الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
غاية الضعف والبعد عن الصواب فلا نظر إليه، ولا التفات عليه، إذا كان ما اعتمد عليه لا يصح نصبه دليلا شرعا، ولا سيما إذا كان مأخذه مما ينقض الحكم بمثله] (1).
المبحث السابع: وقفات وملاحظات مع مناهج العلماء في حكاية الإجماع
هذا المبحث معقود لبيان جملة من الملاحظات والفوائد والتنبيهات التي سجلها الباحث أثناء رحلته مع البحث، تمثل طريقة العلماء في تعاملهم مع الإجماع، وحكايتهم له، وبيان مناهجهم فيه، فإلى بيانها في النقاط التالية:
أولًا: أن مردَّ حكاية الإجماع إلى جملة من العلماء هم الذين اعتنوا به وأكثروا منه، منهم: ابن المنذر، وابن حزم، وابن عبد البر، وابن هبيرة، وابن قدامة، وابن تيمية، ومن عداهم فالغالب عليهم النقل عنهم.
ثانيًا: أن غالب الكتب المذهبية التي تعتني بذكر المذهب، ولا تذكر غيره، لا تنقل الإجماعات المرادة بالمعنى الأصولي، وإذا ذكرت إجماعا فإما أن يكون نقلا عن عالم آخر، أو يراد منه الإجماع المذهبي.
ثالثًا: أن ألفاظ الإجماع متفاوتة في استعمالات العلماء، فليست كلها على درجة واحدة، فأعلاها كلمة [أجمع] وما تصرف منها، ثم [اتفق] وما تصرف منها، ثم ما يُذكر من نفي الخلاف في المسألة (2).
(1)"قواعد الأحكام"(1/ 253).
(2)
أحيانا بعض العلماء يستخدم عبارة غير هذه العبارات الصريحة، لكن يبين أن مقصوده بها الإجماع، وهذه لم أجدها في القسم الذي تمت دراسته، لكن أذكرها للفائدة، فمن هؤلاء إبراهيم النخعي حيث يقول:[ما قلت لكم: كانوا يستحبون، فهو الذي أجمعوا عليه]. أخرجه عنه ابن خيثمة في "تاريخه" كما نقله ابن رجب في "فتح الباري"(5/ 540). وقد =
ويلاحظ أن الكتب المذهبية تستخدم كلمة [اتفاقا] كثيرا، ويقصدون بها الاتفاق المذهبي، وليس الاتفاق المقارن.
رابعًا: قد يَنص العالم على مراده بالإجماع وهذا قليل، منهم ابن هبيرة، وقد لا ينص وهم أكثر العلماء (1).
خامسًا: أما الترمذي:
فلم أجد له إجماعا في الأبواب المدروسة في البحث، وما يذكره البعض من أن مراده حين يقول:[العمل على هذا عند أهل العلم] يقصد به الإجماع، فهذا -كما يظهر للباحث- غير صحيح؛ وذلك لعدة قرائن تظافرت تدل على عدم صحة هذا المقصود، سأذكرها مع بعض الأمثلة على سبيل الاختصار، منها:
الأولى: أنه يحكي هذه العبارة ثم يحكي بعدها خلاف العلماء، أو ينقلها عن غيره ثم يحكي معها الخلاف، وهذه أقوى القرائن؛ إذ لو أراد بها الإجماع لما حكى الخلاف في المسألة.
من أمثلة ذلك:
يقول: [والعمل على هذا عند أهل العلم أن لا يجمع بين الصلاتين إلا في السفر
= يكون مراده بالإجماع إجماع أصحاب ابن مسعود، وقد أشار إلى هذا الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 485) قال:"وإذا قال: "كانوا" فإنما يقصد بذلك أصحاب عبد اللَّه".
(1)
تنبيه: من العلماء من يتبين من استعماله تفريقه بين ألفاظ الإجماع وإن لم ينص على ذلك، فمثلا: النووي يقول: [إذا كانت العين الطاهرة المنتجسة بملاقاة النجاسة مائعة، فينظر: إن كانت لا يمكن تطهيرها؛ كالخل والدبس والعسل والمرق ونحو ذلك، لم يجز بيعها بلا خلاف. . .، ونقلوا فيه إجماع المسلمين]. "المجموع"(9/ 281). وكذلك تقي الدين الحصني في "كفاية الأخيار"(ص 248): [ثم عقد السلم إن كان مؤجلا فلا نزاع في صحته، وفي بعض الشروح حكاية الاتفاق على صحته]. ومثلهم الهيتمي حين يقول: [. . . وأما من يمضي له زمن كذلك فيلزمه أن يتحرى ذلك الوقت ليوقع الطهارة والصلاة فيه، ولا يعفى عن شيء يصيبه. نعم لمالك قول مشهور يجوز الإفتاء والعمل به: أن إزالة النجاسة سنة لا واجبة، فيجوز تقليد هذا القول لكن بشرط أن يلتزم أحكام الطهارة والصلاة على مذهب مالك رضي الله عنه، وإلا جاء تلفيق التقليد، وهو باطل بالاتفاق، بل عبر بعضهم بالإجماع]. "الفتاوى الفقهية الكبرى"(1/ 123).
أو بعرفة، ورخص بعض أهل العلم من التابعين في الجمع بين الصلاتين للمريض، وبه يقول أحمد وإسحاق (1)، وقال بعض أهل العلم: يجمع بين الصلاتين في المطر، وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق، ولم ير الشافعي للمريض أن يجمع بين الصلاتين] (2).
وكذلك يقول: [والعمل على هذا عند أهل العلم قالوا: أحق الناس بالإمامة أقرؤهم لكتاب اللَّه، وأعلمهم بالسنة، وقالوا: صاحب المنزل أحق بالإمامة، وقال بعضهم: إذا أذن صاحب المنزل لغيره فلا بأس أن يصلي به، وكرهه بعضهم وقالوا: السنة أن يصلي صاحب البيت، قال أحمد بن حنبل: وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ولا يؤم الرجل في سلطانه، ولا يجلس على تكرمته في بيته إلا بإذنه"، فإذا أذن فأرجو أن الإذن في الكل، ولم ير به بأسا إذا أذن له أن يصلي به](3).
ويقول أيضا: [على هذا العمل عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم أن لا يخرج أحد من المسجد بعد الأذان إلا من عذر: أن يكون على غير وضوء، أو أمر لا بد منه، ويُروى عن إبراهيم النخعي (4) أنه قال: يخرج ما لم يأخذ المؤذن في الإقامة](5).
ويقول أيضا لما ذكر انصراف النبي صلى الله عليه وسلم عن يمينه وعن يساره بعد انقضاء الصلاة: [وعليه العمل عند أهل العلم أنه ينصرف على أي جانبيه شاء: إن شاء عن
(1) إسحاق بن إبراهيم بن مخلد بن راهويه أبو يعقوب، ولد عام (161 هـ) سيد الحفاظ وشيخ المشرق، قال عنه الإمام أحمد:[لم يعبر الجسر إلى خرسان مثل إسحاق]، قال عن نفسه:[لكأني أنظر إلى مائة ألف حديث في كتبي، وثلاثين ألف أسردها]. توفي عام (238 هـ). "تاريخ بغداد"(6/ 345)، "سير أعلام النبلاء"(11/ 358).
(2)
"جامع الترمذي"(1/ 357).
(3)
المصدر السابق (1/ 460).
(4)
إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود النخعي اليماني ثم الكوفي، أحد الأئمة الأعلام من التابعين، كان بصيرا بعلم ابن مسعود، دخل على عائشة ولم يسمع منها، بل لم يثبت له سماع عن أحد من الصحابة. توفي عام (96 هـ). "سير أعلام النبلاء"(4/ 520)، "تهذيب الأسماء واللغات"(1/ 117).
(5)
"جامع الترمذي"(1/ 398).
يمينه، وإن شاء عن يساره، وقد صح الأمران عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويُروى عن علي بن أبي طالب أنه قال: إن كانت حاجته عن يمينه أخذ عن يمينه، وإن كانت حاجته عن يساره أخذ عن يساره] (1).
ومثال الحالة الثانية: ما ذكره حين قال: [اختلف أهل العلم في المشي إلى المسجد: فمنهم من رأى الإسراع إذا خاف فوت التكبيرة الأولى، حتى ذكر عن بعضهم أنه كان يهرول إلى الصلاة، ومنهم من كره الإسراع واختار أن يمشي على تؤدة ووقار، وبه يقول أحمد وإسحاق، وقالا: العمل على حديث أبي هريرة. وقال إسحاق: إن خاف فوت التكبيرة الأولى، فلا بأس أن يسرع في المشي](2).
الثانية: أنه يورد هذه العبارة في أحايينَ كثيرة في بعض المسائل الخلافية التي الخلاف فيها ظاهر منتشر، يجزم معه القارئ عدم خفائه على الإمام الترمذي.
مثال ذلك: لما أورد حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهض في الصلاة على صدور قدميه". قال بعده: [حديث أبي هريرة عليه العمل عند أهل العلم يختارون أن ينهض الرجل في الصلاة على صدور قدميه](3). ويقصد بهذا عدم شرعيةِ جلسة الاستراحة، والخلاف في هذه المسألة سلفي معروف (4)، بل الترمذي نفسه ذكر قبل هذا الحديث الذي يدل على شرعية جلسة الاستراحة، ثم قال:[العمل على هذا عند بعض أهل العلم](5).
وكذلك لما أورد حديث عبد اللَّه بن زيد (6) في صفة الاستسقاء قال بعده:
(1) المصدر السابق (2/ 99).
(2)
المصدر السابق (2/ 148).
(3)
المصدر السابق (2/ 80).
(4)
خالف في هذه المسألة، وقال بسنية جلسة الاستراحة: مالك بن الحويرث وأبو حميد وأبو قتادة وأبو قلابة وعمرو بن سلمة، وهو قول الشافعي على المشهور عنه، ورواية عن أحمد اختارها أبو بكر والخلال وقال: إن أحمد رجع إليها، وهو قول داود وابن حزم الظاهري. ينظر:"التمهيد" لابن عبد البر (19/ 255)، "المحلى"(2/ 39 - 40)، "المغني"(2/ 212)، "المجموع"(3/ 419 - 420).
(5)
"جامع الترمذي"(2/ 79).
(6)
عبد اللَّه بن زيد بن عاصم بن كعب بن عمرو الأنصاري المازني، يعرف بابن أم عمارة =
[حديث عبد اللَّه بن زيد حديث حسن صحيح، وعلى هذا العمل عند أهل العلم، وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق](1). والخلاف في المسألة قديم معروف (2).
وكذلك لما أورد حديث ابن عباس رضي الله عنهما في قتل اللائط في البهيمة وقتلها معه، قال:[والعمل على هذا عند أهل العلم وهو قول أحمد وإسحاق](3). والخلاف في المسألة مشهور (4).
الثالثة: أنه لو كان مراده الإجماع لما حكى الإجماع صراحة في مواضع متفرقة من كتابه، فلما غاير بين الألفاظ دلَّ على اختلاف المراد (5).
الرابعة: أنه يغاير في استعمال هذه العبارة أحيانا كثيرة فيقول: [عند أكثر أهل العلم] ويقول أيضا: [عند بعض أهل العلم]، مما يتعذر معه حمله على معنى
= ولم يشهد بدرا، وهو الذي قتل مسيلمة الكذاب مع وحشي بن حرب، وكان مسيلمة قد قتل أخاه حبيب بن زيد وقطعه عضوا عضوا، قتل يوم الحرة عام (63 هـ). "الاستيعاب"(3/ 913)، "أسد الغابة"(3/ 250)، "الإصابة"(4/ 98).
(1)
"جامع الترمذي"(2/ 442).
(2)
حديث عبد اللَّه بن زيد الذي أورده الترمذي في هذا الموضع فيه تقديم الصلاة على الخطبة، والقول المخالف - وهو تقديم الخطبة على الصلاة - مروي عن عمر بن الخطاب، وقال به: عبد اللَّه بن يزيد الخطمي وزيد بن أرقم والبراء بن عازب وابن عباس وابن الزبير، وكذلك أبان بن عثمان وهشام بن إسماعيل وعمر بن عبد العزيز وأبو بكر بن محمد ابن حزم وعليه عمل المدينة في القديم وهو قول الليث بن سعد وابن المنذر وابن حزم وهو رواية عند الحنابلة. ينظر:"الإقناع" لابن المنذر (1/ 126)، "المحلى"(3/ 309)، "الاستذكار"(2/ 427)، "المنتقى"(3/ 332)، "المغني"(3/ 338)، "المجموع"(5/ 88)، "الاستسقاء سننه وآدابه"(ص 16).
(3)
"جامع الترمذي"(4/ 56).
(4)
وخالف في مسألة قتل اللائط بالبهيمة أكثر أهل العلم وقالوا يعزر، منهم: ابن عباس والنخعي والشعبي والبتي وعطاء والحكم والثوري وأبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد ومالك والمشهور عند الشافعية ورواية عند الحنابلة. ينظر: "أحكام القرآن" للجصاص (3/ 388)، "فتح القدير"(5/ 265)، "التاج والإكليل"(8/ 392)، "أسنى المطالب"(4/ 126)، "المغني"(12/ 351 - 352)، "الإنصاف"(10/ 178).
(5)
ينظر في إجماعاته على سبيل المثال: (1/ 258)، و (2/ 68)، و (4/ 10، 93).
الإجماع، وهذا أشهر من أن يُمثَّل له.
هذه بعض القرائن التي تدل على عدم قصده بهذه العبارة الإجماع في المسألة، ومعرفة معناها يحتاج إلى استقراء تام لجامعه، حتى يعرف المراد، ويفهم على ما أراد.
سادسًا: أما الإمامان: الشافعي والطبري؛ فلم أجد لهما من الإجماعات إلا القليل، وقد حكى كل واحد منهما ستة إجماعات، ولم ينقلا أو يَنْقل عنهما أحد شيئًا من الإجماعات.
سابعًا: أما ابن المنذر:
فهو بحق إمام أهل الإجماع، وعمدة كثير ممن ينقل الاتفاق، وعنه ينقل المتأخرون، وبكلامه يصدرون، فهو ابن بجدتها، ولا ينبئك مثل خبير، يقول ابن تيمية:[عليه اعتماد كثير من المتأخرين في نقل الإجماع والخلاف. . .](1). ويقول ابن القيم: [وهو من أعلم الناس بالإجماع والاختلاف. . .](2).
وقد حكى خمسين إجماعا، منها أربعون مسألة نقلها عنه العلماء، ونقل هو عن غيره مسألتين فقط.
غالبا ما يحكي الإجماع باللفظ الصريح في كتابه الإجماع، أما في كتاب الإشراف فيقول في الغالب في نفس المسائل المذكورة في كتاب الإجماع:[أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم] وهذا من ورعه واحتياطه في ذكر الإجماع.
أحيانا إذا قال: [أجمع عوام أهل العلم] فإنه يحكي بعدها الخلاف، فهناك مخالفون لكنهم قلة، كما فعل في مسألة: إجارة الأرض بالذهب والفضة.
أحيانا يحكي الإجماع في المسألة، ثم يذكر من خالف فيها من العلماء، كما في مسألة: ملكية ثمر النخل، ومسألة الأخذ بالشفعة للصبي. وهذا ربما يكون راجعا إلى أنه يرى أن مخالفة الواحد والاثنين لا تخرق الإجماع (3).
(1)"مجموع الفتاوى"(21/ 559).
(2)
"الصواعق المرسلة"(2/ 618).
(3)
لم أجد عن ابن المنذر نصا صريحا في أنه يرى هذا المذهب، لكن هذا ظاهر صنيعه، =
يغلب على ظن الباحث أنه لم يؤلف كتاب الإجماع استقلالا، وإنما هو مُسْتل من كتاب الإشراف، حتى إنه سار في ترتيب الإجماعات على ما هو مذكور في الإشراف حذو القذة بالقذة.
ثامنًا: أما ابن عبد البر:
فهو إمام موسوعي، لا يُشَق له غبار في معرفة مواطن الخلاف والإجماع بين العلماء، مشهود له بذلك، حتى عُدت بعض كتبه من نوادر الكتب التي إليها مرد العلم والفقه في الدين (1).
وقد حكى سبعة وأربعين إجماعا، منها عشرون مسألة نقلها عنه غيره، ولم ينقل عن غيره شيئا.
وقد عُرف عنه اهتمامه بحكاية الإجماع ودقة نقله فيه، فهو يُميِّز بين ألفاظ الإجماع، ويُغَاير بينها، إذا لزم الأمر، فإذا قال [أجمعوا على كذا] ليس كما لو قال:[أجمع الفقهاء]، أو [بلا خلاف بين العلماء] ونحوها من العبارات.
من غريب ما يذكر أنه وإن كان إماما مبرزا في العلم، إلا أن أزهد الناس في النقل عنه هم علماء مذهبه، فلا تكاد تجدهم ينقلون عنه إلا قليلا، ولذا حاز قصب السبق في النقل عنه أئمة المذاهب الأخرى.
= وقد أشار إلى هذا المعتني بكتبه وهو الدكتور/ أبو حماد صغير أحمد بن محمد حنيف في "مقدمة الإجماع"(ص 16)، وقبله ابن القيم حيث يقول:[وهذه عادة ابن المنذر أنه إذا رأى قول أكثر أهل العلم حكاه إجماعا]. "تصحيح الفروع"(1/ 465)، "الإنصاف"(2/ 118).
(1)
قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: [ما رأيت في كتب الإسلام في العلم مثل: "المحلى" لابن حزم، وكتاب "المغني" للشيخ موفق الدين]. قال الذهبي معلقا على هذا: [قلت: لقد صدق الشيخ عز الدين، وثالثهما: "السنن الكبير" للبيهقي، ورابعها: "التمهيد" لابن عبد البر، فمن حصَّل هذه الدواوين، وكان من أذكياء المفتين، وأدمن المطالعة فيها، فهو العالم حقا]. "سير أعلام النبلاء"(18/ 193). ونقل هذه العبارة الشيخ/ بكر أبو زيد رحمه الله ثم قال: [قلت: وخامسها وسادسها: مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية، ومؤلفات ابن قيم الجوزية، وهما عندي في الكتب منزلة السمع والبصر، وصدق الشوكاني في قوله: لو أن رجلا في الإسلام ليس عنده من الكتب إلا كتب هذين الشيخين لكفتاه. وسابعها: "فتح الباري" لابن حجر]. "المدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد بن حنبل"(2/ 696).
تاسعًا: ابن حزم:
لا يخفى -كما مر- أن مذهبه لا يرى الاعتداد بالإجماع إلا بالإجماعات القطعية، أو التي وقعت وانتشرت انتشارا ظاهرا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بحيث لا يتخلف عن معرفتها أحد من الصحابة (1).
وقد حكى ثلاثة وخمسين إجماعا، منها ثلاث وثلاثون مسألة نقلها عنه غيره، ولم ينقل عن أحد شيئًا.
كل الإجماعات التي حكاها في كتابه مراتب الإجماع، حكاها بلفظ الاتفاق، دون غيرها من سائر الألفاظ، إلا في مسألتين من مسائل السبق، وهما: إخراج السبق من الإمام، وإخراجه من أحد المتسابقَين، فقد حكاهما بنفي العلم في الخلاف.
من عادته أنه يُحاج المذاهب الأخرى بإجماعات الصحابة ولا يعتد هو بها.
وقد ذكر في خاتمة كتابه المراتب أنه يفرق بين الألفاظ في حكاية الإجماع، فقال:[وليعلم القارئُ لكلامنا، أن بين قولنا لم يجمعوا وبين قولنا لم يتفقوا فرقا عظيما](2) ثم ختم الكتاب ولم يذكر هذا الفرق.
ذكر في كتابه مراتب الإجماع [وإنما ندخل في هذا الكتاب الإجماع التام الذي لا مخالف فيه ألبتة، الذي يعلم كما يعلم أن صلاة الصبح في الأمن والخوف ركعتان، وأن شهر رمضان هو الذي بين شوال وشعبان، وأن الذي في المصاحف هو الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم، وأخبر أنه وحي من اللَّه، وأن في خمس من الابل شاة، ونحو ذلك](3). ولم يلتزم شرطه في الكتاب، ولو التزمه لم يبق من كتابه إلا النزر اليسير من المسائل، بل تجده يحكي الاتفاق في مراتب الإجماع، ويخالفه هو في كتابه المحلى، كما في مسألة: اشتراط الخيار ثلاثة أيام بلياليها.
أو أحيانا ينقل الخلاف هو في المسألة، كما في مسألة: اشتراط المشتري مال الرقيق.
(1) ينظر في تقرير مذهبه: "الإحكام"(4/ 510 - 511).
(2)
"مراتب الإجماع"(ص 274).
(3)
"مراتب الإجماع"(ص 33).
أحيانا ينقل الصورة الصحيحة في المسألة، فيذكر لها قيودا كثيرة مما يتفق عليها العلماء ويحكي فيه الاتفاق، وربما تكثر قيودها حتى تتجاوز صفحة كاملة (1).
عاشرًا: أما ابن هبيرة:
فقد نص في المقدمة على أنه اقتصر في حكاية الاتفاق على المذاهب الأربعة فقال: [. . . رأيت أن أجعل ما أذكره من إجماع مشيرا به إلى إجماع هؤلاء الأربعة](2).
ويظهر أنه مقصوده المشهور في المذاهب، ولذا كثرت مخالفته لروايات مذهبه المذهب الحنبلي، كما في: مسألة العتق في زمن الخيار، والسلم في المكيلات والموزونات، وحمل الثمن على غالب نقد البلد، وبيع أمهات الأولاد، وشراء المصحف، وخيار المجلس في العقود الجائزة.
وقد حكى تسعة وستين إجماعا، منها خمس وعشرون مسألة، نقلها عنه العلماء، ولم ينقل عن غيره إجماعا.
كثيرا ما يحكي الاتفاق في المنهيات بلفظ الكراهة لا التحريم، وأحيانا لا يكون أحد من أهل العلم يقول بالكراهة، كما في مسألة: البيع بعد النداء يوم الجمعة، وبيع العنب ممن يتخذه خمرا، وبيع عسب الفحل.
وربما يتبعها بلفظة تدل على التحريم، فيقول:[اتفقوا على كراهة التسعير للناس، وأنه لا يجوز].
فإما أن يكون مقصوده الكراهة التحريمية، أو يكون من باب الاحتياط في حكاية الإجماع.
الحادي عشر: أما ابن قدامة:
إمام حنبلي بارز، مغنيه أغنى عن كثير من الكتب، وقد حكى مائة وواحد وأربعين إجماعا، منها تسع وثلاثون مسألة نقلها عنه العلماء، ونقل تسعا وعشرين
(1) ينظر مسألة صورة البيع الصحيح في "المراتب"(ص 149).
(2)
"الإفصاح"(1/ 7).
مسألة عن غيره.
لا يجزم بحكاية الإجماع إلا في المسائل الظاهرة المشتهرة، أو التي ينقلها عن غيره، وفي الغالب ينقل عن ابن المنذر.
ما عدا ذلك فإنه ينفي علمه بالخلاف، اتباعا لسنة إمامه الإمام أحمد كما سبق ذكر ذلك عنه.
والحنابلة مرد إجماعاتهم التي ينقلونها -في الغالب- إليه، فمثلا شمس الدين ابن قدامة، وابن مفلح، والبهوتي، والقاسم، وغيرهم لا يتعدون ما يذكره ابن قدامة.
أما شمس الدين ابن قدامة، فلا يخفى أنه نقل كتاب المغني على كتاب المقنع ولم يُضفْ إليه إلا القليل، لكنه نقل إجماعات لم ينقلها الموفق أبو محمد في مغنيه انظر على سبيل المثال:(11/ 34، 49، 130، 175، 289، 375) وكذا (14/ 193، 266، 312).
وكذلك لم ينقل إجماعا ذكره الموفق في مغنيه كما في مسألة: استئجار الأرض التي ماء دائم للزرع والغرس (1).
كثير من الحنابلة ينقل عن شمس الدين؛ لأنه رتب كتابه على ترتيب متأخري الحنابلة فسَهُلَ الرجوع إليه أكثر من الكتاب الأم وهو المغني.
الثاني عشر: أما النووي:
فهو إمام الشافعية في زمانه، وله أثر على المذهب لا ينكر، وقد حكى اثنين وسبعين إجماعا، منها عشر مسائل نقلت عنه، وإحدى عشرة مسألة نقلها عن غيره.
ومن الملاحظ أنه إذا حكى الإجماع بلفظ الإجماع ففي الغالب يقصد به الإجماع الأصولي.
(1) من أجل هذا حرص الباحث على نقل إجماعاته وقد ذيلت إجماعات الموفق بشمس الدين، وذكرته مع من نقل الإجماع، وإن كان لم ينص على ذلك؛ لأنه نص في المقدمة على اعتماد كتاب الموفق، فهو يذكرها بنصها ولا يخالف إلا القليل.
أما إذا حكاه بلفظ نفي الخلاف، ففي الغالب يقصد به الإجماع المذهبي، ولذا كثيرا ما يسبقها بلفظ:[قال أصحابنا] أو [عندنا]، وهذا هو الأكثر عنده في كتاب المجموع فهو مليء بالإجماعات المذهبية، بل لا تكاد تخلو صفحة من صفحات الكتاب منه.
ونادرا ما يحكي الإجماع بلفظ الاتفاق، فلم ترد في القسم الذي بحثه الباحث إلا في موضعين، انظرها في المجموع (9/ 287، 466).
الثالث عشر: أما القرافي:
فقد حكى ثلاثة عشر إجماعا، منها مسألة واحدة نقلها عن غيره، ولم ينقل أحد من العلماء عنه.
وهو ينفي الخلاف في المسائل كثيرا، وإذا نفاه بهذا اللفظ فمقصوده الخلاف المذهبي.
إذا حكى الإجماع بهذا اللفظ فهو في الغالب يقصد منه الإجماع بالمعنى الأصولي.
كثيرا ما يحكي الإجماع في القواعد الفقهية والأصولية في كتاب الذخيرة (1).
الرابع عشر: أما ابن تيمية:
فهو عالم نحرير، وجهبذ خبير، لم يُر مثله في زمانه، كما شهد بذلك القاصي والداني، كان له اطلاع واسع على الخلاف في زمن قلَّ فيه معرفة الخلاف، ولذا اتهم بمخالفة الإجماع في جملة من المسائل.
وله اهتمام واسع بنقل الإجماع، ولذا استقل بنقل جملة منها، فقد حكى ستة وشين إجماعا، منها ثمان مسائل نقلت عنه، وأربع استفادها من غيره، وفي الغالب يذكر الإجماعات في معرض المحاجَّة والمناقشة لأقوال المخالفين لمذهبه الذي يرجحه.
ولوفرة علمه فقد انتقد جملة من الإجماعات المحكية في المسائل.
الخامس عشر: الإجماعات التي يحكيها علماء الحنفية هي أكثر الإجماعات
(1) وهذا بحث جدير بالعناية وهي: مسائل الإجماع في القواعد الفقهية، وكذا الأصولية.
بالنسبة للمذاهب الأخرى، لكن لا يفرح بها كثيرا؛ لأنهم غالبا ما يريدون بها الإجماع المذهبي لا الإجماع بالمعنى الأصولي، وقد درس الباحث في بحثه الإجماعات التي حكاها: الكاساني، والعيني، وابن الهمام، وابن نجيم.
أما الكاساني: فقد حكى أربعة وأربعين إجماعا، نُقلت عنه مسألتان، ولم ينقل عن غيره مسألة واحدة.
أما العيني: فقد حكى أربعة وتسعين إجماعا، منها ثماني عشر نقلها عن غيره، ولم ينقل أحد عنه.
أما ابن الهمام: فقد حكى سبعة وخمسين إجماعا، منها تسع مسائل نقلت عنه، وواحدة نقلها هو عن غيره.
أما ابن نجيم: فقد حكى ثمانية وعشرين إجماعا، منها خمس مسائل نقلت عنه، ونقل هو خمس مثلها عن العلماء.
وهم غالبا ما يوردون الإجماع بلفظه الصريح، وهذا الذي جعل إجماعاتهم أقل الإجماعات أهمية من بين سائر المذاهب، فلذا لم ينقل الإجماع عنهم أحد من المذاهب الأخرى، ولم ينقلوا هم عن غيرهم إلا القليل.
وأوثقهم في حكاية الإجماع ابن الهمام والعيني، وما يورده الأول بصيغة الاتفاق فيقصد به غالبا علماء المذهب، وقد جاء هذا ظاهرا في مسألة: الزيادة المتصلة وأثرها في رد العين المعيبة، فقد ذكر الاتفاق، ثم ذكر خلاف المذاهب.
السادس عشر: أما ابن العربي:
فهو من علماء المالكية، وخرج عن مذهبه في مسائل كثيرة، وقد حكى تسعة عشر إجماعا، منها ست نقلت عنه، ولم ينقل عن غيره شيئا.
السابع عشر: أما القرطبي:
فقد حكى تسعة وعشرين إجماعا، نقل منها أربع عشرة مسألة، ولم يَنقل عنه أحد من العلماء، ولعل سبب ذلك أن كتابه كتاب تفسير وليس كتاب فقه؛ ولذا لم يَنقل عنه أحد.
الثامن عشر: أما البغوي وابن حجر والشربيني:
فهؤلاء من علماء الشافعية، ولم يكن لهم إلا إجماعات قليلة.
أما البغوي فقد حكى ستة إجماعات، نقل العلماء عنه إجماعا واحدا، ولم ينقل هو عن أحد شيئا.
أما ابن حجر فقد حكى ثلاثة وثلاثين إجماعا، منها ثلاث عشرة مسألة نقلها عن غيره، ونُقِل عنه عشر مسائل.
أما الشربيني: فقد حكى تسعة وعشرين إجماعا، منها ثمان مسائل نقلها عن غيره، ولم يَنقل عنه أحد من العلماء.
التاسع عشر: أما الصنعاني والشوكاني:
فقد استفادا كثيرا من ابن حجر في كتابه فتح الباري، فربما نقلا عنه شرح أحاديث بأكملها، ولذا فهما لم ينفردا بذكر إجماعات إلا شيئا يسيرا، وإن لم يذكرا ذلك.
أما الصنعاني: فقد حكى سبعة وعشرين إجماعا، منها ثمان مسائل نقلها عن غيره.
أما الشوكاني: فقد حكى سبعة وثلاثين إجماعا، منها إحدى وعشرون مسألة نقلها عن غيره، ونُقِلت عنه مسألة واحدة.
والشوكاني مذهبه في الإجماع أنه لا يعتد به إلا على سبيل الاعتضاد لا الاعتماد (1)، ولذا فهو ناقل للإجماع، وليس موردا له ابتداء، وقد نقل إجماعات كثيرة عن علماء مذهب بلده، وهم الزيدية (2)(3).
(1) وقد نص على هذا في مقدمة كتابه "وبل الغمام"(1/ 63 - 73) قال بعد تقرير طويل: [فما أورده من حكايات الإجماع عن غيري في مؤلفاتي ليس الغرض به إلا لمجرد الإلزام للقائل لحجية الإجماع، فليعلم ذلك].
(2)
فهو ينقل كثيرا عن "البحر الزخار" للمرتضي المتوفى سنة (840 هـ). ينظر على سبيل المثال: (5/ 192) و (5/ 206 - 207) وقد نقل عنه في هذا الموضع ستة إجماعات، و (5/ 220)، و (5/ 306)، و (5/ 353)، (5/ 364)، و (5/ 366).
(3)
الزيدية: هي إحدى فرق الروافض، يقولون بإمامة زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب في أيام خروجه زمان هشام بن عبد الملك، وهم ثلاث فرق: الجارودية، =
العشرون: أما عبد الرحمن القاسم:
فقد حاول أن يحوي في حاشيته إجماعات من سبقه، فهو ينقل عن الأئمة، وغالبا ينسب ذلك لهم، وقد لا ينسبه أحيانا، وعلى كثرة الإجماعات التي حكاها إلا أنه نادرا ما ينفرد بذكر إجماع.
وقد حكى أربعة عشر ومائة إجماع، منها أربعة وسبعون نقلها عن غيره.
* * *
= والسليمانية، والبترية، وهم أقرب الفرق إلى أهل السنة. "الفرق بين الفرق"(ص 16، 22)، "الملل والنحل"(ص 154)، "الموسوعة الميسرة"(1/ 81).