الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)} (1)، فصار المتكلم بالكفر بطريق الهزل مرتدًا بعين الهزل لاستخفافه بالدين الحق، لا باعتقاد ما هزل به (2).
النتيجة:
لم أجد من خالف في المسألة، لذا يظهر لي -واللَّه أعلم- أن المسألة محل إجماع بين أهل العلم.
[68/ 4] المسألة الثامنة والستون: من يقول بقدم العالم كفر
.
• المراد بالمسألة: أولًا: تعريف القديم: القديم لغةً: قال ابن منظور: "القِدَمُ: نَقِيضُ الحُدوث، قَدُمَ يَقْدُم قِدَمًا وقَدامةً، وتَقادَمَ، وهو قدِيم، والجمع: قُدماء، وقُدامى، وشيء قُدَامٌ: كقَدِيم"(3).
قال الخليل: "القِدَم: مصدر القديم من كل شيء"(4). وقال الفيومي: "قَدُم: الشيء بالضمْ "قِدَمًا" -وِزان عنب-: خلاف حدث، فهو قديم، وعيب قديم: أي سابق زمانه متقدم الوقوع على وقته"(5).
فالقِدَم: مصدر القديم، وهو بمعنى الحادث، أو المتقدم على غيره.
• القديم في اصطلاح الشرع: قال ابن تيمية: "أما لفظ القديم فهو في اللغة المشهورة، التي خاطبنا بها الأنبياء: يراد به ما كان متقدمًا على غيره تقدمًا زمانيًا، سواء سبقه عدم، أو لم يسبقه"(6).
(1) سورة التوبة، آية (65 - 66).
(2)
انظر: كشف الأسرار شرح أصول البزدوي (4/ 368 - 369).
(3)
لسان العرب، مادة:(قدم)، (12/ 465).
(4)
العين، باب: القاف والدّال والميم معهما، (5/ 122).
(5)
المصباح المنير، مادة:(قدم)، (492 - 493).
(6)
الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (4/ 483).
وقال أيضًا: "اللغة التي نزل بها القرآن فالقديم فيها خلاف المحدث، وهما من الأمور النسبية، فالشيء المتقدم على غيره قديم بالنسبة إلى ذلك المحدث، والمتأخر محدث بالنسبة إلى ذلك القديم، وإن كانا كلاهما محدثين بالنسبة إلى من تقدمهما، وقديمين بالنسبة إلى من تقدماه، ولم يوجد في لغة القرآن لفظ القديم مستعملًا إلا فيما يقدم على غيره، وإن كان موجودًا بعد عدمه"(1).
• القديم في اصطلاح المتكلمين: قال ابن تيمية: "القديم في اصطلاح المتكلمين: هو ما لا أول لوجوده، وما لم يسبقه عدم، فكل ما كان بعد العدم فهو عندهم محدث، وكل ما كان لوجوده ابتداء فهو عندهم محدث، ثم تنازعوا فيما تقدم على غيره، هل يسمى قديمًا حقيقة أو مجازًا؛ على قولين لهم"(2).
ويتحصل مما سبق أن لفظ القديم قد يراد به أحد معنيين:
الأول: قديم باعتبار الذات، وحاصله: الذي ما زال موجودًا ليس لوجوده أول، المتقدم على غيره مطلقًا دون أن يسبقه عدم.
الثاني: قديم باعتبار الزمان: وهو المتقدم على غيره، مع وجود غير آخر متقدم عليه، وهذا يكون مسبوقًا بالعدم. وقد بيَّن هذا التقسيم ابن تيمية فقال: "ولفظ القديم والأزلي فيه إجمال؛ فقد يراد بالقديم الشيء المعين، الذي ما زال موجودًا ليس لوجوده أول.
ويراد بالقديم الشيء الذي يكون شيئًا بعد شيء، فنوعه المتوالي قديم وليس شيء منه بعينه قديمًا، ولا مجموعه قديم، ولكن هو في نفسه قديم بهذا الاعتبار" (3).
والمراد بمسألة الباب هو النوع الأول، بأن العالم لا أول لوجوده، وأنه لم
(1) الصفدية لابن تيمية (2/ 84).
(2)
الصفدية (2/ 84).
(3)
الصفدية (2/ 47).
يُسبق بعدم، وهو قول الملاحدة الفلاسفة الذين يسمون الخالق سبحانه وتعالى العلةَ الأولى، أو مبدأَ الوجود، ويقولون إنه علة تامة للموجودات، والعلة التامة تستلزم معلولها، فهذا العالم قديم بقدم علته، أي أن وجوده لم يُسبق بعدم.
وأول من ابتدع هذا القول أرسطو طاليس (1)، ثم نشرها أبو نصر الفارابي (2)(3).
• ثانيًا: صورة المسألة: فمن قال بأن ذات السماوات، أو الأرض، أو أي فلك من الأفلاك، أي غير ذلك من العالم، أنه قديم بذاته لا أول لوجوده، ولم يسبقه عدم فقوله ذلك كفر.
• من نقل الإجماع: قال ابن حزم (456 هـ) في فصل عقده لجملة من الاعتقادات التي يكفر فيها المخالف قوله: "اتفقوا. . . أن العالم كله مخلوق"(4).
وقال ابن جزي (741): "لا خلاف في تكفير من نفى الربوبية أو الوحدانية. . . أو قال بقدم العالم"(5). وقال القاضي عياض (544 هـ): "من اعترف بإلهية اللَّه ووحدانيته، ولكنه اعتقد أنه غير حي، أو غير قديم، وأنه محدث، أو
(1) هو أرسطو طاليس، فيلسوف يوناني تتلمذ على أفلاطون، وكان يحاضر ماشيًا، سمي هو وأصحابه بالمشائين، من مصنفاته:"الأرغاثون" في المنطق، و"ما بعد الطبيعة"، ولد سنة (384 ق. م)، وتوفي سنة (322 ق. م). انظر: إخبار العلماء بأخبار الحكماء للقفطي (22 - 26)، تاريخ الفلسفة الغربية لجميل صليبا (258، 278، 324، 331).
(2)
هو أبو نصر، محمد بن محمد بن طرخان الفارابي، التركي، الفيلسوف، كان من أعلم الناس بالموسيقى، وكان حاذقًا في الفلسفة، شديد الذكاء، ومن كتبه تفقه ابن سينا، سافر إلى بغداد، وتعلم العربية، ثم اشتغل بالمنطق، وكان يقول بالمعاد الروحاني لا الجثماني، ويخصص بالمعاد الأرواح العالمة لا الجاهلة، وله مذاهب في ذلك يخالف المسلمين والفلاسفة، مات بدمشق سنة (338 هـ) انظر: البداية والنهاية 15/ 257، شذرات الذهب 3/ 355، تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام 25/ 182.
(3)
انظر: الملل والنحل (2/ 148)، الصفدية (1/ 130).
(4)
مراتب الإجماع (267).
(5)
القوانين الفقهية (396).
مصور، أو ادعى له ولدًا، أو صاحبة، أو والدًا، أو متولدًا من شيء، أو كائنًا عنه، أو أن معه في الأزل شيئًا قديمًا غيره، أو أنّ ثم صانعًا للعالم سواه، أو مدبرًا غيره، فذلك كله كفر بإجماع المسلمين" (1)، ونقله عنه ابن حجر (2)، وأبو زيد القيرواني (3).
وحكى ابن تيمية (727 هـ) القول بقدم العالم ثم قال: "وهذا كفر باتفاق أهل الملل: المسلمين، واليهود، والنصارى"(4). وقال البهوتي (1051 هـ): "فمن أشرك باللَّه. . . أو اعتقد قدم العالم، وهو ما سوى اللَّه، أو اعتقد حدوث الصانع جل وعلا، فهو كافر؛ لتكذيبه للكتاب والسنة وإجماع الأمة"(5).
• مستند الإجماع: يدل على مسألة الباب:
1 -
قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (6).
2 -
قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (7).
ونحوها من الآيات الدالة على خلق السماوات والأرض.
• وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى أخبر أن السماوات والأرض مخلوقتان بعد أن لم تكونا موجودتين.
3 -
عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: (كتب اللَّه مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، -قال-: وعرشه على الماء)(8).
(1) الشفا بتعريف حقوق المصطفى (2/ 283).
(2)
فتح الباري (12/ 202).
(3)
انظر: الفواكه الدواني (1/ 94).
(4)
منهاج السنة (1/ 176 - 177).
(5)
كشاف القناع (6/ 170).
(6)
سورة الأعراف، آية (54).
(7)
سورة يونس، آية (3).
(8)
صحيح مسلم (رقم: 2653).
4 -
عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعقلت ناقتي بالباب، فأتاه ناس من بني تميم، فقال:(اقبلوا البشرى يا بني تميم) قالوا: قد بشرتنا فأعطنا، مرتين، ثم دخل عليه ناس من أهل اليمن، فقال:(اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم) قالوا: قد قبلنا يا رسول اللَّه، قالوا: جئناك نسألك عن هذا الأمر، قال:(كان اللَّه ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السموات والأرض)(1). وفي رواية أخرى للبخاري بلفظ: (كان اللَّه ولم يكن شيء قبله)(2).
وأما لفظ: "لم يكن شيء معه" فليس في شيء من كتب السنة، لكن الحديث مخرجه واحد والقصة متحدة، فلا بد أن يكون أحد اللفظين صحيحًا والآخر روي بالمعنى، فمن أهل العلم من مال إلى الرواية الأولى منهم ابن حجر (3)، وأن قوله:"ولم يكن شيء غيره"، هي بمعنى لم يكن شيء معه.
5 -
عن أبي رزين العقيلي قال: قلت: يا رسول اللَّه أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ قال: (كان في عماء، ما تحته هواء وما فوقه هواء، وخلق عرشه على الماء)، قال أحمد بن منيع قال يزيد بن هارون: العماء أي ليس معه شيء (4).
قال المباركفوري: "كأنه قال: كان ولم يكن معه شيء، بل كل شيء كان عدمًا، عمى، لا موجودًا، ولا مدركًا، والهواء الفراغ أيضًا العدم، كأنه قال: كان ولا شيء معه ولا فوق ولا تحت انتهى.
قلت: إن صحت الرواية "عمى" -بالقصر- فلا إشكال في هذا الحديث، وهو حينئذ في معنى حديث "كان اللَّه ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه
(1) البخاري (رقم: 3019).
(2)
البخاري (رقم: 6982).
(3)
انظر: فتح الباري (13/ 410).
(4)
أخرجه أحمد (26/ 108)، والترمذي (رقم: 3109)، وابن ماجه (رقم: 182).
على الماء""(1).
6 -
عن سهيل قال: كان أبو صالح يأمرنا إذا أراد أحدنا أن ينام أن يضطجع على شقه الأيمن ثم يقول: "اللهم رب السماوات ورب الأرض ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين وأغننا من الفقر"، وكان يروي ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم (2).
7 -
أن هذا القول يرده العقل، قال ابن تيمية:"إن هؤلاء يقولون بقدم الأفلاك، وأن ذلك لم يزل قديمًا أزليًا، وما كان قديمًا أزليًا امتنع أن يكون مفعولًا بوجه من الوجوه، ولا يكون مفعولًا إلا ما كان حادثًا، وهذه قضية بدهية عند جماهير العقلاء، وعليها الأولون والآخرون من الفلاسفة، وسائر الأمم، ولهذا كان جماهير الأمم يقولون كل ممكن أن يوجد، وأن لا يوجد، فلا يكون إلا حادثًا"(3).
8 -
الإجماع الحاصل على حدوث العالم، قال أبو الحسن الأشعري:"اعلموا أرشدكم اللَّه أن مما أجمعوا -رحمة اللَّه عليهم- على اعتقاده مما دعاهم النبي إليه ونبههم بما ذكرناه على صحته: أن العالم بما فيه من أجسامه وأعراضه محدث، لم يكن ثم كان، وأن لجميعه محدِثًا واحدًا، اخترع أجناسه وأحدث جواهره وأعراضه، وخالف بين أجناسه"(4).
وقال عبد القاهر البغدادي: "أما الركن الثاني -وهو الكلام في حدوث العالم-: فقد أجمعوا على أن العالم كل شئ هو غير اللَّه عز وجل، وعلى أن
(1) تحفة الأحوذي (8/ 421).
(2)
مسلم (رقم: 2713).
(3)
مجموع الفتاوى (17/ 286).
(4)
رسالة إلى أهل الثغر (209).
كل ما هو غير اللَّه تعالى وغير صفاته الأزلية مخلوق مصنوع، وعلى أن صانعه ليس بمخلوق ولا مصنوع، ولا هو من جنس العالم ولا من جنس شيء من أجزاء العالم" (1).
وقال ابن دقيق العيد: "حدوث العالم من قبيل ما اجتمع فيه الإجماع والتواتر بالنقل عن صاحب الشريعة"(2).
النتيجة:
يظهر لي -واللَّه أعلم- أن المسألة محل إجماع بين أهل السنة والجماعة (3).
(1) الفرق بين الفرق (315).
(2)
إحكام الأحكام (2/ 218).
(3)
تنبيه: بتوهم بعض الناس أن شيخ الإسلام ابن تيمية يقول بقدم العالم، وقد نسب هذا القول لشيخ الإسلام ابن تبمية جماعة منهم:
1 -
أبو بكر الحصني (ت 829) في كتابه "دفع شبه من شبه وتمرد"(ص 60).
2 -
محمد بن زاهد الكوثري (ت 1371) في كتب مها: تعليقاته على كتاب "الأسماء والصفات للبيهقي"(ص 375)، وتعليقاته على كتاب "السيف الصقيل في الرد على ابن زنيل للسبكي"(ص 82 - 74).
3 -
أبو حامد بن مرزوق في كتابه "براءة الأشعريين"(ص 2/ 31).
4 -
منصور عريس، في كتابه "ابن تيمية ليس سلفيًا"(ص 124).
وهذه النسبة لشيخ الإسلام ابن تيمية ليست بصواب، وهي خطأ ناشئ عن خطأ في الفهم لكلام شيخ الإسلام ابن تيمية، فإن ابن تيمية يقول بقدم النوع الزماني لا بقدم الذات، أي أن ثمة مخلوقات قديمة بالنسبة إلى غيرها، مع أنها مخلوقة موجوة من عدم، وثمة أشياء غيرها أقدم منها، ولا يقول بقدم الذات الذي بمعنى أن السماوات مثلًا قديمة لا أول لوجودها ولم يسبقها عدم، ولهذا قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (18/ 226):"قد استقر في الفطر أن كون الشيء المفعول مخلوقًا يقتضي أنه كان بعد أن لم يكن، ولهذا كان ما أخبر اللَّه به في كتابه من أنه خلق السموات والأرض مما يفهم جميع الخلائق أنهما حدثتا بعد أن لم تكونا، وأما تقدير كونهما لم يزالا معه مع كونهما مخلوقين له فهذا تنكره الفطر، ولم يقله إلا شرذمة قليلة من الدهرية، كابن سينا وأمثاله".
وقال أيضًا في مجموع الفتاوى (9/ 181): "الرسل مطبقون على أن كل ما سوى اللَّه محدث مخلوق، كائن بعد أن لم يكن، ليس مع اللَّه شيء قديم بقدمه، وأنه خلق السموات والأرض =