الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ب- من النظر: أن سب النبي صلى الله عليه وسلم كُفر من الذمي، كما هو ردة من المسلم، والكفر المقارن لعقد الذمة لا يمنع عقد الذمة في الابتداء، فالكفر الطارئ لا يرفعه في حال البقاء بطريق أولى (1).
النتيجة:
يظهر لي -واللَّه أعلم- أن المسلم إذا سب النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يقتل بإجماع أهل العلم.
أما الذمي فإن الذي عليه الصحابة رضوان اللَّه تعالى عليهم قتل من سب النبي صلى الله عليه وسلم منهم، ثم حصل خلاف بعد ذلك، والجمهور على قتله، وقد أشار إلى هذا التحصيل شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال:"وتحرير القول فيه: أن الساب إن كان مسلمًا فإنه يكفر ويقتل بغير خلاف. . . وإن كان ذميًا فإنه يقتل أيضًا في مذهب مالك وأهل المدينة. . . وهو مذهب أحمد وفقهاء الحديث"(2).
[48/ 4] المسألة الثامنة والأربعون: حد الساحر القتل
.
• المراد بالمسألة: لو ثبت السحر على شخص مسلم، وكان من السحر الذي يكفر به صاحبه، فإنه يشرع للإمام قتل الساحر، ما لم يتب.
ويتحصل مما سبق أن الساحر لو لم يكن مسلمًا، بأن كان ذميًا مثلًا، فذلك غير مراد في مسألة الباب.
وكذا لو كان السحر من النوع الذي لا يكفر به صاحبه، أو كان الساحر قد تاب من سحره ولو بعد رفعه للإمام فكل ذلك غير مراد في مسألة الباب.
(1) انظر: فتح القدير (6/ 62).
(2)
الصارم المسلول على شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم (1/ 9). وهو كتاب ألَّفه شيخ الإسلام ابن تيمية وذكر مسائل سب النبي صلى الله عليه وسلم، وسب الصحابة، وبين إجماع أهل العلم على كفر المسلم إذا سب النبي صلى الله عليه وسلم، ونقولات أهل العلم في حكاية الإجماع على ذلك، والخلاف في السب إن صدر من ذمي، واستقصى الأدلة في المسألة من القرآن والسنة وكلام الصحابة من بعدهم، وفضل القول في سب الصحابة مع بيان الأدلة ونقولات أهل العلم في ذلك.
• من نقل الإجماع: قال ابن عبد البر (463 هـ) في معرض الاستدلال لترجيح القول بقتل الساحر: "لا مخالف له من الصحابة، إلا عائشة، فإنها لم تر قتل الساحر"(1). قال ابن قدامة (620 هـ): "عن بجالة (2) قال: كنت كاتبًا لجزء بن معاوية (3) عم الأحنف بن قيس (4)، إذ جاءنا كتاب عمر قبل موته بسنة: "اقتلوا كل ساحر، فقتلنا ثلاث سواحر في يوم" (5)، وهذا اشتهر فلم ينكر، فكان إجماعًا"(6).
وقال شمس الدين ابن قدامة (682 هـ): "عن بجالة قال: كنت كاتبًا لجزء بن معاوية -عم الأحنف بن قيس- إذ جاء كتاب عمر قبل موته بسنة: اقتلوا كل ساحر، فقتلنا ثلاث سواحر في يوم، وهذا اشتهر فلم ينكر، فكان إجماعًا"(7).
(1) الاستذكار (8/ 162).
(2)
هو بجالة بن عبدة -ويقال: ابن عبد- التميمي، العنبري، البصري، كاتب جزء بن معاوية، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره، وثقه أبو زرعة الرازي، روى عن عمر بن الخطاب، وعن عبد الرحمن بن عوف، وابن عباس، وجماعة، توفي في حدود الثمانين للهجرة. انظر: الإصابة في تمييز الصحابة 1/ 239، التعديل والتجريح 1/ 441، تهذيب التهذيب 1/ 365.
(3)
هو جزء -وقيل: جزي- بن معاوية بن حصين بن عبادة بن النزال بن مرة بن عبيد بن مقاعس وهو الحارث بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم التميمي السعدي، عم الأحنف بن قيس، قيل: له صحبة، وصحح ابن عبد البر وابن حجر أنه لا صحبة له، ، وكان عاملًا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه على الأهواز، عاش إلى ولاية زياد. انظر: الإصابة في تمييز الصحابة 1/ 479، إكمال الكمال 2/ 81؛ الإصابة 1/ 479.
(4)
هو الأحنف بن قيس بن معاوية بن حصين، أبو بحر التميمي، سيد تميم، أحد من يضرب بحلمه وسؤدده المثل، من سادات التابعين، أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قليل الرواية، ذكره ابن حبان في الثقات، وكان من قواد جيش علي رضي الله عنه يوم صفين، مات بالكوفة سنة (67 هـ). انظر: سير أعلام النبلاء 4/ 86، التعديل والتجريح 1/ 415.
(5)
أخرجه أحمد (3/ 196)، وأبو داود، (رقم: 3043)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (2/ 260).
(6)
المغني (9/ 36).
(7)
الشرح الكبير (10/ 115).
• مستند الإجماع: استدل على مسألة الباب بما يلي:
1 -
• وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى سمى السحر كفرًا، وجعل تركه إيمانا وتقوى، فهو دليل على أن الساحر ارتد عن الإسلام، وكفر، والمرتد حده القتل.
2 -
عن جندب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حد الساحر ضربة بالسيف)(2).
(1) سورة البقرة، آية (102 - 103).
(2)
أخرجه الترمذي (رقم: 1460)، قال الحاكم في "المستدرك" (4/ 401):"حديث صحيح الإسناد"، وقال الذهبي في التلخيص:"صحيح غريب". بينما ضعفه آخرون كابن حزم حيث قال في المحلى (12/ 415): "أما خبر جندب ففي غاية السقوط، ذلك أنه مرسل". وقال ابن حجر في فتح الباري (10/ 236): "في سنده ضعف".
وكذا ضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (3/ 445)؛ وذلك أن في سنده إسماعيل بن مسلم المكي، ترجم له ابن حجر في تهذيب التهذيب (1/ 289) فقال: "إسماعيل بن مسلم المكي، أبو إسحاق البصري، قال عمرو بن علي: كان يحيى وعبد الرحمن لا يحدثان عنه، وقال علي عن القطان: لم يزل مخلطًا كان يحدثنا بالحديث الواحد على ثلاثة ضروب، وقال إسحاق بن أبي اسرائيل عن ابن عيينة: كان إسماعيل يخطئ أساله عن الحديث فما كان يدري شيئًا، وقال أبو طالب عن أحمد: منكر الحديث، وقال ابن معين: ليس بشيء، وقال ابن المديني: لا يكتب حديثه، وقال الفلاس: كان ضعيفًا في الحديث يهم فيه، وكان صدوقًا يكثر الغلط، يحدث عنه من لا ينظر في الرجال، وقال الجوزجاني: واهٍ جدًا، وقال أبو زرعة: ضعيف الحديث، وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث مختلط، وقال البخاري: تركه يحيى وابن مهدي وتركه ابن المبارك، وقال النسائي: متروك الحديث، وقال مرة: ليس بثقة، وقال ابن عدي: أحاديثه غير محفوظة =
3 -
عن بجالة بن عبدة قال: "كنت كاتبا لجزء بن معاوية -عم الأحنف بن قيس-، إذ جاءنا كتاب عمر قبل موته بسنة: اقتلوا كل ساحر، وفرِّقوا بين كل ذي محرم من المجوس، وانهوهم عن الزمزمة (1)، فقتلنا في يوم ثلاثة سواحر. . . الحديث"(2).
4 -
أخرج مالك في الموطأ: "أن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قتلت جارية لها سحرتها، وقد كانت دبرتها، فأمرت بها فقتلت"(3).
5 -
أن القول بقتل الساحر مروي عن جماعة من الصحابة والتابعين، كعثمان بن عفان، وعبد اللَّه وعبيد اللَّه (4) ابنا عمر بن الخطاب، وسالم بن عبد اللَّه (5)،
= إلا أنه ممن يكتب حديثه" اهـ ملخصًا.
ورحج جماعة وفقه على جندب رضي الله عنه منهم الترمذي حيث قال في سننه (4/ 60): "هذا حديث لا نعرفه مرفوعًا إلا من هذا الوجه، وإسماعيل بن مسلم المكي يضعف في الحديث، وإسماعيل بن مسلم العبدي البصري قال وكيع هو ثقة، ويروى عن الحسن أيضا، والصحيح عن جندب موقوف". وكذا قال ابن القيم في الزاد (5/ 57): "الصحيح أنه موقوف على جندب".
وكذا صححه الألباني موقوفا على الحسن كما في السلسلة الضعيفة (3/ 445)، ولفظ الموقوف هو ما أخرجه الحاكم في "مستدرك" (4/ 401) عن الحسن:"أن أميرًا من أمراء الكوفة دعا ساحرًا يلعب بين يدي الناس، فبلغ جندب فأقبل بسيفه واشتمل عليه، فلما رآه ضربه بسيفه، فتفرق الناس عنه، فقال: أيها الناس لن تراعوا إنما أردت الساحر، فأخذه الأمير فحبسه، فبلغ ذلك سلمان فقال: بئس ما صَنَعا لم يكن ينبغي لهذا وهو إمام يؤتم به يدعو ساحرًا يلعب بين يديه ولا ينبغي لهذا أن يعاتب أميره بالسيف".
(1)
الزمزمة في الأصل هي كل كلام لا يُفهم، ولا يتبين معناه، والمراد به هنا كلام يقوله المجوس عند أكلهم بصوت خفي. انظر: المخصص (4/ 444)، لسان العرب، مادة:(زمم).
(2)
أخرجه أحمد (3/ 196)، وأبو داود (رقم: 3043).
(3)
أخرجه مالك في الموطأ (1369).
(4)
هو عبيد اللَّه بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي، أمه أم كلثوم بنت جرول الخزاعية، ولد في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإن عبيد اللَّه من شجعان قريش وفرسانهم، ولما قتل أبو لؤلؤة عمر عمد عبيد اللَّه ابنه هذا إلى الهرمزان وجماعة من الفرس فقتلهم، قتل بصفين مع معاوية رضي الله عنه سنة (36) هـ. انظر: الإصابة 5/ 52، الجرح والتعديل 5/ 326، الأعلام 4/ 195.
(5)
هو أبو عمر -ويقال: أبو عبد اللَّه-، سالم بن عبد اللَّه بن عمر العَدَوِي المدني الفقيهُ، أحد =
وخالد بن المهاجر (1)، وعمر بن عبد العزيز، وعبد الرحمن بن زيد بن الخطاب (2)، وجماعة (3).
• المخالفون للإجماع: ذهب ابن حزم إلى أن الساحر لا يقتل لسحره (4)، وهو مروي عن عائشة رضي الله عنها (5).
• دليل المخالف:
1 -
عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سُحر حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن، فقال: (يا عائشة أعلمت أن اللَّه قد أفتاني فيما استفتيته فيه، أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي، فقال الذي عند رأسي للآخر: ما بال الرجل؟ قال: مطبوب، قال: ومن طبه، قال: لبيد بن أعصم -رجل من بني زريق حليف ليهود كان منافقًا-، قال: وفيم؟ قال: في مشط ومشاقة، قال: وأين؟ قال: في جف طلعة ذكر، تحت
= الفقهاء السبعة، كان شديد الأدمة، خشن العيش، يلبس الصوت ويخدم نفسه، قال مالك:"لم يكن في زمانه أشبه بمن مضى من الصالحين في الفضل والزهد منه"، قال أحمد وإسحاق:"أصح الأسانيد: الزهري عن سالم عن أبيه"، مات سنة (108) هـ. انظر: تهذيب الكمال 10/ 145، وفيات الأعيان 2/ 349، الأعلام 3/ 71.
(1)
هو خالد بن المهاجر بن خالد بن الوليد بن المغيرة بن عبد اللَّه بن عمرو بن مخزوم، وهو حفيد خالد بن الوليد المخزومي، حدَّث عن عمر بن الخطَّاب وابن عباس وابن عمر وغيرهم. انظر: التاريخ الكبير 3/ 170، الثقات لابن حبان 4/ 197، تهذيب التهذيب 3/ 103.
(2)
عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب بن نفيل القرشي العدوي، وأمه لبابة بنت أبي لبابة بن عبد المنذر، أتى به أبو لبابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له:"ما هذا منك يا أبا لبابة"؟ فقال: ابن بنتي يا رسول اللَّه، قال:"ما رأيت مولودًا قط أصغر خلقًا منه"، فحنكه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ومسح رأسه ودعا له بالبركة، قال: فما رؤي عبد الرحمن بن زيد قط في قوم إلا فرعهم طولًا. انظر: تهذيب الكمال 17/ 119، الإصابة 5/ 36، الأعلام 4/ 78.
(3)
انظر: المحلى (12/ 411).
(4)
انظر: المحلى (12/ 419).
(5)
أخرجه أحمد (40/ 154)، وسيأتي نص الأثر مع تخريجه قريبًا عند ذكر أدلة المخالفين في المسألة.
راعوفة، في بئر ذروان، قالت: فأتى النبي صلى الله عليه وسلم البئر حتى استخرجه" (1).
• وجه الدلالة: في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم سُحر، وعرف اللَّه تعالى نبيَّه بمن سحره، ومع ذلك لم يأمر بقتله.
2 -
عن عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا اللَّه وأني رسول اللَّه إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة)(2).
• وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم دم المسلم إلا بإحدى ثلاثة أمور، القتل، والزنى من المحصن، وتارك دينه، والساحر لم يرتكب أحد هذه الأمور الثلاثة فيبقى على الأصل من عصمة دمه (3).
3 -
أن عدم قتل الساحر مروي عن عائشة رضي الله عنها، حيث أخرج أحمد في مسنده أن عائشة رضي الله عنها اشتكت فطال شكواها، فقدم إنسان المدينة يتطبب، فذهب بنو أخيها يسألونه عن وجعها، فقال: واللَّه إنكم تنعتون نعت امرأة مطبوبة، قال: هذه امرأة مسحورة سحرتها جارية لها، قالت: نعم أردتُ أن تموتي فأُعتق، قال: وكانت مدبَّرة، قالت:"بيعوها في أشد العرب ملكة، واجعلوا ثمنها في مثلها"(4).
• وجه الدلالة: أن عائشة رضي الله عنها لم تأمر بقتل من سحرتها، ولذا قال
(1) البخاري (رقم: 5432)، مسلم (رقم: 2189).
(2)
البخاري (رقم: 6484)، مسلم (رقم: 1676).
(3)
انظر: المحلى (12/ 419).
(4)
أخرجه أحمد (40/ 154)، وصححه ابن حزم في المحلى (12/ 415)، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (4/ 291):"رجاله رجال الصحيح"، وقال الحاكم في "المستدرك" (4/ 244):"حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، وسكت عنه الذهبي، وصححه أيضًا الألباني في صحيح الأدب المفرد (68).
ابن عبد البر بعد سياقه الحديث: "فيه أن الساحر لا يُقتل إذا كان عمله من السحر ما لا يَقتل"(1).
النتيجة:
يظهر لي -واللَّه أعلم- أن المسألة ليست محل إجماع محقق بين أهل العلم؛ لثبوت الخلاف فيه عن ابن حزم، وهو مروي عن عائشة رضي الله عنها.
(1) الاستذكار (8/ 159).