الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
• وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف المفارق -وهو المخالف- للجماعة، عندما اجتمعت الجماعة في أمرها وتوحدت، بأنه قد خلع رِبْقَة (1) الإسلام من عنقه، وهذا وعيد شديد لمرتكب هذا الفعل، وهو مخالفة الجماعة، فدل ذلك على وجوب اتباع الجماعة، وعدم مخالفتها ومفارقتها، وعلى اعتبار إجماعها وكونه حجة شرعية (2).
المبحث الثالث: أنواع الإجماع
المطلب الأول: أنواع الإجماع من حيث أهله
القسم الأول: إجماع الأمة
وهو الإجماع المطلق، والمقصود منه هو أن علماء الأمة أجمعوا على رأي موحد في مسألة ما، دون التقيد بطبقة معينة؛ أو بلد معين؛ أو زمن معين.
وعلماء الأمة عبارة تشمل الصحابة والتابعين ومن أتى بعدهم من علماء وفقهاء الأمة رحمهم اللَّه تعالى (3).
ومما ينبغي التنبيه عليه؛ أن علماء الأمة رحمهم اللَّه تعالى لم يختلفوا إجمالًا في إمكان وقوع الإجماع وتصور ذلك؛ سوى بعض الشيعة والمعتزلة، وخلافهم هنا غير معتبر (4).
(1) يقول ابن الجزري: "والربقة في الأصل عروة في حبل تجعل في عنق البهيمة أو يدها تمسكها، فاستعارها للإسلام، يعني ما يشد به المسلم نفسه من عرى الإسلام، أي حدوده وأحكامه وأوامره ونواهيه، وتجمع الربقة على ربق، مثل: كسرة وكسر، ويقال للحبل الذي تكون فيه الربقة: ربق، وتجمع على أرباق ورباق"، "النهاية في غريب الأثر"(2/ 190)، وانظر:"غريب الحديث" للخطابي (2/ 181).
(2)
وانظر: "الإجماع مصدر ثالث من مصادر التشريع"(73)، "المهذب"(2/ 852)، "أحكام الإجماع والتطبيقات عليها"(38)، وفي معنى الجماعة في الحديث خمسة أقوال للعلماء، ذكرها الإمام الشاطبي في "الاعتصام"(2/ 770) فلتراجع هناك.
(3)
هناك خلاف بين الأصوليين في اعتبار قول العوام في الإجماع أو لا، والقول باعتباره قول ضعيف، وانظر:"الاعتصام" للشاطبي (2/ 776).
(4)
انظر: "الإحكام في أصول الفقه" للآمدي (1/ 196)، "آراء المعتزلة الأصولية دراسة وتقويمًا" للدكتور علي الضويحي (347).
ولا يمتنع العلم بتحقق وقوع إجماع العلماء رحمهم اللَّه تعالى عقلًا ولا عادةً، خلافًا لما فُهم من كلام الإمام الشافعي، والإمام أحمد رحمهم اللَّه تعالى، وهناك شواهد فقهية دالة على مخالفتهما لما فُهم منهما، سيأتي بعضها في ثنايا البحث بالنسبة للإمام الشافعي.
ففي كلام الإمام الشافعي رحمه الله ما تُوهم أنه ينفي إمكان وقوع الإجماع، وهو ليس كذلك، فالذي يدل عليه سياق كلامه في مناظرةٍ له، تحدث فيها عن نقل الإجماع، هو أنه يتشدد في النقل، وأن الإجماع الذي هو حجة شرعية لا يحصل إلا في المسائل التي يعرفها العامة من المسلمين، التي هي من الأصول المعلومة من الدين بالضرورة، وأما ما سوى ذلك مما يدور بين الخاصة من أهل العلم؛ فإنه ليس فيه إلا عدم العلم بالمخالف، وهو ليس إجماعًا عنده، واللَّه تعالى أعلم.
وسأنقل بعض كلامه لأهميته، فقد قال رحمه الله:"نعم، نحمد اللَّه كثيرًا في جملة الفرائض التي لا يسع جهلها، فذلك الإجماع هو الذي لو قلت: أجمع الناس؛ لم تجد حولك أحدًا يعرف شيئًا يقول لك: ليس هذا بإجماع، فهذه الطريق التي يصدق بها من ادعى الإجماع فيها، وفي أشياء من أصول العلم دون فروعه، ودون الأصول غيرها، فأما ما ادعيت من الإجماع، حيث قد أدركت التفرق في دهرك، وتحكي عن أهل كل قرن؛ فانظره أيجوز أن يكون هذا إجماعًا"(1).
أما الإمام أحمد فقد روى عنه أنه قال: "من ادعى الإجماع فهو كاذب"(2)، ولذلك فُهم من هذه العبارة أنه ينكر إمكان وقوع الإجماع والعلم به، وقد أجاب عنها أهل العلم (3).
يقول الإمام أحمد رادًّا على مدعٍ للإجماع في إحدى المسائل: "هذا كذب، ما علمه أن الناس مجمعون، ولكن يقول: لا أعلم فيه اختلافًا، فهو أحسن من قوله:
(1) انظر بقية كلامه في كتاب جماع العلم، وهو في "الأم"(7/ 295)، وانظر:"حجية الإجماع"(92).
(2)
انظر: "العدة" للقاضي (4/ 1059)، "الواضح في أصول الفقه"(5/ 104)، "شرح الكوكب المنير"(2/ 213).
(3)
انظر: "الإحكام" للآمدي (1/ 198)، "مناقشة الاستدلال بالإجماع" للدكتور فهد السدحان (46)، "الإجماع" دراسة في فكرته من خلال تحقيق "باب الإجماع" للجصاص لزهير شفيق (42)، "أصول الفقه وابن تيمية"(270)، "حجية الإجماع"(103) وما بعدها.
إجماع الناس" (1).
وعلّق عليه القاضي بقوله: "قال هذا على طريق الورع، نحو أن يكون هناك خلاف لم يبلغه، أو قال هذا في حق من ليس له معرفة بخلاف السلف"(2).
وكلامه السابق فيه إشارة على أنه يقول بوقوع الإجماع؛ إلا أنه يتشدد فيه ورعًا، ويؤكد ذلك ورود استخدامه لعبارة الإجماع في مسائل فرعية (3).
يقول ابن القيم عن أصول الفتوى لدى الإمام أحمد: "ولم يكن يقدم على الحديث الصحيح عملًا، ولا رأيًا، ولا قياسًا، ولا قول صاحب، ولا عدم علمه بالمخالف الذي يسميه كثير من الناس إجماعًا، ويقدمونه على الحديث الصحيح، وقد كذَّب أحمد من ادعى هذا الإجماع، ولم يسغ تقديمه على الحديث الثابت، وكذلك الشافعي أيضًا نص في رسالته الجديدة على أن ما لا يعلم فيه بخلاف لا يقال له إجماع، ولفظه: "ما لا يعلم فيه خلاف فليس إجماعًا" (4). وقال عبد اللَّه بن أحمد بن حنبل: سمعت أبي يقول: ما يدعي فيه الرجل الإجماع فهو كذب، من ادعى الإجماع فهو كاذب، لعل الناس اختلفوا، ما يدريه، ولم ينته إليه؟ فليقل: لا نعلم الناس اختلفوا. . . ولكنه يقول: لا نعلم الناس اختلفوا، أو لم يبلغني ذلك (5).
هذا لفظه، ونصوص رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أجل عند الإمام أحمد وسائر أئمة الحديث من أن يقدموا عليها توهم إجماع مضمونه عدم العلم بالمخالف، ولو ساغ لتعطلت النصوص، وساغ لكل من لم يعلم مخالفًا في حكم مسألة أن يقدم جهله بالمخالف على النصوص؛ فهذا هو الذي أنكره الإمام أحمد والشافعي من دعوى الإجماع، لا ما يظنه بعض الناس أنه استبعاد لوجوده" (6).
* * *
(1)"العدة" للقاضي (4/ 1060).
(2)
"العدة" للقاضي (4/ 1060)، وانظر:"الواضح في أصول الفقه"(5/ 104)، "شرح الكوكب المنير"(2/ 213).
(3)
"العدة" للقاضي (4/ 1060).
(4)
لم أجد هذه العبارة، وانظر:"الأم"(7/ 294) وما بعدها.
(5)
انظر: "العدة" للقاضي (4/ 1059).
(6)
"إعلام الموقعين"(1/ 24).