الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حجية الإجماع جاءت عامة، ولم تأتِ خاصة بعصر دون عصر.
3 -
أن هناك عددًا من التابعين كانوا في عصر الصحابة بلغوا رتبة الاجتهاد، وكانت أقوالهم معتبرة مع أقوال الصحابة (1).
المطلب الثاني: الإجماع السكوتي وحجيته:
• الإجماع السكوتي هو: أن يقول بعض المجتهدين قولًا، أو يعمل عملًا في مسألة اجتهادية، قبل استقرار المذاهب، ويسكت باقي المجتهدين عن إبداء الرأي بالموافقة، أو المخالفة، بعد علمهم بهذا الرأي، وقد مضت مدة التأمل والنظر في العادة (2).
ويدخل فيه الإجماع المبني على الاستقراء، كأن تُستقرأ أقوال العلماء في مسألة، فلا يُعلم فيها خلاف (3).
• ويلاحظ في هذا التعريف أنه اشتمل على عدد من الشروط التي إن وجدت سمي إجماعًا سكوتيًّا، وإن انتفت فقد انتفت التسمية، وهذه الشروط (4):
1 -
أن يظهر القول وينتشر حتى لا يخفى.
2 -
أن يكون القول أو الفعل صدر في مسألة اجتهادية مما يدخله التكليف، أما غيرها فلا يصدق عليه اسم الإجماع السكوتي، كأن يوصف فلان بأنه أفضل من فلان، ويسكت من سمعه، فإنه لا حاجة إلى الموافقة أو المخالفة.
3 -
ألا يصاحب السكوت علامة تدل على الرضا، فإنه بمنزلة الإجماع الصريح عندئذٍ، كأنه قال: رضينا بهذا القول. وكذلك ألا يصاحبه علامة أو قرينة تدل على
(1) فستأتي مسألة عن حكم خلاف التابعي إذا أدرك الصحابة، وكان من أهل الاجتهاد.
(2)
"كشف الأسرار"(3/ 339)، و"مسلم الثبوت"(2/ 332)، و"شرح العضد"(2/ 37)، و"شرح تنقيح الفصول"(ص 324)، و"البحر المحيط"(4/ 494)، و"البرهان"(1/ 447)، و"شرح الكوكب المنير"(2/ 253)، و"الواضح في أصول الفقه"(5/ 201).
(3)
"التحرير"(3/ 346)، و"شرح الكوكب المنير"(2/ 253).
(4)
انظر في ذلك: "كشف الأسرار"(3/ 339)، و"البحر المحيط"(4/ 503)، و"شرح الكوكب المنير"(2/ 253)، و"المعتمد"(2/ 66).
المخالفة، فإنه بمنزلة المخالفة الصريحة، والإجماع لا يتحقق مع المخالفة.
4 -
أن يكون السكوت قبل استقرار المذاهب؛ لأن الساكت يمكن أن يكون سكوته بناءً على معرفة حكم هذه المسألة في المذهب، فلا حاجة لإبداء الرأي في ذلك؛ كأن يسكت شافعي عن قول لحنفي، وقد يكون الخلاف معلومًا في المذهب.
5 -
مضي مدة كافية للتأمل والنظر في حكم الحادثة، حتى ينقطع الاحتمال أن السكوت كان بعد مدة حدث فيها تأمل ونظر في حكم المسألة.
• حجية الإجماع السكوتي: اختلف العلماء في حجية الإجماع السكوتي على مذاهب كثيرة، ذكر الزركشي (1) أنها ثلاثة عشر مذهبًا (2)، والشوكاني اثنا عشر مذهبًا (3)، وابن قدامة ثلاثة مذاهب (4)، والآمدي أربعة مذاهب (5). أذكر منها أشهرها؛ وهي:
القول الأول: أن الإجماع السكوتي حجة وإجماع، وهو قول أكثر الحنفية (6)، وأكثر المالكية (7)، وأكثر الشافعية (8)، والحنابلة (9)، والجبائي (10) من المعتزلة (11). ويمكن أن يوصف هذا القول بأنه قول الجمهور.
• أدلة هذا القول:
1 -
لو شرط لانعقاد الإجماع التنصيص من كل واحد من العلماء لأدى إلى أن لا ينعقد إجماع أبدًا؛ لتعذر اجتماع أهل العصر على قول يسمع
(1) هو بدر الدين أبو عبد اللَّه محمد بن بهادر المصري، الشافعي، كان فقيهًا، أصوليًّا، أديبًا، فاضلًا في جميع ذلك، درّس وأفتى، وأخذ عن الإسنوي، والبلقيني، رحل إلى حلب، وسمع الحديث في دمشق وغيرها، توفي سنة (794 هـ). انظر في ترجمته:"طبقات ابن قاضي شهبة"(2/ 319)، و"الدرر الكامنة"(3/ 397).
(2)
"البحر المحيط"(4/ 504).
(3)
"إرشاد الفحول"(ص 153).
(4)
"روضة الناظر"(ص 145).
(5)
"الإحكام"(1/ 312).
(6)
"كشف الأسرار"(3/ 340)، و"أصول السرخسي"(1/ 303).
(7)
"شرح العضد"(2/ 37)، و"شرح تنقيح الفصول"(ص 324).
(8)
"التبصرة"(ص 391)، و"الإحكام" للآمدي (1/ 312).
(9)
"روضة الناظر"(ص 145)، و"الواضح في أصول الفقه"(5/ 201).
(10)
هو أبو علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي، البصري، المتكلم، رأس المعتزلة وشيخهم، وأبو شيخ المعتزلة من بعده: أبو هاشم، من مصنفاته:"تفسير القرآن"، و"متشابه القرآن"، وهي من أشهر ما صنّف، توفي سنة (303 هـ). انظر في ترجمته:"البداية والنهاية"(11/ 106)، و"شذرات الذهب"(2/ 241).
(11)
"المعتمد"(2/ 66)، و"الإحكام" للآمدي (1/ 312).
منهم جميعًا (1).
2 -
أنه لما كان القول المنتشر مع السكوت من الباقين إجماعًا صحيحًا في مسائل الاعتقاد، كان إجماعًا في الفروع، لمعنى جامع بينهما، وهو أن الحق واحد (2).
3 -
أن السكوت من بعض المجمعين على حكم شرعي يُعد تقريرًا منهم لهذا الحكم؛ قياسًا على تقرير النبي صلى الله عليه وسلم المعتد به في الأحكام الشرعية (3).
4 -
أن التابعين كانوا إذا أشكل عليهم مسألة، فنُقل إليهم قول صحابي منتشر وسكوت الباقين كانوا لا يجوزون العدول عنه، فهو إجماع منهم على أنه حجة (4).
القول الثاني: أن الإجماع السكوتي ليس حجة ولا إجماعًا. وهو قول عيسى بن أبان (5) من الحنفية (6)، والإمام الشافعي في الجديد (7)، وقال به بعض الشافعية؛ كالجويني (8)(9)، والغزالي (10)، وداود الظاهري، وابنه محمد (11).
• أدلة هذا القول:
1 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي -قال ابن سيرين: سماها أبو هريرة، ولكن نسيت أنا- قال: فصلّى بنا ركعتين ثم سلم، فقام إلى خشبة معروضة في المسجد، فاتكأ عليها كأنه غضبان، ووضع يده اليمنى على اليسرى، وشبك بين أصابعه، ووضع خده الأيمن على ظهر كفه اليسرى، وخرجت السرعان من أبواب المسجد؛ فقالوا: قصرت الصلاة، وفي القوم
(1)"كشف الأسرار"(3/ 342)، و"روضة الناظر"(ص 147).
(2)
"كشف الأسرار"(3/ 343).
(3)
"العدة"(4/ 1172)، و"شرح الكوكب المنير"(2/ 255).
(4)
"روضة الناظر"(ص 147).
(5)
هو أبو موسى عيسى بن أبان بن صدق، أحد الأئمة الأعلام، أخذ عن محمد بن الحسن، وصَحِبه، وولي قضاء البصرة، وكان ذكيًّا، سخيًا، واسع العلم، صنّف كتاب "الحجة الصغير"، وكتاب "الحجة الكبير"، توفي سنة (221 هـ). انظر في ترجمته:"تاج التراجم"(ص 170)، و"الجواهر المضية"(2/ 678).
(6)
"أصول السرخسي"(1/ 303)، "التقرير والتحبير"(3/ 135).
(7)
"الإحكام" للآمدي (1/ 312)، و"المنخول"(ص 318).
(8)
"التلخيص"(3/ 98).
(9)
هو أبو المعالي إمام الحرمين عبد الملك بن يوسف بن محمد بن عبد اللَّه الجويني، رئيس الشافعية في نيسابور، أخذ عن والده، وأتى على جميع مصنفاته، ثم جلس مكان أبيه بعد موته وله عشرون سنة، درّس في نظامية نيسابور نحو ثلاثين سنة، توفي سنة (478 هـ). انظر في ترجمته:"طبقات الشافعية" للسبكي (3/ 159)، و"طبقات ابن قاضي شهبة"(1/ 262).
(10)
"المنخول"(ص 318).
(11)
"الإحكام" لابن حزم (4/ 598).
أبو بكر وعمر، فهابا أن يكلماه، وفي القوم رجل في يديه طول؛ يقال له ذو اليدين (1)، قال: يا رسول اللَّه، أنسيت، أم قصرت الصلاة؟ قال:"لم أنس، ولم تقصر"، فقال:"أكما يقول ذو اليدين؟ " فقالوا: نعم. فتقدم، فصلى ما ترك، ثم سلم، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه، وكبر، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه وكبر، ثم سلم فيقول: نبئت أن عمران بن حصين (2) قال: ثم سلَّم (3).
• وجه الدلالة: أن السكوت لو كان حجة ما استنطق النبي صلى الله عليه وسلم الناس بصدق ما يقول ذو اليدين (4).
2 -
أن السكوت كما يكون للموافقة، فقد يكون للمهابة من إظهار الخلاف، أو أنه لم يجتهد بعد في حكم الواقعة، أو اجتهد ولم يؤده اجتهاده إلى شيء، أو أداه لشيء مخالف، فلم يظهره؛ للتروي، أو أن القائل مجتهد، وكل مجتهد مصيب، ومع هذه الاحتمالات فلا يكون سكوت من سكت مع انتشار قول المجتهد إجماعًا أو حجة (5).
القول الثالث: أن الإجماع السكوتي حجة، وليس إجماعًا (6). وهو قول الكرخي (7) من الحنفية (8)، . . . . . . .
(1) ذو اليدين رجل من بني سليم يقال له: الخرباق، وقيل: يقال له: ذو الشمالين، وفرّق بينهما ابن حجر وابن عبد البر، فإن ذا الشمالين استشهد في بدر، وذو اليدين عاش حتى روى عنه المتأخرون من التابعين. انظر في ترجمته:"الاستيعاب"(2/ 475)، و"الإصابة"(2/ 359).
(2)
هو أبو نجيد عمران بن حصين الخزاعي، أسلم عام خيبر، وغزا مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوات، بعثه عمر إلى البصرة ليفقه أهلها، وكان من فضلاء الصحابة، استقضاه عبد اللَّه بن عامر على البصرة، وكان مجاب الدعوة، ولم يشهد الفتنة، توفي بالبصرة سنة (52 هـ). انظر في ترجمته:"أسد الغابة"(4/ 269)، و"الإصابة"(4/ 584).
(3)
أخرجه البخاري (482)(1/ 140)، ومسلم (572)"شرح النووي"(5/ 59).
(4)
"كشف الأسرار"(3/ 341).
(5)
"كشف الأسرار"(3/ 341)، و"الإحكام" للآمدي (1/ 313).
(6)
قال الشوكاني: ولم يصر أحد إلى عكس هذا القول، يعني أنه إجماع وليس حجة. انظر:"إرشاد الفحول"(ص 153).
(7)
هو أبو الحسن عبيد اللَّه بن الحسين بن دلَّال بن دلهم الكرخي، انتهت إليه رئاسة الحنفية، أخذ عنه الجصاص. والدامغاني، وأبو علي الشاشي، كان كثير العبادة، صبورًا على الفقر والحاجة، واسع العلم والرواية، توفي سنة (340 هـ). انظر في ترجمته:"الجواهر المضية"(2/ 496)، و"تاج التراجم"(ص 141).
(8)
"كشف الأسرار"(3/ 340).