الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والراجح واللَّه تعالى أعلم أن خلافهم معتبر فيما إذا لم يصادم القياس الجلي، وما صادم القياس الجلي فلا عبرة به، نحو قولهم: أن البول في الماء القليل الراكد من غير المتوضئ لا يفسده، ويجوز الوضوء والشرب منه (1)، قالوا ذلك جمودًا على ظاهر النص، فما كان كذلك فلا يعتدّ به، وهذا جمع بين القولين، واللَّه تعالى أعلم.
المطلب الخامس: في حكم مخالفة أهل البدع
المقصود بالخلاف في قبول قول المجتهد المبتدع: هو من كانت بدعته غير مكفرة، أما المكفرة؛ فإنه لا عبرة به بلا خلاف (2).
اختلف العلماء في انعقاد الإجماع مع مخالفة المجتهد المبتدع (3)، هل يعتبر قوله ناقضًا للإجماع؛ أو لا؟
• القول الأول: أن مخالفة المجتهد المبتدع معتبرة، ولا ينعقد الإجماع دونها.
• القول الثاني: أن مخالفة المبتدع غير معتبرة، وينعقد الإجماع دونها.
وقد اختار هذا القول أغلب الفقهاء في كتب الفروع، ولأهمية الموضوع فسأنقل عددًا من عباراتهم هنا؛ لأنني لم أجد من وثّق كلام الأصوليين بكلام الفقهاء في المسألة، فقد يتكلم الأصوليون في المسألة، ولا يعني ذلك التزام الفقهاء بكلامهم في الفروع، وهذا مبني على منهج المتكلمين في الأصول.
يقول ابن حزم في مخالفة الأزارقة (4) من الخوارج: "أما امتناع الصلاة والصوم والطواف والوطء في الفرج في حال الحيض فإجماع متيقن مقطوع به، لا خلاف بين
(1)"المحلى"(1/ 142).
(2)
"المستصفى"(145)، "البحر المحيط"(6/ 419)، "إرشاد الفحول"(1/ 311)، "تعليق الدكتور أحمد سير المباركي على العدة"(4/ 1139).
(3)
"الفصول في الأصول" للجصاص (3/ 294)، "العدة"(4/ 1139)، "المستصفى" للغزالي (146)، "روضة الناظر"(2/ 458)، "شرح الكوكب المنير"(2/ 228)، "البحر المحيط"(6/ 419)، "كشف الأسرار"(3/ 238)، "إرشاد الفحول"(1/ 311).
(4)
الأزارقة: هم أتباع نافع بن الأزرق الحنفي، وهي فرقة من فرق الخوارج الغالية، لهم ضلالات وانحرافات كثيرة، أبرزها تكفير المسلمين وكل من خالفهم، انظر:"الفرق بين الفرق" للبغدادي (87)، "الملل والنحل" للشهرستاني (1/ 111).
أحد من أهل الإسلام فيه، وقد خالف في ذلك قوم من الأزارقة حقهم ألا يعدوا في أهل الإسلام" (1).
وفي مخالفة المعتزلة للإجماع يقول الكاساني: "ومنها - أي من نواقض الوضوء - النوم مضطجعًا في الصلاة أو في غيرها بلا خلاف بين الفقهاء، وحكي عن النظّام أنه ليس بحدث، ولا عبرة بخلافه لمخالفته الإجماع، وخروجه عن أهل الاجتهاد"(2).
ويقول النووي: "وحكى أصحابنا عن الشيعة أن تقديم اليمنى واجب، لكن الشيعة لا يعتد بهم في الإجماع"(3)، وقال في موضع آخر، في مسألة المسح على الخفين:"وإنما أنكرته الشيعة والخوارج، ولا يعتد بخلافهم"(4).
وهو لا يعتد بالمتكلمين أيضًا، يقول:"ولكن المتكلمين لا يعتد بهم في الإجماع والخلاف، على المذهب الصحيح، الذي عليه جمهور أهل الأصول، من أصحابنا وغيرهم، لا سيما في المسائل الفقهيات"(5).
ويقول ابن عابدين عن الشيعة: "ولا عبرة بخلاف الرافضة"(6).
• دليل القول الأول:
1 -
قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].
• وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى جعل هذه الأمة شهداء على الناس وحجة عليهم، لكونهم وسطًا، والوسط هو العدل، والفاسق ببدعة أو معصية ليس كذلك، فلا يعتد بهم في الإجماع (7).
2 -
قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)} [النساء: 115].
• وجه الدلالة: أن سبيل أهل الضلال والبدعة ليس سبيل المؤمنين، فلم يجز أن يكون سبيلهم معتبرًا، وهو خارج عن سبيل المؤمنين (8).
(1)"المحلى"(1/ 380).
(2)
"البدائع"(1/ 30).
(3)
"المجموع"(1/ 417)، وانظر:(1/ 446)، (9/ 90)، وانظر:"نيل الأوطار"(1/ 215).
(4)
"شرح مسلم"(3/ 164).
(5)
"المجموع"(2/ 576).
(6)
"حاشية ابن عابدين"(1/ 265)، ونحو هذه العبارة قالها ابن نجيم (1/ 14).
(7)
"العدة"(4/ 1140)، "روضة الناظر"(2/ 458).
(8)
"العدة"(4/ 1140).
• دليل القول الثاني:
1 -
قوله تعال: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115].
• وجه الدلالة: أن المجتهد المبتدع داخل في قوله: {الْمُؤْمِنِينَ} ؛ لكونه من المسلمين المؤمنين، ولو فسق ببدعته، فلم يجز انعقاد الإجماع دونه (1).
2 -
قوله عليه الصلاة والسلام: "لا تجتمع أمتي على ضلالة"(2).
• وجه الدلالة: أن المجتهد المبتدع داخل في الأمة، ولا يجوز انعقاد الإجماع دونه ما دام مسلمًا (3).
والأقرب -واللَّه تعالى أعلم- هو الجمع بين القولين، وهو أن قول المبتدعة فيما خالفوا فيه أهل السنة من أقوال في الأصول غير معتبر، وكذا الفروع المبنية على بدعتهم في الأصول، وإلا انهدم الإسلام كله بحجة اعتبار قولهم.
أما أقوالهم التي هي غير مبنية على خلافهم العقائدي لأهل السنة والحق؛ فإنهم يعتبرون من جملة الأمة، ويعتبر قولهم في ذلك، واللَّه تعالى أعلم (4).
وبهذا جمعنا بين أدلة الفريقين، فالأدلة الدالة على عدم اعتبار أقوالهم؛ لبدعتهم أو فسقهم بالبدعة، نخرج بها قولهم في بِدَعِهم، والأدلة الدالة على اعتبار قولهم؛ لكونهم من الأمة، ندخل بها قولهم في غير بِدَعِهم، واللَّه تعالى أعلم.
أما الشيعة والخوارج الغلاة الذين يكفرون الصحابة، فإنه لا عبرة بأقوالهم مطلقًا، وذلك لمخالفتهم لأصل الإسلام، وذلك أنهم لا يؤمنون بما نقل من السنة النبوية عن طريق الصحابة رضي الله عنهم، فالمخالفة هنا هي في أصل الإسلام، ومنهجهم في الفقه مختلف تمامًا عن أهل السنة، فهو يختلف في الأصول والفروع، وفي منهج التلقي والاتباع، واللَّه تعالى أعلم.
* * *
(1)"روضة الناظر"(2/ 458).
(2)
سبق تخريجه.
(3)
"العدة"(4/ 1141)، "روضة الناظر"(2/ 459).
(4)
وانظر: "الموافقات" للشاطبي (5/ 221).