الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول الحالة السياسية
مني العالم الإسلامي على مر التاريخ بحملات عدائية شرسة على البلاد الإسلامية، من قبل أعداء الإسلام الكثيرين الذين يكيدون له المكائد، ويتربصون به الدوائر، وكان أشد تلك الحملات العدائية السافرة التي نخرت في جسم الأمة الإسلامية، وقوضت أركان الدولة الإسلامية، وبددت من وحدتها وتماسكها الحملات التتارية، التي اكتسحت كثيرًا من البلاد الإسلامية
الشرقية في مطلع القرن السابع الهجري، وامتدت حملاتها واعتداءاتها حتى اجتاحت العراق، واستولت على بغداد دار السلام، ومعقل الخلافة الإسلامية في سنة 656 هـ على يد الطاغية التتاري هولاكو، حيث سقطت في أيديهم أول ذلك العام، وعاثوا فيها بالفساد، فسفكوا الدماء، واستباحوا الأعراض، ونهبوا الأموال، وأوقعوا فيها من الخراب والدمار، ما عدَّ من أسوأ الحوادث
والكوارث في تواريخ البلدان (1). فصارت العراق من يومئذٍ في قبضتهم، وولاية من ولايات دولتهم التي عرفت في التاريخ باسم (الدولة المغولية الإيلخانية)(2) وعاصمتها مدينة (تبريز)، وأصبح الحكم في العراق - بعد
(1) انظر الكلام على سقوط بغداد في:
الحوادث الجامعة، ص، 323، دول الإسلام، 2/ 160، البداية والنهاية، 13/ 190، النجوم الزاهرة، 7/ 51، تاريخ العراق بين احتلاين، 1/ 178.
(2)
الإيلخانية: نسبة إلى الإيلخانيين، جمع إيلخان، وهي كلمة مركبة من لفظين هما: إيل، وخان، فإيل بمعنى تابع، وخان بمعنى حاكم، فكان هذا اللقب يطلق على من يلي الحكم في إحدى ولايات الدولة المغولية العظمى، مما يعني تبعيته لها، واصطلح على إطلاق هذا اللقب "الإيلخانيين" على الدولة المغولية الإيلخانية في إيران والعراق منذ عهد هولاكو، وحتى نهاية هذه الدولة. انظر: تاريخ الدولة المغولية، ص، 4، تاريخ العراق بين احتلالين، 1/ 178.
الإسلام - لهذه الدولة الكافرة، التي يقوم حكم سلطانها الطاغية "هولاكو" على القوة والقسوة، والظلم والتسلط، والعداء للإسلام والمسلمين، ثم سلك نهجه في سياسته وحكمه من تولى الحكم بعده من أبنائه وأحفاده (1)، حتى تولى الحكم السلطان الخان (غازان بن أرغون بن أبغا بن هولاكو) في سنة (693 هـ). فتغير مجرى سياسة الدولة في عهده، بسبب دخوله في الإسلام، وإعلانه ذلك في مشهد كبير سنة (694 هـ) وتسمى بـ (محمود) وتلقب بـ (السلطان معز الدين)، ودعى إلى الإسلام ورغب في الدخول فيه، فأسلم بسبب إسلامه ودعوته إلى الإسلام كثير من الأمراء، وكبار رجالات الدولة المغولية، وانتشر الإسلام في أوساط الشعوب التتارية (2).
فكان إسلام هذا السلطان، وكثير من كبار رجالات الدولة المغولية مدعاة إلى تغيير مجرى السياسة المغولية التي كانت سائدة قبل ذلك، والاتجاه للعمل بالأحكام الإسلامية، وإظهار شعائر الإسلام دون غيره من الأديان (3)، كما كان مدعاة إلى أن يقطع السلطان صلته بالدولة المغولية العليا في الصين، ويمتنع من التبعية لها (4).
هذا، وعلى الرغم من هذا التحول في سياسة الدولة، والاتجاه بها إلى العمل بالأحكام الإسلامية، فإن علاقتها بدولة المماليك الإسلامية في مصر والشام لم يطرأ عليها أي تحسن، بل ظلت على عدائها السافر لدولة المماليك كما كانت في العصور السابقة، حيث شنت حملات عسكرية متكررة على بلاد الشام، وكان بعضها بقيادة السلطان نفسه، وقد انتصرت الجيوش المغولية في
(1) انظر: العبر في خبر من غبر، 3/ 372، تاريخ الدولة المغولية، ص، 212، العراق في التاريخ، ص، 552، العراق في عهد المغول الإيلخانيين، ص، 77.
(2)
انظر: الدرر الكامنة، 3/ 213، النجوم الزاهرة، 8/ 212، تاريخ الدولة المغولية، ص، 190، تاريخ العراق بين احتلالين، 1/ 367.
(3)
انظر: تاريخ الدولة المغولية، ص، 213، العراق في التاريخ، ص، 550.
(4)
انظر: تاريخ الدولة المغولية، ص، 192، 212.
بعض هذه الحملات (1)، بينما منيت بالهزيمة في البعض الآخر منها (2).
هذا وعلى الرغم مما وقع في دمشق من الفساد والخراب من الجيوش المغولية حين احتلالهم لها سنة (699 هـ)، فإنه لا يقاس بما وقع في بغداد عند سقوطها على يد الطاغية هولاكو، ولعل ذلك راجع إلى دخول المغول في الإسلام، وتأثيره فيهم (3).
وقد مات هذا السلطان في سنة (703 هـ)(4).
هذا، وما تقدم ذكره كان توطئة للحديث عن العصر الذي يليه، وهو العصر الذي عاش فيه المصنف، حيث عاش في بغداد، في العصور الإسلامية لهذه الدولة المغولية بعد تغير مجرى السياسة فيها، واستبدال الأحكام المغولية الجائرة بالأحكام الإسلامية العادلة، مما كان له الأثر البالغ على تحسن الأحوال في أنحاء الدولة، وخصوصًا العراق، وانتشار الأمن والعدل، والهدوء والاستقرار فترة من الزمان، أعقبه ضعف في الدولة، وتنازع على السلطة أدى إلى إنقسام هذه الدولة المغولية الإيلخانية إلى عدة دويلات، وقيام حكومة مستقلة بالعراق عرفت باسم (الدولة المغولية الجلائرية)، وقد عاصر المصنف عددًا من سلاطين هاتين الدولتين، سآتي على ذكرهم فيما يأتي، مشيرًا باختصار إلى الأحوال السياسية في عصورهم:
(1) كموقعة الخازندار سنة (699 هـ) حيث تم الاستيلاء على دمشق واحتلالها لبضعة أشهر.
انظر: الحوادث الجامعة، ص، 502، البداية والنهاية، 14/ 7، تاريخ الدولة المغولية، ص، 201، تاريخ العراق بين احتلالين، 1/ 386.
(2)
كموقعة "مرج الصفر" وتعرف أيضًا بموقعة "شقحب" سنة (702 هـ) حيث هزم الجيش المغولي هزيمة نكراء، وكان لشيخ الإسلام ابن تيمية دور بارز في هذا الانتصار.
انظر: دول الإسلام، 2/ 209، البداية والنهاية، 14/ 22، تاريخ الدولة المغولية، ص، 210، تاريخ العراق بين احتلالين، 1/ 396.
(3)
انظر: تاريخ الدولة المغولية، ص، 204، تاريخ العراق، 1/ 386.
(4)
انظر: دول الإسلام، 2/ 211، الدرر الكامنة، 3/ 214، شذرات الذهب، 6/ 9.
* السلطان محمد خدا بنده (1) بن أركون بن أبغا بن هولاكو (703 - 716 هـ):
تولى الحكم بعد أخيه المذكور قبله سنة (703 هـ) وكان حسن الإسلام، سليم المعتقد، ثم انتقل بعد بضع سنوات من توليه الحكم، وبتأثير من بعض علماء الشيعة إلى المذهب الشيعي، ودعا إليه في سائر أنحاء الدولة، وعادى أهل السنة، وأمر بعدم الترضي عن الخلفاء الراشدين الثلاثة في الخطبة، فأثار ذلك سخطًا وغضبًا عارمًا في أوساط الدولة؛ لأن الغالبية العظمى من
المسلمين من أهل السنة والجماعة مما أحس معه بالخطر على ملكه، فخفف من دعوته إلى المذهب الشيعي، وذكر بعض المؤرخين: أنه تراجع عنه في آخر سني حكمه، وأمر بالترضي عن الخلفاء الراشدين (2).
وعلى الرغم من هذه الأحداث، فقد شهد عهده بصفة عامة رخاءً واستقرارًا، فإن لم يخل من حركات مناوئة استطاع القضاء عليها (3).
وأما علاقته بدولة المماليك في مصر والشام، فقد ظلت كما هي عليه في عهد أسلافه - مما سبقت الإشارة إليه - حيث شن حملة كبيرة بقيادته لاحتلال بلاد الشام سنة (712 هـ)، لكن حملته هذه منيت بالهزيمة، فعاد أدراجه إلى بلاده (4).
(1) هكذا ذكره عدد من المؤرخين منهم ابن حجر في الدرر الكامنة، 3/ 378، وقال:"وعلى ألسنة العامة خربندا"، وكثير من المؤرخين يذكره أيضا بلفظ "خربندا" وقد أوضح في النجوم الزاهرة، 9/ 238: بأن سبب الاختلاف في ضبط اسمه: أن اسمه
الأصلي الذي سماه به أبوه هو "خربندا" بفتح الخاء المعجمة، وسكون الراء، وفتح الباء الموحدة، وسكون النون ومعناه: عبد الحمار، فلما تولى الملك غير اسمه وسمى نفسه بـ"خدابنده" بالدال المهملة بعدها ألف، ومعناه: عبد الله ونادى في مملكته بأن لا يسمى بغير هذا الاسم".
وقد ذكر بعض المؤرخين أسبابًا أخرى في سبب الاختلاف في اسمه، كما في رحلة ابن بطوطة، 1/ 169، تاريخ العراق بين احتلالين، 1/ 401.
(2)
انظر: البداية والنهاية، 14/ 67، الدرر الكامنة، 3/ 378، تاريخ الدولة المغولية، ص، 214، تاريخ العراق بين احتلالين، 1/ 407.
(3)
تاريخ الدولة المغولية، ص، 219، تاريخ العراق بين احتلالين، 1/ 401، 443.
(4)
انظر: البداية والنهاية، 14/ 57، تاريخ الدولة المغولية، ص، 218، تاريخ العراق بين احتلالين، 1/ 425.
وقد مات هذا السلطان في شهر رمضان سنة (716 هـ)(1).
* السلطان بوسعيد (2) بن محمد خدابنده. (716 - 736 هـ):
تولى الحكم بعد وفاة والده، وكان صغيرًا لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره، فتولى بعض الأمراء تصريف شؤون الدولة حتى استطاع السلطان تولي الأمور بنفسه (3)، وكانت سيرة هذا السلطان سيرة حسنة، حيث كان حسن التوجه الديني، سار على مذهب أهل السنة والجماعة، وأظهر السنة، ورغب غير المسلمين في الدخول في الإسلام، وأقام العدل، وقضى على الكثير من
المنكرات التي كانت شائعة قبل توليه السلطة، وعاقب على ذلك عقوبات رادعة (4)، لكن مع هذا لم تكن الأوضاع الداخلية في البلاد مستقرة طوال فترة حكمه، كاستقرارها في عهود أسلافه، بل ظهر فيها اضطرابات، ونزاعات بين ذوي السلطة في البلاد، وحركات مناوئة للسلطان إلا أنها لم تؤثر كثيرًا على وحدة الدولة وتماسكها (5).
وأما علاقة الدولة في عهد هذا السلطان بدولة المماليك في مصر والشام
(1) انظر: دول الإسلام، 2/ 222، البداية والنهاية، 14/ 67، شذرات الذهب، 6/ 40.
(2)
اسم، وليس بكنية، قال ابن حجر في الدرر الكامنة، 1/ 501:"قال الصفدي: الناس يقولون أبو سعيد بلفظ الكناية، لكن الذي ظهر لي أنه علم ليس في أوله ألف، فإني رأيته كذلك في المكاتبات التي كانت ترد منه إلى الناصر هكذا: بوسعيد".
وكذا قال في النجوم الزاهرة، 9/ 309: إنه اسم وليس بكنية، ولعل مما يؤيد كونه اسمًا وليس بكنية أن الذين ترجموا له فيما اطلعت عليه لم يذكروا له اسمًا حتى يكون هذا كنية، مع الإشارة إلى أن أكثر من ترجم له ذكره بلفظ الكنية "أبو سعيد" لا بلفظ
العلم، كدول الإسلام للذهبي، والبداية والنهاية، وشذرات الذهب، وتاريخ الدولة المغولية، وغيرها.
(3)
انظر: البداية والنهاية، 14/ 67، تاريخ الدولة المغولية، ص، 220، تاريخ العراق بين احتلالين، 1/ 447.
(4)
انظر: البداية والنهاية، 14/ 67، 86، الدرر الكامنة، 1/ 501، النجوم الزاهرة، 9/ 309، تاريخ الدولة المغولية، ص، 220، تاريخ العراق بين احتلالين، 1/ 473.
(5)
انظر: البداية والنهاية، 14/ 81، تاريخ الدولة المغولية، ص، 222، تاريخ العراق بين احتلالين، 1/ 460.