الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واجب الاتباع، فيكون إجماعهم على الحق واجبَ الاتباع (1).
ومن السنة:
يستدل على الإجماع من سنة النبي صلى الله عليه وسلم بجملة الأحاديث التي وردت في لزوم الجماعة، وبيان فضلها، وتعظيم شأنها، والإخبار بعصمتها عن الخطأ، ومنها (2):
الدليل الأول: ما جاء في حديث عمر رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "فمن أراد بحبوحة (3) الجنة فليلزم الجماعة؛ فإن الشيطان مع الواحد وهو مع الاثنين أبعد"(4).
الدليل الثاني: ما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: "إن اللَّه لا يجمع أمتي - أو قال: أمة محمد صلى الله عليه وسلم على ضلالة"(5).
الدليل الثالث: ما جاء في حديث أبي ذر (6) رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:
(1)"الإجماع في التفسير"(ص 44). وينظر: "الإحكام" للآمدي (1/ 214)، "مجموع الفتاوى"(19/ 176)، "شرح الكوكب المنير"(2/ 217).
(2)
ينظر في هذه الأدلة: "العدة" لأبي يعلى (4/ 1081)، "المستصفى"(1/ 176)، "شرح مختصر ابن الحاجب" للأصفهاني (1/ 541).
(3)
بحبوحة الجنة، يعني: وسطها، وبحبوحة كل شيء وسطه وخياره. "غريب الحديث" لأبي عبيد (2/ 205)، "الفائق"(1/ 81).
(4)
أخرجه الشافعي في "الرسالة"(ص 473)، وأحمد في "مسنده"(114)، (1/ 268)، والترمذي (2165)، (4/ 404)، وابن حبان في "صحيحه"(4576)، (10/ 436). قال الترمذي:[هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه].
(5)
أخرجه الترمذي (2167)، (4/ 405)، والحاكم في "مستدركه"(391)، (1/ 199). قال الترمذي:[هذا حديث غريب من هذا الوجه]. وتتبع طرقه وأعلها الحاكم. قال البخاري: [سليمان المدني منكر الحديث]. "علل الترمذي"(ص 323). وبه أعله ابن حجر في "التلخيص الحبير"(3/ 141). والحديث جاء من طرق عدة عن جمع من الصحابة، وفيه قال السخاوي:[وبالجملة فهو حديث مشهور المتن، ذو أسانيد كثيرة، وشواهد متعددة، في المرفوع وغيره]. "المقاصد الحسنة"(1/ 717). وينظر: "تذكرة المحتاج إلى أحاديث المنهاج"(1/ 51).
(6)
جندب بن جنادة بن سكن أبو ذر الغفاري الزاهد المشهور الصادق اللهجة، هذا اسمه =
"من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع رِبقة (1) الإسلام من عنقه"(2).
• وجه الدلالة من الأحاديث السابقة:
قال الشافعي: [إذا كانت جماعتهم متفرقة في البلدان، فلا يقدر أحد أن يلزم جماعة أبدان قوم متفرقين، وقد وجدت الأبدان تكون مجتمعة من المسلمين والكافرين والأتقياء والفُجَّار، فلم يكن في لزوم الأبدان معنى؛ لأنه لا يمكن، ولأن اجتماع الأبدان لا يصنع شيئًا، فلم يكن للزوم جماعتهم معنى إلا عليهم جماعتهم من التحليل والتحريم والطاعة فيهما، ومن قال بما تقول به جماعة المسلمين فقد لزم جماعتهم، ومن خالف ما تقول به جماعة المسلمين فقد خالف جماعتهم التي أُمر بلزومها، وإنما تكون الغفلة في الفرقة، فأما الجماعة فلا يمكن فيها كافة غفلة عن معنى كتاب ولا سنة ولا قياس -إن شاء اللَّه-](3).
وها هنا مسألتان (4):
المسألة الأولى: أن هذه النصوص أفادت أن العصمة ثابتة للأمة دون اشتراط عدد معين، بل إن أهل الإجماع متى ثبت اتفاقهم وجب اتباع قولهم وثبتت
= واسم أبيه على المشهور، وكان من السابقين إلى الإسلام، يقال: إنه كان بعد أربعة، وانصرف إلى بلاد قومه فأقام بها حتى قدم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينة ومضت بدر وأحد، قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم:[ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء أصدق لهجة من أبي ذر، وكان يوازي ابن مسعود في العلم]. توفي بالربذة سنة (32 هـ)، "الاستيعاب"(1/ 252)، "أسد الغابة"(1/ 562)، "الإصابة"(7/ 126).
(1)
الربقة في الأصل: عروةٌ في حبل تجعل في عنق البهيمة أو يدها تمسكها، فاستعارها للإسلام يعني ما يشد به المسلم نفسه من عرى الإسلام، أي: حدوده وأحكامه وأوامره ونواهيه. "النهاية"(2/ 190).
(2)
أخرجه أبو داود (4725)، (5/ 252)، والحاكم في "مستدركه"(401)، (1/ 203)، والبيهقي في "الكبرى"(16391)، (8/ 157). قال الحاكم:[خالد بن وهبان لم يجرح في رواياته، وهو تابعي معروف، إلا أن الشيخين لم يخرجاه، وقد روي هذا المتن عن عبد اللَّه ابن عمر بإسناد صحيح على شرطهما].
(3)
"الرسالة"(ص 475).
(4)
وقد ذكر هاتين المسألتين الدكتور الجيزاني في "معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة"(ص 169 - 171).
العصمة لهم، وبناء عليه فلا يشترط لصحة الإجماع أن يبلغ المجمعون عدد التواتر؛ لأن الدليل الشرعي لم يشترط ذلك، بل علق العصمة على الإجماع والاتفاق فقط (1).
المسألة الثانية: أن هذه النصوص تدل على أن الإجماع حجة ماضية في جميع العصور، سواء في ذلك عصر الصحابة أو عصر من بعدهم؛ لأن أدلة حجية الإجماع عامة مطلقة، ولا يجوز تخصيص هذه الأدلة أو تقييدها دون دليل شرعي معتبر (2).
(1) وهذه المسألة خالف فيها بعض المتكلمين فقالوا باشتراط أن يبلغ المجمعون عدد التواتر أخذا بالدليل العقلي، وهو كون هذا العدد يستحيل على مثلهم الاجتماع على خطأ، وهذا لا يصح؛ لأن الإجماع إنما ثبت بالدليل الشرعي، والدليل الشرعي لم يشترط ذلك. ينظر:"المسودة"(ص 317)، "روضة الناظر"(1/ 346)، "شرح الكوكب المنير"(2/ 252).
(2)
جاء عن الإمام أحمد فيما رواه عنه ابنه عبد اللَّه في "مسائله"(1/ 438) أنه قال: [من ادعى الإجماع فهو كاذب] وقد حملها أهل العلم على عدة أوجه لكونه رحمه الله يحتج بالإجماع، ويستدل به في بعض الأحيان، مع أن ظاهر هذه المقالة منع وقوع الإجماع، ومن هذا الأوجه:
أنه قال هذا من باب الورع لجواز أن يكون هناك خلاف لم يبلغه، أو أنه قال ذلك في حق من ليس له معرفة بخلاف السلف، ويدل لذلك كلامه السابق؛ إذ يقول:[من ادعى الإجماع فهو كاذب، لعل الناس اختلفوا، هذه دعوى بشر المريسي والأصم، ولكن يقول: لا نعلم الناس اختلفوا، إذا هو لم يبلغه]، ونُقل عنه أنه قال أيضًا:[هذا كذب ما أعْلَمَه أن الناس مجمعون؟ ولكن يقول: لا أعلم فيه اختلافا فهو أحسن من قوله: إجماع الناس]. ولذلك يقول الشافعي: [فإن قال لك قائل لقلة الخبرة: وكثرة الإجماع عن أن يحكى: وأنت قد تصنع مثل هذا فتقول: هذا أمر مجمع عليه؟ قال: لست أقول، ولا أحد من أهل العلم هذا مجتمع عليه إلا لما تلقى عالما أبدا إلا قاله لك وحكاه عمن قبله، كالظهر أربع، وكتحريم الخمر وما أشبه هذا]. "الرسالة"(ص 534). فعلم بالنقل عن هذين الإمامين أن الواجب الاحتياط في نقل الإجماع والتثبت في ادعائه، فإن الجزم باتفاق العلماء وإجماعهم من قبيل عدم العلم وليس من قبيل العلم بالعدم، لا سيما وأن أقوال العلماء كثيرة لا يحصيها إلا رب العالمين، وعدم العلم لا حجة فيه، فلذلك كانت العبارة المختارة في نقل الإجماع أن يقال: لا نعلم نزاعا، أما أن يقال: الناس مجمعون فإذا يصح فيما علم واشتهر ضرورة بالاتفاق عليه. =
كما لا يصح الاحتجاج لإبطال إجماع غير الصحابة بصعوبةٍ، أو تعذرِ وقوع الإجماع بعد عصر الصحابة لتفرق المجتهدين في الآفاق وانتشارهم في الأقطار، إذ غاية ذلك هو القول بعدم صحة وقوع الإجماع بعد عصر الصحابة وتعذر إمكانه.
أما حجية الإجماع فأمر آخر، فلا بد من التفريق بين حصول الإجماع وإمكان
= قال ابن تيمية: [يعني الإمام أحمد رضي الله عنه أن المتكلمين في الفقه من أهل الكلام إذا ناظرتهم بالسنن والآثار قالوا هذا خلاف الإجماع، وذلك القول الذي يخالف ذلك الحديث لا يحفظونه إلا عن فقهاء المدينة، وفقهاء الكوفة مثلا، فيدعون الإجماع من قلة معرفتهم بأقاويل العلماء، واجترائهم على رد السنن بالآراء، حتى كان بعضهم ترد عليه الأحاديث الصحيحة في خيار المجلس ونحوه من الأحكام والآثار، فلا يجد معتصما إلا أن يقول هذا لم يقل به أحد من العلماء، وهو لا يعرفه إلا أن أبا حنيفة ومالكا وأصحابهما لم يقولوا بذلك، ولو كان له علم لرأى من الصحابة والتابعين وتابعيهم ممن قال بذلك خلقا كثيرا]، "الفتاوى الكبرى" (6/ 286). ويقول ابن القيم:[وليس مراده -أي: الإمام أحمد - بهذا استبعاد وجود الإجماع، ولكن أحمد وأئمة الحديث بُلوا بمن يرد السنة الصحيحة بإجماع الناس على خلافها، فبيَّن الشافعي وأحمد أن هذه الدعوى كذب، وأنه لا يجوز رد السنن بمثلها]. "مختصر الصواعق المرسلة"(ص 506). وله كلام نفيس في "الصواعق" الأصل في بيان هذا المعنى، وأمثلة من كلام العلماء في إجماعات حكوها والخلاف فيها مشهور، فليرجع إليه. (2/ 279) وما بعدها.
ومن العلماء من حمل كلام الإمام على إجماع ما عدا الصحابة، فالإجماع المنضبط هو إجماع الصحابة دون غيرهم، منهم ابن تيمية، وفي هذا يقول:[الذي أنكره أحمد دعوى إجماع المخالفين بعد الصحابة، أو بعدهم وبعد التابعين، أو بعد القرون الثلاثة المحمودة، ولا يكاد يوجد في كلامه احتجاج بإجماع بعد عصر التابعين أو بعد القرون الثلاثة، مع أن صغار التابعين أدركوا القرن الثالث، وكلامه في إجماع كل عصر إنما هو في التابعين]. "المستدرك على مجموع الفتاوى"(2/ 114).
ومن العلماء من حمل كلام الإمام على من انفرد بحكاية الإجماع دون غيره فإنه يكذب؛ إذ كيف يطلع عليه هو دون غيره من سائر العلماء.
ينظر في التوجيهات: "العدة" لأبي يعلى (4/ 1060)، "الواضح في أصول الفقه"(5/ 104)، "أعلام الموقعين"(1/ 24)، و (2/ 175)، "البحر المحيط"(6/ 382)، "التقرير والتحبير"(2/ 83)، "شرح الكوكب المنير"(2/ 213).
وقوعه، وبين حجيته في كل عصر، وليس بين الأمرين تلازم.
فالأول محل نظر بين العلماء: إذ منع بعضهم وقوع إجماع بعد عصر الصحابة (1)، ونقل البعض الآخر الإجماع في عصر الصحابة وفي عصر من بعدهم.
والثاني وهو حجية الإجماع: فلا شك أن الدليل الشرعي قاطع في ثبوت حجية الإجماع مطلقا في كل عصر.
* * *
(1) يرى داود الظاهري وكثير من أصحابه: أن الإجماع هو إجماع الصحابة فقط، دون من بعدهم. أما ابن حزم منهم فيرى أن الإجماع الصحيح أحد اثنين:
أحدهما: أنه ما لا يشك فيه أحد من أهل الإسلام في أن من لم يقل به فليس مسلما، كشهادة أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدا رسول اللَّه، وكوجوب الصلوات الخمس، وكصوم شهر رمضان، وكتحريم الميتة، والدم، والخنزير، والإقرار بالقرآن، وجملة الزكاة، فهذه أمور من بلغته فلم يقر بها، فليس مسلما، فإذا ذلك كذلك فكل من قال بها فهو مسلم، فقد صح أنها إجماع من جميع أهل الإسلام.
ثانيهما: شيء شهده جميع الصحابة رضي الله عنهم من فعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أو تيقَّن أنه عرفه كل من غاب عنه صلى الله عليه وسلم منهم كفعله في خيبر إذ أعطاها يهود بنصف ما يخرج منها من زرع أو تمر، يخرجهم المسلمون إذا شاؤوا، فإذا لا شك عند كل أحد في أنه لم يبق مسلم في المدينة إلا شهد الأمر، أو وصل إليه يقع ذلك الجماعة من النساء والصبيان الضعفاء، ولم يبق بمكة، والبلاد النائية مسلم إلا عرفه وسر به. وما عداهما فهو كذب. "الإحكام" لابن حزم (4/ 509 - 511)، "المحلى"(1/ 75 - 76). وعليه فمعناه عند ابن حزم أضيق من علماء مذهبه.