الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بالرضا بذلك القول، كما أن العادة تحيل السكوت في كل مرة من غير رضا به.
ثانيًا: لا خلاف بين العلماء أنه ليس بحجة، إذا حصل السكوت بعد استقرار المذاهب؛ لأن الظاهر أنهم سكتوا اعتمادا على معرفة مذهبهم في تلك المسألة من قبل، مثل أن يسكت الحنفي عن مذهب الشافعي.
ثالثًا: إذا كان السكوت من المجتهد مقترنا بما يدل على الرضا بالقول المشتهر، فهو إجماع بلا نزاع، وإن كان مقترنا بما يدل على السخط، فليس بإجماع.
رابعًا: محل النزاع فيما إذا كان السكوت في غير ما تعم به البلوى، ولم يكن هناك مانع من إبداء الرأي، وكان السكوت قبل استقرار المذاهب، ومضت مدة تكفي للنظر والتأمل بعد الفتوى أو القضاء، وكانت المسألة اجتهادية تكليفية، وعُلِم أن القول قد بلغ جميع علماء العصر (1).
سبب الخلاف بين العلماء:
سبب الخلاف راجع إلى أن السكوت محتمل للرضا وعدمه، فمن رجح جانب الرضا وجزم به قال: إنه حجة قاطعة، ومن رجح جانب الرضا، ولم يجزم به، قال: إنه حجة ظنية، ومن رجح جانب المخالفة، قال: إنه لا يكون حجة (2).
الخلاف والأدلة في المسألة:
اختلف العلماء في هذا الإجماع على عدة أقوال، أبرزها:
القول الأول: أنه حجة وإجماع. وهو قول جماهير العلماء (3).
واستدلوا على قولهم بعدة أدلة، أهمها:
الدليل الأول: أنه لو اشترط لانعقاد الإجماع أن ينص كل واحد منهم على رأيه
(1) ينظر: "البحر المحيط"(6/ 470 - 473)، "إجمال الإصابة في حكم أقوال الصحابة"(ص 31 - 33)، "الإجماع مصدر ثالث"(ص 131 - 132)، "الموسوعة الفقهية الكويتية"(26/ 145)، "الإجماع في التفسير"(ص 54).
(2)
"معالم أصول الفقه"(ص 163)، "الإجماع في التفسير"(ص 53).
(3)
"أصول السرخسي"(1/ 303)، "المستصفى"(1/ 191)، "المحصول"(1/ 215)، "المسودة"(ص 334)، "شرح الكوكب المنير"(2/ 254)، "إرشاد الفحول"(ص 84).
صراحة لأدى ذلك إلى عدم انعقاد الإجماع أبدا؛ لأنه يتعذر اجتماع أهل كل عصر على قول يسمع منهم، والمتعذر معفو عنه؛ لقوله تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (1) والمعتاد في كل عصر أن يتولى كبار العلماء إبداء الرأي، ويُسلِّم الباقون لهم، فثبت بذلك: أن سكوت الباقين دليل على أنهم موافقون على قول من أعلن رأيه في المسألة، فكان إجماعا وحجة.
الدليل الثاني: الوقوع: وذلك أن المجتهدين من التابعين إذا حدثت حادثة بينهم، ولم يجدوا حكما لها في نص، ووجدوا قولا فيها لصحابي، وعلموا أن هذا القول قد انتشر وسكت بقية الصحابة عن الإنكار، فإن التابعين لا يُجوِّزون العدول عن ذلك القول، بل يعملون به؛ بناء على أنه قول قد أجمع عليه.
الدليل الثالث: أنه قد وقع الإجماع على أن السكوت عن رضا معتبر في المسائل الاعتقادية، فيقاس عليها المسائل الاجتهادية؛ لأن الحق في الموضعين واحد (2).
القول الثاني: أنه ليس بإجماع ولا حجة. وهذا القول نسبه إلى الإمام الشافعي كثير من الشافعية، وهو اختيار الغزالي (3) والرازي وابن حزم (4).
(1) الحج: الآية (78).
(2)
ينظر في هذه الأدلة وغيرها عدا المراجع السابقة: "العدة"(4/ 1172)، "التبصرة"(ص 392)، "المعتمد"(2/ 539)، "حجية الإجماع"(ص 359)، "المهذب في أصول الفقه المقارن"(2/ 934 - 935)، "حجية الإجماع السكوتي"(ص 253 - 256)، "بحث منشور في مجلة الحكمة العدد"(30).
(3)
محمد بن محمد بن محمد أبو حامد الغزالي الطوسي، ولد عام (450 هـ) يلقب بحجة الإسلام، كان أفقه أقرانه، وإمام أهل زمانه، شديد الذكاء، سديد النظر، مفرط الإدراك، قوي الحافظة، درَّس بالمدرسة النظامية ببغداد، ثم تركها وأقبل على التصنيف والعبادة ونشر العلم، من آثاره:"المستصفى"، "النهاية"، "الوسيط"، "الوجيز""إحياء علوم الدين". توفي عام (505 هـ). "طبقات الشيرازي"(ص 248)، "طبقات ابن الصلاح"(1/ 249)، "طبقات ابن شهبة"(1/ 294).
(4)
"المستصفى"(1/ 191 - 192)، "الإحكام" للآمدي (1/ 252)، "المحصول"(2/ 1/ 215)، "الإحكام" لابن حزم (4/ 531).
واستدل هؤلاء بعدة أدلة، منها:
الدليل الأول: قصة ذي اليدين (1) لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول اللَّه؟ فنظر رسول اللَّه إلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وقال: "أحقٌّ ما يقوله ذو اليدين؟ "(2).
• وجه الدلالة: أن السكوت لو كان دليلا لاكتفى به النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه سأل أبا بكر وعمر، فدل على أن السكوت لا يدل على الرضا.
وأجيب عنه: أن الصحابة إنما سكتوا اكتفاء بما قاله ذو اليدين؛ لكونهم مثله في عدم العلم (3).
الدليل الثاني: أن مذهب المجتهد يعلم بقوله الصريح الذي لا يتطرق إليه أي احتمال، أما سكوت الساكت فإنه يحتمل أنه سكت؛ لأنه لم يجتهد في المسألة، أو اجتهد ولكنه لم يتوصل فيها إلى حكم معين، أو وصل إلى حكم معين لكنه لم يعلنه تقية ومخافة، أو يسكت لعارض طرأ عليه لم يظهره لنا، وغيرها من الاحتمالات وإذا ورد الاحتمال بطل الاستدلال، ولا ينسب له كلام في هذه الحالة ما لم يصرح به، ويعلنه للناس.
وأجيب عن هذا الدليل: أنه إذا سكت المجتهد بعد أن يعلن المجتهد رأيه مدة يستطيع من خلالها التفكر في المسألة؛ فإن سكوته يدل على رضاه بذلك الرأي المعلن؛ فيكون حجة وإجماعا.
أما هذه الاحتمالات فهي احتمالات عقلية، وليس حقيقية، فليس من عادة العلماء السكوت على قول الحق خشية من سطوة أحد من الناس، وليس هذا
(1) ذو اليدين: هو الخرباق السلمي، عاش حتى روى عنه المتأخرون من التابعين. "الاستيعاب"(2/ 457)، "الإصابة"(2/ 420)، "ألقاب الصحابة والتابعين في المسندين الصحيحين"(ص 55).
(2)
أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره (468)، (ص 113)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له (573)، (1/ 337).
(3)
ينظر في الأدلة عدا المراجع السابقة: "المهذب في أصول الفقه المقارن"(2/ 935 - 936)، "حجية الإجماع السكوتي"(ص 257 - 265).