا فإن السلف أخطأ كثير منهم في كثير من هذه المسائل واتفقوا على عدم التكفير بذلك، مثل ما أنكر بعض الصحابة أن يكون الميت يسمع نداء الحي، وأنكر بعضهم أن يكون المعراج يقظة، وأنكر بعضهم رؤية محمد ربه. . . وكان القاضي شريح ينكر قراءة من قرأ:{بَلْ عَجِبْتَ} .
ويقول: إن اللَّه لا يعجب؛ فبلغ ذلك إبراهيم النخعي فقال: إنما شريح شاعر يعجبه علمه، كان عبد اللَّه أفقه منه فكان يقول:{بَلْ عَجِبْتَ} .
فهذا قد أنكر قراءة ثابتة وأنكر صفة دل عليها الكتاب والسنة واتفقت الأمة على أنه إمام من الأئمة.
(1) مجموع الفتاوى (12/ 489).