الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس: خلاف أهل الظاهر
أهل الظاهر: هم أتباع داود بن علي (1)، وإليه ينسب المذهب.
وقد اختلف العلماء في الاعتداد بقول الظاهرية على أقوال:
القول الأول: عدم الاعتداد بقولهم مطلقا. وعلى هذا القول جماهير العلماء من الفقهاء والأصوليين (2).
قالوا: لأنهم نفوا القياس الذين قَبلته الأمة وأجمعت عليه (3)، ومن أنكره لا يعرف طرق الاجتهاد، وإنما هو متمسك بالظواهر، فهو كالعامي الذي لا معرفة له، ويكون حكمهم كالشيعة في الفروع، فلا يبلغون رتبة الاجتهاد، ولا يجوز تقليدهم القضاء، ولا يلتفت إلى أقوالهم، ولا ندُل مستفتيا عليهم. ثم إن النصوص الشرعية لا تفي بعشر معشار ما يحتاجه الناس، فلو جمد الناس على ظواهر النصوص، لوقع لهم خلل وقصور في معاملاتهم التي يحتاجونها (4).
وأجيب عن ذلك:
أن القول بنفي القياس هو قول أدى إليه اجتهادهم، كما أدى القول عند المثبتين إلى إثباته (5).
(1) داود بن علي بن خلف الأصبهاني أبو سليمان، ولد عام (200 هـ) سكن بغداد وصنف كتبه بها، وهو إمام أصحاب الظاهر، كان عقله أكثر من علمه، كان ورعا ناسكا زاهدا، من المتعصبين للشافعي، بل وصنف فيه كتابين في فضائله والثناء عليه. توفي عام (270 هـ). "طبقات ابن شهبة"(1/ 78)، "طبقات الشيرازي"(ص 102)، "الأنساب"(4/ 99).
(2)
"البحر المحيط"(3/ 424)، "طبقات السبكي"(2/ 289).
(3)
نسب بعض العلماء إلى داود الظاهري أنه ينفي القياس الخفي، أما الجلي فلا، ومنكر القسمين طائفة من أصحابه زعيمهم ابن حزم. ينظر:"طبقات السبكي"(2/ 290).
(4)
ينظر: المصدرين السابقين.
(5)
"سير أعلام النبلاء"(13/ 105)، "تاريخ الإسلام"(20/ 94).
القول الثاني: الاعتداد بقولهم في الوفاق والخلاف. وهذا قال به القاضي عبد الوهاب (1)، والأستاذ أبو منصور البغدادي (2)، وهو الصحيح من مذهب الشافعية، كما نسبه إليهم ابن الصلاح (3)(4).
وهؤلاء قالوا: ما اعتددنا بخلافهم؛ لأن مفردات المسائل عندهم حجة، ولكن لأن أقوالهم مثل أقوال غيرهم من العلماء، فيها السائغ، وبعضها القوي، وبعضها ساقط لا يُعتد به، ويلزم من لم يعتد بخلافهم ألَّا يعتد بخلاف من ينفي المرسل، ويمنع العموم، ومن حمل الأمر على غير الوجوب، وغيرها من المسائل الأصولية ولا قائل بهذا، ثم ما تفردوا به هو شيء من قبيل مخالفة الإجماع الظني،
(1) عبد الوهاب بن علي بن نصر القاضي البغدادي، شيخ المالكية، تولى القضاء في العراق ومصر، وله كتب عظيمة في الفقه والخلاف، منها:"الإشراف"، "المعونة"، "التلقين"، "شرح المدونة". توفي عام (422 هـ). "ترتيب المدارك"(4/ 691)، "شجرة النور الزكية"(ص 103).
(2)
عبد القاهر بن طاهر بن محمد التميمي الأستاذ أبو منصور البغدادي، إمام عظيم القدر، جليل المحل، كثير العلم، حبر لا يساجل في الفقه وأصوله والفرائض والحساب وعلم الكلام، وكان ذا مال وثروة ومروءة، أنفقه على أهل العلم والحديث حتى افتقر، من آثاره:"التكملة في الحساب". توفي عام (429 هـ). "طبقات الشيرازي"(ص 226)، "طبقات ابن الصلاح"(2/ 553)، "طبقات السبكي"(5/ 136).
(3)
عثمان بن عبد الرحمن بن موسى بن أبي نصر الكردي الشهرزوري تقي الدين أبو عمرو بن الصلاح الشافعي، ولد عام (577 هـ)، أحد الأئمة الأعلام بالغ في الطلب حتى صار يضرب به المثل، وكان أحد فضلاء عصره في التفسير والحديث والفقه، وله مشاركة في فنون عدة، مع ما فيه من الدين والصيانة والعبادة، من آثاره:"مشكل الوسيط"، "علوم الحديث"، "فوائد الرحلة". توفي عام (643 هـ). "طبقات السبكي"(8/ 326)، "طبقات ابن شهبة"(2/ 115).
(4)
"البحر المحيط"(3/ 425)، "فتاوى ابن الصلاح"(1/ 207)، "طبقات السبكي"(2/ 289)، "سير أعلام النبلاء" (13/ 105). قال ابن الصلاح:[وهذا الذي استقر عليه الأمر آخرا كما هو الأغلب الأعرف من صفو الأئمة المتأخرين الذين أوردوا مذهب داود في مصنفاتهم المشهورة كالشيخ أبي حامد الإسفراييني والماوردي والقاضي أبي الطيب، فلولا اعتدادهم به لما ذكروا مذهبه في مصنفاتهم المشهورة]. ومذهب هؤلاء مبني على تجزء الاجتهاد عند العلماء، أما من يرى عدم تجزء الاجتهاد فهو مع القول الأول.
وتندر مخالفتهم لإجماع قطعي.
ويشهد لهذا أيضا ما كان عليه العمل عند المتقدمين الذين أدركوا إمام المذهب أبا سليمان داود بن علي، فإن مذهبه كان مشهورا، بل مما يزيد في شهرته أنه كان في بغداد، حاضرة العالم، ومعقل العلم والعلماء، ولم يُذْكر إنكار العلماء عليه، لا في فتاويه، ولا في دروسه، ولا في تآليفه، وقد عاصره علماء أجلاء، وشيوخ كبار، بل كانوا يذكرونه بالعلم والخير، ولما سُئل الطبري وابن سريج (1) عن كتاب ابن قتيبة في الفقه، أين هو عندكم؟ فقالا:[ليس بشيء، ولا كتاب أبي عبيد (2)، فإذا أردت الفقه: فكتب الشافعي وداود ونظرائهما].
وكذلك العلماء من بعدهم، بل كانوا يتجالسون ويتناظرون فيما بينهم، ويبرز كل واحد منهم حجته، ولا يسعون بالداودية إلى السلطان، بل أبلغ من ذلك أنهم ينصبون معهم الخلاف في تصانيفهم قديما وحديثا، وهذا دليل على اعتبار قولهم وخلافهم، وإلا فلا فائدة من ذلك (3).
القول الثالث: التفصيل: الاعتداد بقوله إلا فيما خالف فيه القياس الجلي، وما أجمع عليه القياسيون من أنواعه، أو بناه على أصوله التي قام الدليل القاطع على بطلانها، فاتفاق من سواه إجماع منعقد، كقوله في التغوط في الماء الراكد، وقوله: لا ربا إلا في ستة الأصناف المنصوص عليها، فخلافه فيها غير معتد به؛ لأنه مبني على ما يقطع ببطلانه. وهذا القول اختاره الأبياري (4)، وابن الصلاح من
(1) أحمد بن عمر بن سريج البغدادي الشافعي أبو العباس القاضي، ولد بعد المائتين والأربعين، قال عنه الشيرازي:[كان يفضل على جميع أصحاب الشافعي حتى على المزني] توفي عام (306 هـ). "طبقات السبكي"(3/ 21)، "طبقات ابن شهبة"(1/ 90).
(2)
القاسم بن سلام أبو عبيد، كان أبوه رومانيا مملوكا لرجل من أهل هراة، كان إمام أهل عصره في كل فن من العلم، وولي قضاء طرسوس، صنف فأحسن التصنيف، من مصنفاته:"غريب الحديث"، "الأموال"، "غريب القرآن". توفي عام (223 هـ)، "معجم الأدباء"(4/ 592)، "مرآة الجنان"(2/ 83)، "معرفة القراء الكبار"(1/ 170).
(3)
ينظر: "فتاوى ابن الصلاح"(1/ 207)، "البحر المحيط"(3/ 425)، "طبقات السبكي"(2/ 290)، "سير أعلام النبلاء"(13/ 105).
(4)
علي بن إسماعيل بن علي بن حسن بن عطية شمس الدين أبي الحسن الأبياري، نسبة إلى =
الشافعية (1).
ويمكن أن يستدل لهم: بأن هؤلاء من علماء الأمة، ولا يمكن الإجماع إلا بقول الجميع دون استثناء أحد منهم، فيؤخذ بقولهم ويعتد به إلا ما كان مبنيا على الأمر الذي خالفوا فيه إجماع العلماء وهو ترك العمل بالقياس، وإلا فليس من العدل والإنصاف أن يطرح قولهم جملة وتفصيلا، ولا يعتد به، لترك القياس، فيترك قولهم الذي كان مبنيا على المخالفة فقط.
الترجيح: يظهر -واللَّه أعلم- أن الراجح هو القول الثالث؛ لسلوكه طريق العدل والإنصاف تجاه هؤلاء العلماء.
وقفتان لا بد منهما:
الأولى: الذي ظهر للباحث من خلال البحث أن ظاهر صنيع كثير من العلماء الذين يعتنون بنقل الخلاف بين المذاهب أنهم يعتدون بخلاف الظاهرية؛ وذلك لذكر خلافهم في بطون كتبهم، لكن إذا جاءت مسائل الإجماع فإنهم يحكون الإجماع ولا ينظرون إلى خلافهم، ومثلها المسائل التي انفردوا بها وهي من غرائبهم فإنهم لا يذكرونهم أصلا، أو يذكرونهم ويردون عليهم.
الثاني: أن مذهبهم كسائر المذاهب التي لم يُعْتنى بها، وأصبحت كالمندثرة، فلم يبق من آثارهم شيء يُعَول عليه، إلا ما ذكره ابن حزم في "المحلى"، وابن حزم أحد أفرادهم لكنه خالفهم في مسائل ليست قليلة، وأقول: لعل من أسباب عدم الاعتداد بقولهم والتهجم على مذهبهم، ما عرف عن ابن حزم من حدة لسانه وتهكمه بالعلماء، فربما كان هذا سببا في هجران أقوالهم وعدم الالتفات إليها، خاصة وأنه لا يعرف القول بعدم الاعتداد بقولهم إلا في زمن ابن حزم، كما يفهم من دليل القول الثاني.
= مدينة من مدن مصر، ولد عام (559 هـ) كان من العلماء الأعلام، وأئمة الإسلام، بارعا في علوم شتى الفقه وأصوله وعلم الكلام، من آثاره:"شرح البرهان" للجويني، "سفينة النجاة"، وهو على طريقة "الإحياء". توفي عام (616 هـ). "الديباج المذهب"(ص 213).
(1)
"فتاوى ابن الصلاح"(1/ 207)، "البحر المحيط"(3/ 425)، "طبقات السبكي"(2/ 290)، "سير أعلام النبلاء"(13/ 105).