الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقدمة
إن الحمد للَّه نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد اللَّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
• أما بعد:
إن نعم اللَّه على هذه الأمة تترى، وآلاءه لا تعد ولا تحصى، ومما فضلها اللَّه عز وجل به على سائر الأمم، أن جعل إجماع علمائها على أمر من أمور دينها معصوما من الخطأ والزلل؛ ليحفظ اللَّه به الدين، وتبقى هذه الملة ما بقيت السماوات والأرض، لا يضرها كيد الكائدين، ولا تحريف الضالين، ولا انتحال المبطلين (1).
ولا يخفى على أحد مكانة الإجماع، ومنزلته من الدين، فهو المصدر الثالث من مصادر التشريع، منه تؤخذ الأحكام، وبه يعمل الناس، وقد أشار إلى ذلك أئمة الهدى ممن سلف من هذه الأمة، وبيَّنوا عظم شأنه، وخطورة مخالفته، وضرورة معرفته، بل لا يبلغ المجتهد درجة الاجتهاد حتى يكون على دراية ومعرفة به، حتى يقيه من الوقوع في الزلل والشذوذ.
ومما يجلي الموضوع، ويوضح أهميته، أن من العلماء من جعل الإجماع مقدمًا على أخبار الآحاد لتطرق الاحتمال إليها من نسخ، أو تأويل، أو خطأ وأشباهها، وقد بيَّن ذلك أبو محمد بن قتيبة (2) حين قال: [ونحن نقول: إن الحق
(1) ينظر في كون الإجماع من خصائص هذه الأمة: "حجية الإجماع"(ص 45).
(2)
عبد اللَّه بن مسلم بن قتيبة أبو محمد الدينوري القتبي، ولد بالكوفة، وولي قضاء دينور، كان ثقة دينا فاضلا، صدوقا قليل الرواية، شهرته ظاهرة في العلم، ومحله من الأدب لا يحقر، كان لغويا كثير التأليف عالما بالتصنيف، من آثاره:"غريب القرآن"، "غريب الحديث"، "المعارف"، "أدب الكاتب". توفي عام (276 هـ). "لسان الميزان"(3/ 357)، "اللباب في "تهذيب الأنساب" (3/ 15)، "الفهرست" (ص 115).
يثبت عندنا بالإجماع أكثر من ثبوته بالرواية؛ لأن الحديثَ قد تعترضُ فيه عوارضُ من السهو والإغفال، وتدخل عليه الشبه والتأويلات والنسخ، ويأخذه الثقة عن غير الثقة، وقد يأتي بأمرين مختلفين وهما جميعًا جائزان، كالتسليمة الواحدة والتسليمتين، وقد يحضر الصحابي الأمر يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا، ثم يأمر بخلافه ولا يحضره، فينقل لنا الأمر الأول ولا ينقل لنا الثاني؛ لأنه لا يعلمه، والإجماع سليم من هذه الأسباب كلها] (1).
ومما يزيد في خطورة الموضوع، أن من خالف الإجماع القطعي وحاد عنه وهو عالم به، فإنه على خطر في دينه، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (2):[والتحقيق أن الإجماع المعلوم يكفر مخالفه كما يكفر مخالف النص بتركه، لكن هذا لا يكون إلا فيما علم ثبوت النص به، وأما ثبوت الإجماع في مسألة لا نص فيها فهذا لا يقع، وأما غير المعلوم فيمتنع تكفيره](3).
ولذا كان لزامًا على أهل العلم والدين أن يظهروا هذا الدليل، ويعلنوه للناس، حتى لا يقع الزيغ والانحراف عن الجادة الحقة، والطريقة السوية.
ولو نظرنا في اهتمام العلماء بأدلة الشرع، لوجدنا عنايتهم فائقة في الدليلين الأصليين: الكتاب والسنة، فتجد الأدلة مبثوثة في كتبهم، مبسوطة في ثنايا بحوثهم، فكتاب اللَّه محفوظ بحفظ اللَّه له، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وحي من اللَّه، فهو لا ينطق عن الهوى، وقد هيأ اللَّه لها رجالًا كانت لهم عناية فائقة بها، جمعًا
(1)"تأويل مختلف الحديث"(ص 261)، وينظر عبارة للشافعي أكثر اختصارا من هذه في "مناقب الشافعي" للبيهقي (2/ 30).
(2)
أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني، ولد عام (661 هـ) بزَّ على أقرانه حتى فاقهم علما وذكاء وحفظا وشجاعة وزهدا، فكان المقدم فيهم، كثرت تآليفه وفتاويه ورسائله، حتى جُمع جزء منها في (37) مجلدا، جمعها عبد الرحمن القاسم وابنه محمد. توفي عام (728 هـ). "الذيل على طبقات الحنابلة"(2/ 387)، وقد أفرده بالترجمة علماء كثر منهم: ابن عبد الهادي في "العقود الدرية"، والبزار في "الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية"، وينظر:"الجامع لسيرة شيخ الإسلام خلال سبعة قرون".
(3)
"مجموع الفتاوى"(19/ 270)، وينظر في تحرير هذه المسألة:"المنخول"(ص 309)، "الإحكام" للآمدي (1/ 282)، "المحصول"(4/ 298).